بين من ينتفض ومن يجني ثمار الانتفاضة : قراءة في كتاب “المغيبون في تاريخ تونس الاجتماعي”

المصدرceresbookshop.com

 

بقلم: كوثر الردّادي

تأثّث هذا الكتاب الصادر عن المجمع التونسي للعلوم والآداب “بيت الحكمة” 1999 عبر جهد جماعي متكامل تضافرت فيه أعمال عدد من الأكاديميين والباحثين باختصاصاتهم المتنوّعة بتنسيق من الهادي التيمومي، وتندرج ضمن العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة على غرار التاريخ، والآداب، والتراث، والفنون وعلم الاجتماع.

احتوى الأثر على ستّ عشرة دراسة مقسّمة تاريخيا إلى جزئين: شمل الأول حقبة ما قبل دخول الحماية الفرنسّية إلى تونس، ودراسات القسم الثاني انطلقت من تلك الفترة أي 1881.

ما يميّز هذه الدراسات هو اعتمادها على مقاربة بديلة نفضت الغبار عن “المهمّشين” تاريخيا من طبقات وسطى وشرائح اجتماعيّة شعبية واسعة وضعتها تحت مجهر الدراسة والتَأْريخ لنضالاتها ودورها الاجتماعي المفصلي في تاريخ تونس القديم والحديث.

ولئن أُفْرِدَت بعض الدراسات ضمن هذا الكتاب للاهتمام بحركات تلك القوى المجتمعيّة التي تجاوزتها أقلام المؤرخين أو حادت عنها، وقد يكون مردّ ذلك لنقصٍ في المعلومات وصعوبة جمعها أو لطمسِ الحقائق وتحريف التاريخ من باب الولاء السياسي والديني، فقد أشارت معظمها (أي الدراسات)، على اختلاف محاورها الكبرى كالبحث في أنماط العيش والذهنيات وأشكال الوعي، إلى محوريّة الفاعل المغيّب أو “الصامت” في إنتاج ودفع السيرورة النضاليّة والاحتجاجيّة في تونس.

وهو ما أكّده الهادي التيمومي في تقديمه لهذا الكتاب بقوله ” إنّ معرفتنا لبعض جوانب تاريخ الشرائح الاجتماعيّة المهيمن عليها… لا يمكن أن يتمّ إلّا عبر غربلة نقديّة شاقة ومريرة لما تركته الشرائح الاجتماعية المهيمنة من تراث يتصل بتاريخها هي دون سِواها، وممّا لا شكّ فيه أنّ ما نجده في هذا التراث عن الشرائح الشعبيّة والوسطى مُجانب للصواب لأنّ نخب السلطة والثروة والدين ناصبت هذه الشرائح الاجتماعيّة العداء واعتبرتها أناسًا جهلة محافظين، بل متهمّجين بل سفهاء يلبّون كل صوت داعٍ للفتنة والفساد “.

قُسِمت الانتفاضات و”الاحتجاجات الشعبيّة” حسب هذا المرجع إلى سياسيّة واقتصاديّة ودينيّة مع غلبة الطابع الاجتماعي البحت المشترك بينها؛ إذ اتجهت جميعها إلى محاولة تحسين أوضاع من هم وراء صفحات وكواليس التاريخ المكتوب والمتناقل لتحريرهم من بوتقة المحتكرين للثروة والسلطة ومَنْ أثقلوهم بالضرائب، ذلك أنّ تونس كانت على مرِّ تاريخها، ولازالت، بلد جباية بامتياز.

لعلّ أهم الدراسات ضمن هذا الكتاب، من حيث احتواءها على كمٍّ محترم من المعلومات التاريخيّة حول الفئات الفاعلة في الحراك المجتمعي على مرّ تاريخ تونس، دراسة أستاذ التاريخ محمد حسن “حركات العامة بمدن إفريقيّة في العهد الحفصي” التي كشفت لنا الدور المهمّ للمهمّشين سواء من هم داخل دائرة النشاط كصغار التجّار والفلّاحين والحرفيين، أو المتواجدين خارج الدورة الاقتصادية من عاطلين عن العمل ومسلوبين للحريّة (الرقيق). وقد كان البدوي أو الفاعل المحلّي الريفي الأبرز حضورا في تلك التحرّكات ذات الطابع العفوي والبسيط أحيانا (نظرا لغياب التنظيم والقيادة)؛ فـأولى بوادر المقاومة الشعبيّة انطلقت من صفوف المزارعين ثمّ وجِّهت نحو الحواضر أين التحمت بانتفاضات واحتجاجات التجّار والحرفيين لتتمكّن من تكوين أولى التحالفات العمّالية أو النقابات بالمفهوم الحديث، وهي أحد أشكال النضال، وكانت في شكل رابطات مثّلت خطوات أولى في محاولة السير نحو نمط الاقتصاد العالمي (الرأسماليّة).

” لقد رأينا أنّ أهل البادية من الأعراب كان لهم قصب السبق في عديد الحركات السياسية مثل التصدي لحملة أبي الحسن الحريني والسياسة المستبدّة لبني حفص وكثيرا ما كانت تحرّكاتهم منطلقا للانتفاضات العامة بالمدن”.

يُبرِزُ ذلك العلاقة الجدليّة بين الريف/المدينة وبشكلٍ أعمّ المركز/الأطراف (والتي مازالت قائمة لليوم).

أمّا دراسة  الهادي التيمومي المعنونة “صغار الكسبة في البلاد التونسيّة: الحرفيين والتجّار (العشرينات- ستينات القرن العشرين)“، فقد سلّطت الضوء على دور الشرائح الاجتماعيّة الوسطى في ظل انسحاب الطبقة العليا (البرجوازيّة) وضعف الطبقات الدنيا أو السفلى، ممّا جعلها تتولى مهمّة قيادة التحرّكات ونخصّ بالذكر الطلبة والمثقفين الذين انتظموا بمعيّة فئات أخرى من العمّال  ضمن هيكل واحد وهو الحزب الحرّ الدستوري بشقيه القديم والجديد ودوره الرئيس في الحركة الوطنية منذ 1920 إلى جانب الهياكل النقابيّة، وأبرزها الاتحاد العام التونسي للشغل، التي دعمت الحزب عن طريق الاستجابة لمختلف التحرّكات التي دعا إليها والتي لا يمكن إنجاحها دون مشتركة القوى العاملة وأهمها الإضرابات العامّة .

بعد الاستقلال وُزِعت المكاسب أو “الغنائم” إن صحّ التعبير حسب الولاءات وبطرق غير متساوية عمّقت الفوارق الاجتماعية وزادت في حدّتها بل وأجهضت الحلم الوردي للاستقلال إذ ” تحصّل عدد من قادة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة وبعض الحرفيين والتجار المنتمين إلى الساحل –والذين ناضلوا في صفوف الحزب الحرّ الجديد أو الذين لهم قرابة عائليّة أو صداقة مع أصحاب النفوذ- على بعض الامتيازات مثل رخص التوريد والتصدير والقروض”.

يؤكّد هذا الأثر/ المرجع على أنّه، تاريخيًا، كثيرا ما يقع الالتفاف على نضالات من وقفوا ضد قوى الاستغلال والسلب، ومن قالوا “لا” للزحف السّلطوي؛ ليقع تحويل وجهة الثورات والانتفاضات التي تقوم بها “العامة” لصالح رموز جديدة للاستبداد وتُطوى تحرّكات العوام والمهمّشين والمُغيّبين عنْوةً في ثنايا التاريخ دون أن ترى نور الاعتراف.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد السابع، سبتمبر 2021، ص.21

للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf7

Please follow and like us:
One Comment

اترك رد

Verified by MonsterInsights