الاستشراق النسائي المضاد (الجزء الأول)

استعادة الجسد الأنثوي المسلوب عبر مفارقات الصورة الفوتوغرافية المعاصرة. للا السعيدي نموذجا (الجزء الأوّل)

بقلم: سلوى مباركة علوي

يعود بنا الجدل الفكري بين الشرق والغرب حول حضور المرأة في المجتمعات العربية وحقوق المرأة في الإسلام إلى القرن التاسع عشر، أين عانت المرأة العربية من التهميش والإقصاء والنفي من الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وسلبت كل حقوقها ومنعت من ممارسة أبسط حرياتها في ظل هيمنة السلطة الذكورية والخطاب الأبوي المتزمت.

وحينها لم يكن الاستشراق بريئا عند دراسته للجسد الأنثوي، فيكشف تاريخه أنه كان الذارع الفكرية للاستعمار، إذ قام المستشرقون ببناء سد منيع من المعرفة المغلوطة في الذهن الغربي، أعاقت فهم الجسد الأنثوي وجعلت بعض الغربيين يعرف الجسد الأنثوي تعريفا مغلوطا.

لم تتواصل النزعة الاستشراقية في الفن المعاصر، حيث بلور العديد من الفنانين العرب رؤى شخصية للجسد الأنثوي من خلال صياغته في سياقات اجتماعية مغايرة للنظرة الاستشراقية الاستعمارية، وتبعا لممكنات الفن المعاصر وانفتاحاته وتعدديته الدلالية وبعده الاجتماعي والسياسي المكشوف أو الضمني، سوف يمنح للفنانة العربية المعاصرة الفرصة الملائمة لاستعادة الجسد الأنثوي المسلوب عير مفارقات الصورة الفوتوغرافية، وجعله وسيطا تشكيليا ومسرحا فنيا لصراع الرؤى والمنظومات. وكأن تحرير الجسد الأنثوي يمر أولا، عبر تحرير تاريخه وإعادة بلورته انطلاقا من ضرورات الحاضر. وذلك ما قامت به الفنانة المغربية للا السعيدي فكريا وفنيا من خلال صور فوتوغرافية معاصرة عبر رؤى متقاربة وبلمسات متباينة.

 تنوع الاستشراق النسائي المضاد وتفاعل مع ما قدمته النماذج التكنولوجية والتقنية من رؤى جديدة للتناول التشكيلي. وفتحت الأبواب أمام الإشكاليات والتساؤلات حول التأمل والقبول والرفض والتأويل والتمثيل والتقديم، وأصبح التمرد والنقد من السمات التي تأسّس عليها التفاعل مع التجارب الفنية، وسنرصد ذلك مبيّنين تداعيات الممارسة الفوتوغرافية المعاصرة.

ونزعت الصورة الفوتوغرافية المعاصرة إلى تصوير مختلف التحولات الأنطولوجية وتوثيقها، التي ألمّت بالإجحاف والاضطهاد الذي تعاني منه المرأة/الجسد، وهي مجموعة تغيرات اجتماعية وثقافية وفنية هامة لم يكن بإمكان الفوتوغرافيا أن تظل بمنأى عنها، بحيث غدت تهتم بهواجسها على حساب قضايا أخرى.

وفي هذا الصدد سنتبيّن في هذا البحث المقومات الفكرية والقيم التعبيرية والجمالية، لنموذج من الاستشراق المغربي النسائي المضاد، وسنركز على تجربة فوتوغرافية معاصرة ومبتكرة من المغرب (للفنانة للا السعيدي)، وظفت الخط المغربي لاستعادة الجسد الأنثوي المسلوب.

1– الاستشراق النسائي المضاد في استعادة الجسد الأنثوي المسلوب

يعد الاستشراق المضاد دراسة نقدية للاستشراق، للتحرر من أحكامه ونتائجه، والتحرر من مناهجه وطرق بحثه، وتمثل هذه الدراسة النقدية التحول من هجوم الاستشراق ونقده والتمرد على أحكامه، وقد قامت بذلك فنانات عربيات دفاعا عن الإسلام وعن الثقافة والهوية العربية، ومنهن الفنانة المغربية للا السعيدي، والتي تعتبر من رائدات الاستشراق النسائي المضاد.

يمثل الاستشراق النسائي المضاد دفاعا عن الأصالة ضد التبعية، وعن الإبداع ضد النقل، وعن الوحي ضد التاريخ، وعن التسامح ضد التعصب، وعن الإسلام ضد الحرب، وعن العقلانية ضد الخرافة، وعن الواقع ضد الأسطورة، وعن الأُممية ضد المذهبية والطائفية والعرقية… لكن حدث انتقال من الاستشراق التقليدي الغربي إلى الاستشراق النسائي المضاد الجديد القائم على التجربة والمعايشة وتغيير الاهتمامات من التاريخ القديم إلى الحاضر الراهن.

سعت الفنانة المغربية للا السعيدي إلى التأليف بين مختلف المكونات التشكيلية، الخط، اللون، الشكل، الحجم، والمادة والوسيط الفني الذي يمثل حاملا في فضاء تشكيلي. يمزج بين الحديث والمعاصر في الصورة الفوتوغرافية التي أثثت المشهد التشكيلي النسائي الجديد.

صورة رقم 01: جون أوجيست دومينيك، الأوداليسكا الكبرى، 88,9*162,56، 1814، باريس.
 Jean Auguste Dominique : La grande odalisque, 88,9*162,56,  1814, Paris.
صورة رقم 01: جون أوجيست دومينيك، الأوداليسكا الكبرى، 88,9*162,56، 1814، باريس. Jean Auguste Dominique : La grande odalisque, 88,9*162,56, 1814, Paris.

وفي إحدى لوحات للا السعيدي المنجزة سنة 2008 والمعنونة “نساء المغرب: الأوداليسكا الكبرى 2#”(« Les femmes du Maroc: la grande odalisque #2 »). تعبّر الفنانة المغربية عن الصراع الفني القائم بين الشرق والغرب بطريقة مبنية على جملة من المفارقات الحضارية. وتستجيب للتصور الغربي للمرأة المسلمة من خلال عدسة الاستشراق في القرن التاسع عشر. حيث تعامل الفنانون الأوروبيون مع ثقافات الشرق الأدنى على أنها غنية بالألوان وغريبة. ويتم تقديم النساء المسلمات كأعضاء سلبيات جنسيا في الحريم. كما جاء في صورة “الأوداليسكا لسنة 1814” للفرنسي جون أوجيست دومينيك.

والتي أخذت منها للا السعيدي صورة توّلد أوداليسكا محظية، مغطاة برؤية بصرية تشكيلية. وليدة إبداع استشراقي نسائي مضاد ومغربي معاصر يسمو بالفن العربي في مفارقة جدلية بين التقنية الغربية المضيقة، والأسلوب الفني المغربي المفتوح على واقع المرأة المغربية المسلمة. وهذا ما سنستشفه في أوداليسكا للا السعيدي. كما تبينه الصورة (رقم 02).

صورة رقم 02: للا السعيدي، نساء المغرب، الأوداليسكا الكبرى، 2#، 127*152,4 صم، 2008، نيويورك. 
Les femmes du Maroc: la grande odalisque, #2, 127*152,4cm, Edwynn Houk Gallery, New York, 2008.
صورة رقم 02: للا السعيدي، نساء المغرب، الأوداليسكا الكبرى، 2#، 127*152,4 صم، 2008، نيويورك.
Les femmes du Maroc: la grande odalisque, #2, 127*152,4cm, Edwynn Houk Gallery, New York, 2008.

عملت للا السعيدي على أوداليسكا مغطاة بنسيج أبيض، بدلا من عارية متكئة على الأريكة في فضاء بزخرفة هندسية مغربية تعود إلى الفن الإسلامي، ونظرتها مشبوهة أكثر من كونها جذابة، وكل سطح بما في ذلك جلدها مكتوب بالحناء بخط عربي. باعتبار الحناء رمز الفرحة والجمال في المجتمعات العربية.

إن استخدام الفنانة لفن الخط، وهو شكل من أشكال الفن الإسلامي المشحون دينيا والمخصص للرجال، يخلق إيقاعا وبيانا تشكيليا قويا، لأن المرأة الصامتة ترتدي الكلمات والأفكار التي لا يسمح لها مجتمعها بالتعبير عنها. وتثبيتا لعملها تقول: “في فني أود أن أقدم نفسي من خلال عدسات متعددة كفنانة، كمغربية… تقليدية، ليبرالية، كمسلمة، باختصار أدعو المشاهد لمقاومة الصورة النمطية [1]”.

يرّكز عملها الفوتوغرافي على تمثيل الجسد الأنثوي، وعلى وجه الخصوص تعقيد الرؤية الغربية لهوية المرأة في الدول العربية بنظرتها إلى امرأة بالغة متحررة. تعتمد على ذكرياتها الخاصة، عن فتاة مغربية صغيرة إنها تتساءل عن حاضرها من خلال ماضيها. يأخذ عملها “نساء المغرب”، شكل سلسلة تصوير فوتوغرافي. حيث تعمل بنفسها الخط المغربي بالحناء على العديد من الدعامات من أقمشة، وأجسام، وجدران، إنها تصور النساء اللواتي يشبهنها مغربيات مغتربات، يتميزن بتجاربهن في بلدهن الأصلي. ولكن أيضا من قبل أولئك الذين عاشوا في البلد الذي استقبلهم. في هذا الإنتاج التشكيلي تستخدم للا السعيدي مواد مرتبطة بالفن الإسلامي من خلال تضمينها في صور قريبة إلى حد ما من الفن الغربي.

حيث تستمد إلهامها التشكيلي بشكل خاص من الصور الاستشراقية الغربية في القرن التاسع عشر. فإذا كانت للا السعيدي تجرؤ على مثل هذه الاختلافات الأسلوبية التقنية، فهي دعوة المشاهدين إلى إعادة التفكير في الأساطير الاستشراقية من خلال مقاومة الصورة النمطية.

يمكن التعرف على الأسلوب التقني المعاصر لللا السعيدي بشكل خاص، من خلال الاستخدام المنهجي المبرر بصورة مرئية ذات بعد جمالي للخط المغربي. على الرغم من استخدامها شكلا من أشكال الكتابة، لا تسمح الفنانة بالضرورة للمشاهد بقراءتها. حتى المتكلمون بالعربية سيجدون صعوبة في فك رموز الكلمات، لأن الكلمات متراكبة ومتشابكة على بعضها وعلى الدعامات. وقبل أن نتعمق أكثر في الإنتاج التشكيلي لللا السعيدي. نعود إلى تاريخ الكتابة العربية مع المؤرخ الفرنسي أوليغ غرابار في كتابه “التفكير في الفن الإسلامي، جماليات الزخرفة”، حيث يقّر:

“مع التوسع المذهل للعالم العربي في القرن الثامن فقدت الكتابة اتجاهها إلى حد ما، ويمكن بعد ذلك قراءة القرءان وتفسيره بطرق مختلفة أصبح التواصل بين المقاطعات البعيدة مستحيلا، وللتغلب على هاتين المشكلتين انطلق إصلاح في القرن العاشر يهدف إلى توحيد الكتابة: خط المنسوب ثم ثبت النسب بين الحروف والكلمات. على مدى القرون التالية، استمرت الكتابة العربية في التطور قبل أن يتم تدوينها مرة أخرى من خلال إصلاح جديد في القرن الثالث عشر منذ تلك اللحظة، تم الاعتراف رسميا بسبعة أنماط وفقا لأوليغ غرابار، كان الغرض من هذه التفسيرات المختلفة للكتابة هو”تزيين النص وإضفاء صفة جمالية عليه[2].

 وهكذا سعى “الناسخون إلى إحداث توازن من خلال تغيير الحروف على سبيل المثال، نحو الأشكال النباتية (“الكوفي الزهري”) تصبح الكتابة حينئذ شكل من أشكال الفن [3]“.

ومن هذه اللحظة يمكننا الحديث عن الخط، خاصة لاستخدامه على الرق والورق، ولكن المثير للاهتمام استخدام للا السعيدي الكتابة على وسائط أخرى غير الرق والورق. في الواقع، منذ بدايات الفن الإسلامي تم لصق الكتابة على الجدران والأقمشة والسيراميك والأشياء البرنزية. تصعب القراءة أحيانا، وهذا ما يكشف عن وظيفة جديدة للكتابة في الفن الإسلامي. وفقا لأوليغ غرابار: “لم نعد نقرأ، بل ننظر[4]”، تصبح الكتابة غاية في حد ذاتها، أي تكون الكتابة بالخط المغربي بمثابة الوسيط بين الإنتاج التشكيلي والمشاهد. لم تعد الكتابة للقراءة بل أصبحت لغاية جمالية بصرية في الفن الإسلامي، تزويقية، ينظر إليها على أنها زخرفة إسلامية لا غير.       

وهكذا باختيارها الخط المغربي، تدرج للا السعيدي عملها التشكيلي كفنانة معاصرة، في الفن الإسلامي والثقافة الإسلامية على نطاق أوسع. لم يكن اختيار النصوص بشكل عشوائي، إنما هي مقتطفات من يوميات الفنانة التي تسترجع ذكرياتها كطفلة وكامرأة مغربية. وهذا الاختيار سيمكنها من إدراج قصتها الشخصية في تاريخ المجتمعات العربية. وتقربها من قصة النساء اللاتي تصورهن، لم تكن للفنانة أي دراية أو تدريب على فن الخط، بما أن هذا التخصص ظهر مؤخرا في مناهج مدارس الفن في المغرب. فقد طوّرت للا السعيدي أسلوبها التقني، وأشكالها الخاصة برؤية بصرية ذات بعد جمالي معاصر تطغى عليه اللمسة، والروح الفنية النسائية المغربية الموروثة من الفن الإسلامي والثقافة العربية. هي دعوة منها المشاهد للنظر لواقع الصورة الفوتوغرافية، المضاد والمفارق لكل الأشكال الفنية الاستشراقية. وهي بذلك إعادة نظر معرفية وتأويلية في النظرة الاستشراقية للجسد الأنثوي تجعل، من جهة، الفن الاستشراقي الفوتوغرافي يتقابل تاريخيا وبصريا مع الفوتوغرافيا الفنية المعاصرة. من جهة أخرى، من نظرة إبداعية، تفكّك لللا السعيدي الرؤى الاستشراقية للجسد الأنثوي المغربي والشرقي عامة، باعتمادها الوسيط التشكيلي والفوتوغرافيا الإنشائية والمشهدية. بَيْدَ أن البعد الأعمق في لوحتها الفنية يتمثل بالأساس في بناء نظرة نسوية ناقدة، ومفجرة لما بناه الغرب من رؤى فنية متزمتة غريبة متدنية لصورة المرأة الشرقية من خلال الجغرافيا الخيالية، وصورها في إضفاء الصفات الشرقية على الشرق. أين تحول الفضاء الفوتوغرافي إلى مسرح للعري، واستعراض مفاتن الجسد الأنثوي الشرقي. وهذا ما يؤكده المفكر والناقد الأدبي الأمريكي (من أصل عربي ولد في القدس في فلسطين 1935 وتوفي في أمريكا2003):

 “كإطلاق صفة “الشرقي” على كل ما يرى فيه  أبناء الغرب اختلافا عن الحضارة الغربية، والتذرع بهذه الصفة، أو التسمية، للقول بما يجافي الحقيقة والواقع من نسبة خصائص جوهرية أو عناصر إنسانية تمثل “جوهر” الشرق بإعتباها نقيضا للغرب”، وهو ما يسمى بالنظرة “الجوهرية”، أو المذهب “الجوهري ” (Essentialisme) ، وإدوارد سعيد يأتي بالأدلة القاطعة على أن هذه النظرة  تقوم على أسس علمية، لأنها لا تعمل حسابا للتاريخ والتطور وغيرهما من العوامل التي تتحكم في حياة الإنسان، كما يثبت أن من ورائها – إلى جانب الطمع الاستعماري والنظرة العنصرية وطلب السلطان – خوفا دفينا مما يطلق “الغرب” عليه صفة الشرقي أو يسميه “الشرق” وحسب، وهو خوف مركب- وفكرة “التركيب” أساسية في منهج إدوارد سعيدـ إذ يضم بقايا إحساس أبناء أوروبا بالجهل، وكل مجهود ذو خشية ورهبة، ويضم بقايا خوف أوروبا من تهديد “الشرق” الذي كان يتمثل يوما ما في الدولة العثمانية، والغرب يحاول القضاء على هذا الخوف الدفين (أي غير المعلن) أساسا بتزييف ما يعتبره مناقضا له، على نحو ما فعله حين اعتبر الإسلام ممثلا للشرق، وما فعله حين اعتبر العرب ممثلين للشرق لأنهم يعيشون في الشرق الأدنى، ويعتبر الارتكان إلى التقسيم الجغرافي وحده، دون أي اعتبارات إنسانية صادقة، جزءا من هذا التزييف [5]”.

وكل هذا يُقر بالتزييف الاستشراقي لكل موروث فني في الحضارة الإسلامية، رغبة منهم إلى طمس كل مظاهر التقدم والتطور العربي. وهو ما دفع للا السعيدي إلى التشكيك في مختلف هذه التصورات والممارسات التشكيلية المزيفة. وإخراجها في شكل فني جديد معاصر، يدحض الصورة الاستشراقية، ويقدم صورة حقيقية لواقع الفن الإسلامي.

تُحول الفنانة الأجساد الأنثوية المحاكية للأوداليسكا، إلى وسيط فني للوشم والكتابة. وهكذا يحتفي الجسد الأنثوي بالطابع الروحي والجانب الأّمثل والأفضل والأرقى. ويغدو جسدا متعاليا عن الرغبة والشهوة التي صورها المستشرقون. فالكتابة تغدو لباسا ثانيا، وكأن بللا السعيدي تريد إعادة هبة وستر ما قام بتعريته المستشرق الغربي، والحناء وشما لإضفاء طابع جمالي على الصورة الفوتوغرافية المعاصرة.

تسعى الفنانة التشكيلية للا السعيدي إلى أن تسلّب من الإرث الإستشراقي قيمته البصرية. المتمثلة في النظرة والموضوع في آن واحد، من خلال تغليف الجسد بالحناء والكتابة في مراوحة بين المرئي واللامرئي، الحجب والكشف. حيث يتخذ جسد العارضة وضعية الأوداليسكا، بيد أنها تبعد كل البعد عن شبقية أوداليسكا المستشرقين مع أهمية شكل الجسد الوسيط، الذي يغدو ذا طابع فني جمالي بحت. وتصبح العلامات والكتابات المخطوطة بالحناء، هي غلاف الجسد الأنثوي في طابعه المرئي المعاصر، الجسد مكتوبا لا شهوانيا. وبذلك ينعتق الجسد من بشرته اللحمية ليغدو وسيطا متخيلا حاملا هوية نصية مغربية خالصة يمنح الفضاء التشكيلي الفوتوغرافي متعة بصرية لا متعة شبقية.

كما تميزت الأوداليسكا المغربية بالزخرفة الكتابية وغير الخطية، أي المزج بين الخط والكتابة مع اندماج الجسد الأنثوي في الفضاء التشكيلي الذي يحيط به اندماجا شكليا وصوريا وجماليا. في تعبير منها عن فضاءها الطفولي الذي استعادته في شكل صورة فوتوغرافية معاصرة، بنظرة نسائية تحاكي تاريخها الشخصي، باعتبارها ضحية الفضاء المغلق المنعزل عن العالم الخارجي بأكمله، لا دراسة ولا عمل ولا محادثة مع الآخر. وهو ما أقرته فاطمة المرنيسي في كتابها ما وراء الحجاب بقولها: “إن المجتمع المغربي لم يعرف تطورا في مجال العلاقة بين الجنسين، يوازي التغير الحادث في التوزيع التقليدي للنفوذ والسلطة مما أدى إلى الفوضى في هذه العلاقة[6]”. ولسلطة الفضاء الأنثوي المفارق للفضاء الذكوري، نحن إزاء صورة أوداليسكا المستشرق الغربي في فضاء مخترق فكريا ودينيا. وبهذه النظرة الفنية المعاصرة تقطع للا السعيدي مع خطاب استشراقي يعتبر هذا الانغلاق قدرا محتوما للمرأة العربية.

 

الهوامش

  1. مقتطفات من تأملات حول الحرية الشخصية والهوية والذاكرة من مجلات للا السعيدي الخاصة، (en) « Bio »[archive], sur Lalla Essaydi (consulté le 17 février 2015)
  2. Grabar Oleg, Penser l’art islamique: une esthétique de l’ornement, Paris, Albin Michel, 1996, p. 181.
  3. Hattstein Markus et Delius Peter (dir.); L’Islam: Arts et Civilisations, Potsdam, ULLMANN, 2013.
  4. Grabar Oleg, Op. Cit., p. 181.
  5. سعيد، إدوارد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: د. محمد عناني، رضا عوض، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2004، ص 19 و20.
  6. المرنيسي، فاطمة، ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، المركز الثقافي العربي، نشر الفنك، الدار البيضاء ، ص 168.

نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 37، شتاء 2025

لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf37

 

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights