“لا خوف بعد اليوم”: التوثيق قبل أوانه؟
| اكتسب شريط “لا خوف بعد اليوم” لمراد بن الشيخ بعض الشهرة لمشاركته في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي. ورغم أنّ هذه المشاركة لم تكلّل بالحصول على جوائز، بل أنّها لم تندرج في إطار المسابقة الرسميّة (كانت في إطار الحصص الخاصة للمهرجان، وإن كان الشريط تسابق للحصول على جائزة الكاميرا الذهبيّة وهي جائزة تخصّص للمواهب الشابة) إلا أنّها كانت فيما يبدو مبعث فخر كبير لأصحاب الشريط بما أنّها أدرجت في الملصق الرسمي.
لعلّ من أبرز المآخذ على هذا الشريط كونه أراد أن يحيط بكلّ شيء فجاء أشبه بـ”شكشوكة” لما حصل يوم 14 جانفي وما بعد 14 جانفي. تعرّض الشريط إلى شهادات مباشرة بعضها قدّمته شخصيّات معروفة (راضية النصراوي، حمّة الهمّامي، لينا بن مهنّي، الصادق بن مهنّي…) وبعضها قدّمه أشخاص أقلّ شهرة أو اختاروا البقاء في الظلّ، كما تمّ تصوير بعض الأحداث على عين المكان (نشاط المتطوّعين للحراسة، اعتصام القصبة…) وتمّت معالجة بعض المسائل بطريقة ” فنيّة” (من خلال الأستاذ المجهول الّذي يقوم بقصّ ولصق الصور). أظنّ أنّ كلا من هذه المسائل كان يستحقّ شريطا خاصا، أمّا أن يقع التطرّق إليها جميعا في شريط واحد فذلك يؤدّي إلى الوقوع في السطحيّة في معالجة بعضها. كان يمكن الاكتفاء مثلا بقصّة الأستاذ المجهول ودور الخوف في الانهيار الذي أصابه مع عرض موجز لقصّة كلّ صورة يقوم بإلصاقها، إلا أنّ قصّة هذا الأستاذ لم يتمّ التركيز عليها بالنحو الكافي وبدت في أغلب الأحيان مقحمة إقحاما في ثنايا الشريط. وربّما كانت هذه “التخمة” هي السبب في التقطّع في نسق الشريط، إذ يتمّ المرور أحيانا من مشهد إلى مشهد آخر لا تربطه به أدنى علاقة (اللهمّ كونهما صوّرا في تونس بعد 14 جانفي !). غير أنّ التواصل كان جيّدا في بعض المقاطع الأخرى، كما هو الحال في المراوحة بين مقتطفات من الخطاب الأخير ما قبل “الفصعة” وتعليق حمّة الهمّامي على نفس الخطاب (وحتّى الموسيقى المرافقة كانت ملائمة للسياق).
كما احتوى الشريط على أخطاء جاءت خاصة على لسان الصحفي الّذي يقدّم شهادته. فلم أفهم كيف تعلّم بن علي القمع في بولونيا على يدي تشاوشيسكو الروماني (إلا إذا كان تشاوشيسكو تحوّل خصّيصا إلى بولونيا للإشراف على تكوين في تقنيات القمع !) ولا من هو وزير الداخليّة الذي قال أنّ شعبنا غير جدير بالديمقراطيّة أو كيف يجمع بن علي بين التخابر مع القذافي في أحداث قفصة وإطلاق النار على المتمرّدين الّذين أرسلهم هذا الأخير. وإضافة إلى هذه الأخطاء، جاءت بعض اللقطات بادية الافتعال، جعلت الوثائقي ينزلق إلى السينمائي، بل يصبح أحيانا أشبه بتصوير إشهار لمنتج تجاري، وأبرز هذه اللقطات المفتعلة ذهاب الأبوين مع ولدهما إلى المركز الثقافي لمدينة تونس (التّي ذكّرتني، لسبب ما، بالإشهار الشهير “بابا عزيزي لوين ماشين؟”) وبدرجة أقلّ تكسير السيّدة النصراوي لغصن من نبتة. في حين جاءت بعض اللقطات الأخرى عفويّة ومؤثّرة كحديث السيّدة النصراوي عن المرحوم عبد الرحمان الهيلة.
أمّا عن غياب الخوف، فأجد أنّ هناك مفارقة بين عنوان الشريط وجزء ممّا جاء فيه. كيف يغيب الخوف والأستاذ المجهول يخاف من إظهار وجهه أو ذكر إسمه؟ كيف يغيب الخوف ونفس الأستاذ يتحدّث عن ضرورة إرساء النظام ممّا يعني الخوف من الفوضى؟ كيف يغيب الخوف مع الحديث عن تحريم الإسلام للفنّ والنقاشات حول دخول فلان أو فلانة للجنّة من عدمه، وهو ما يمكن أن يوحي أنّ الإسلاميين هم الخوف القادم (وهو ما يمكن أن لا ينظر إليه ببراءة، خصوصا مع الخلفيّة اليساريّة لأغلب من تحدّثوا في الشريط)؟ ثمّ أنّ الشهادات قدّمها أشخاص لم يخافوا في العهد السابق وناضلوا بقوّة ضدّ النظام، وبالتالي لا تصحّ عليهم مقولة “لا خوف بعد اليوم”، لأنّهم لم يعرفوا الخوف حتّى قبل اليوم. أ لم يكن من الأجدى التعرّض لمن حرّرتهم الثورة من الخوف، أو اختيار عنوان آخر؟
وبغضّ النظر عن كلّ هذه التفاصيل، تطرح مسألة جدوى انتاج شريط وثائقي عن أحداث عاشها الجميع بكلّ تفاصيلها منذ فترة قصيرة. ربّما تتبيّن هذه الجدوى بالنسبة للمشاهدين الأجانب، أمّا أن يعرض شريط يتعرّض لهذه الأحداث في قاعات السينما التونسيّة فهذا يمكن أن يبرّر قلّة الإقبال عليه (لم يتجاوز عدد الحاضرين في القاعة الـ 12 يوم الجمعة الماضي).