الذات عند ديكارت
|بقلم: مريم مقعدي
إنّ انبثاق الفلسفة الحديثة كان تدشينا لوعي جديدا وتحقيقا لفتح كبير طالما انتظرته الإنسانية، هذا الانسان الذي كان محروما من التعبير عن وجوده بسبب خضوعه لنموذج فكري يتنكر لذاتيته ولا يعترف لكينونته. ثم إن هذا النظام في العصر القديم كان يحكم الموجودات بتراتبية كسمولوجية، فالإنسان بقدر ما هو أرفع الكائنات، بقدر ما هو أقل قيمة من الكائنات الميتافيزيقية. كما لم تعد هذه الذات تابعة إلى كائن ميتافيزيقي مطلق، تكتشف نفسها من خلاله بنور اشراقي يقذفه الله في الصدر.
ومن هنا انتظرت الإنسانية ديكارت لا لشيء وإنما لأنه أعاد للإنسان ذاتيته وأوكل إليه مهمة تحقيق ماهيته، بإرسائه لكوجيتو “أنا أفكر إذن أنا موجود” حرّر به طاقات الانسان الفكرية والإبداعية.
هذا الانقلاب الفكري الذي عقب عصر النهضة أرسى للحقيقة معايير جديدة أساسها هو مبدأ الذاتية المزودة باليقين كما أرسى للوجود كينونة جديدة مركزها هو الإنسان. فـ”ليس للكوجيتو مدلول فلسفي قوي، لو لم يكن واضعه قد سكنه طموح التأسيس الأخير والنهائي” على حد تعبير بول ريكور
فكيف نميز إذن بين قول ديكارت الذي جعل الذات سيدة ومالكة للعالم وبين التصور القديم الذي جعل الذات أرقى الذوات في تلك التراتبية الكسمولوجبية التي يقيمها؟
بهذا المعنى، هل يمكن أن نقول ان ديكارت قطع قطيعة تامة مع من سبقه؟
لئن كان “الفلاسفة لا يخرجون من الأرض كالفطر” على حد عبارة ماركس، فإنّ جدة ديكارت الثورية تكمن في كون الذات الديكارتية ميز بقدرتها على الوعي أي أنها تعتقد في العلم أي في قدرة الإنسان الحديث. ومن هنا ثمة فرق بين قدرة الانسان التقليدي، المحكوم بتراتبية كسمولوجية وبين قدرة الانسان الذي أصبح يتميز عن الموضوع كما أصبح صانعا للعلم والمعرفة وبذلك فهو يؤثر على العالم.
لقد كان فوكو على حق إذن عندما اعتبر أن الإنسان لم يولد قبل القرن السابع عشر. إنّ هذا القرن الذي كان تأسيسا لوعي جديد وتأسيسا لذاتية تعرّف نفسها كوعي وليس من خلال الكائنات الأخرى، وبهذا أصبحت الذات المشرّع الوحيد للحقائق (ليس من الاله) فأنا أكتشف ذاتي ووعي عن طريق الفكر وحده وفي هذا الإطار ستحقق هذه الذات غاياتها المعرفية وذاتيتها باستبعاد الآخر، فلا دخل إذن لهذا الآخر ولهذا العالم الخارجي في معرفة الذات لذاتها، حتى الجسد أقصاه ديكارت من العلاقة المعرفية، واستبدل هذا الآخر بالإله: فهو الضمانة الفعلية التي تمكن الذات من بلوغ اليقين وذلك عن طريق “العقل الذي وزعه الإله بصورة عادلة بين الناس”( ديكارت ” مقالة الطريقة “).
ولكن يقول ديكارت في التأمل السادس (يتحدث عن علاقة النفس بالجسد):”اني لست مقيما في جسدي كما يقيم البحار في سفينته ولكنني فوق ذلك متصل به اتصالا وثيقا ومختلطا معه، بحيث أؤلف معه وحدة منفردة. لو لم يكن الأمر كذلك فما كنت لأشعر بألم إذا أصيب بدني بجرح وأنا الذي ليس إلا شيئا يفكّر ولكنني أدرك ذلك الحرج وحده كما يدرك البحار بنظره أي عطب في سفينته”
نفهم من خلال قول ديكارت هذا إن الانسان وحدة فمن هو الانسان لدى ديكارت؟ هل هو نفس أم نفس وجسد؟
إنّ الانسان وحدة ولكنها وحدة مؤكدة بالوعي. فالجسد دائما يبقى رهينا للنفس وخاضعا لإملاءاتها
عندما مرّ ديكارت بتجربة الشك، أدرك انه ليس بحاجة الى وساطة أنه وجود كامن بذاته لذلك نقول أن الذات عند ديكارت هي فكر فعندما سأل ديكارت: “ما هو الشيء الذي يفكر؟” إنما يحدد ماهيتها بكونه شيء واع، من هنا يمكن أن نقول أن الذات الديكارتية هي تمثل حضورا ووعيا.
ولكن هذه الذات الديكارتية تتمثل ذاتها وتعي بكل ما يرتبط بها أي بالجسد وحتى بالعالم هنا نفهم أن ديكارت يعود إلى الرؤية التفاضلية القديمة التي تفضل النفس على الجسد وتجعله مرتهنا إليها، فهل هذه الذات هي نفسها الذات الكانطية؟
هذه الاطلاقة في مفهمة الذات سنجد لها معارضة شديدة مع امتداد الفكر الفلسفي الما بعد الديكارتي بدءا من كانط الذي رفض مبدأ الشك الديكارتي وصولا إلى هيغل الذي طابق بين مقولات العقل ومعطيات الواقع بلوغا إلى الفلسفة المعاصرة التي ستشهد انقلابا فلسفيا على الكوجيتو الديكارتي، ليستبدل بمناهج فلسفية جديدة حاولت بعث مفهوم الذات من خلال الاخر ولربما هذا ما سيدفع بول ريكور إلى نعت الكوجيتو الديكارتي بالكوجيتو المجروح أو الكوجيتو المناضل.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 22، جانفي 2023
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf22