حينما يكشف الشعر عن فظائع الحروب: قصيدة “في حقول الفلاندرز” لجون ماكراي

المصدر: https://g.cz/

بقلم: فهمي رمضاني

قد لا يُدرك المرء أهوال الحُروب وفظائعها إلاّ حينما يعيش أحداثها الدّامية وظُروفها المُروّعة، فما يرويه جندي كان قد عاش ويلات الحرب قد يكون أعمق وأكثر صدقًا في بعض الأحيان مما يخطّه المُؤرخون قديمًا وحديثًا. ولئن تُثير الحروب عادة عند اندلاعها حماس الجُنود فيندفعون نحوها اندفاعا برومثيوسيا فإنهم سرعان ما يتمنون الخلاص والانعتاق من أوزارها حينما تتحول إلى جحيم.

 وتعدّ الحرب العالمية الأولى أهم حدث هزّ العالم في بداية القرن العشرين، إذ أعلنت عن بداية عصر جديد من الحروب التي يكون فيها العلم سلاحا فتاكا ومدمرا يتم تسخيره من أجل إنتاج الرعب والخوف والموت، فيزداد بذلك بؤس الجنود وتكثر معاناتهم خاصة في المعارك الطاحنة والخنادق البائسة مع الغازات السامة والجرذان النتنة دون أن ننسى جنون جنرالات الحرب وحماقاتهم. كُلّ ذلك جعل من هذه الحرب الكونية الأولى جحيما لا يمكن احتماله امتدّ طيلة أربع سنوات.

لم يكن هناك شيء قادر على ترجمة ما عاشه الجُنود من آلام ومعاناة وأحداث مُرّوعة سوى ما قد تخُطّه الأيدي في لحظة من اللحظات مؤكدة في ذلك تشبث الإنسان بالأمل والحياة على الرغم ممّا يحيط به من أهوال. في هذا الإطار، تعتبر قصيدة ” في حقول الفلاندرز” للجندي والطبيب الكندي “جون ماكراي” من أشهر القصائد التي كُتبت عن الحرب.

من هو جون ماكراي؟

ولد جون ماكراي في 30 نوفمبر 1872 في جيلف بأونتاريو بكندا وهو طبيب وجرّاح وشاعر. كان والده قائدا عسكريًا مُخلصا لوطنه، فنشأ بذلك ماكراي على قيم حب الوطن والإخلاص. تحصّل على شهادته في الطب من جامعة تورنتو كما كان مُغرما بالآداب القديمة والكلاسيكية فكان يطالع بنهم كلّ ما يُكتب في الأدب والتاريخ.

في سنّ الواحدة والأربعين التحق ماكراي بفرقة المشاة الكندية بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى حيث تطوع كجندي وضابط طبيّ في وحدة قتالية كندية. كتب ماكراي إلى صديقه المُقرّب ألكسيس هيملر حينما التحق بالحرب: ” أنا خائف حقا لكني أكثر خوفا من البقاء في منزلي مع ضميري”. شارك ماكراي في عديد المعارك الحاسمة في الحرب العالمية الأولى أهمها معركة إيبرس الثانية ومعركة باشنديل.

توفي جون ماكراي في 1918 بسبب إصابته بمرض ذات الرئة.

معركة إيبرس الثانية: من رومانسية الحرب إلى أهوالها

مثلت معركة إيبرس الثانية إحدى أكثر معارك الحرب العالمية الأولى دموية ودمار، إذ تحوّل حماس الجنود واندفاعهم وتوقهم إلى النصر إلى جحيم من المعاناة والألم. انطلقت هذه المعركة في 21 أفريل 1915 وانتهت في 25 ماي 1915 وهي معركة استنزاف كبيرة للجانبين دارت في ظروف مروّعة.

تمثّل الهدف الاستراتيجي للألمان من خلال هذه المعركة في السيطرة على مدينة إيبرس التي تقع غرب بلجيكا والتوغل أكثر باتجاه فرنسا، أما بالنسبة للحلفاء فقد كانوا يأملون صدّ العدوّ ودحره في أيام قليلة. لكن لم يعتقد كلا الجانبين أن المعركة ستدوم أسابيع وستكون خسائرها البشرية فظيعة حيث سيتم استخدام الغاز السام فيها لأوّل مرة من قبل الألمان.

كان غاز الكلور السام المفاجأة التي أعدّها الألمان إذ سرعان ما انتشر هذا السلاح الفتاك الذي وصفه الفرنسيون بالوحشي في الجبهات الكندية والبريطانية والفرنسية مخلّفا الآلاف من الضحايا الذين قتلوا أو أصيبوا بالعمى التام أو الجزئي. لكن على الرغم من ذلك، صمد الحلفاء حيث يشبّه جون ماكراي ذلك بالمعجزة.

في رسالة كتبها لوالدته وصف جون ماكراي المعركة بأنها ” كابوس …لمدة سبعة أيام لم يخلع أحد مناّ ملابسه ولا حتى أحذيتنا …طوال ذلك الوقت بينما كنت مستيقظا لم يتوقف إطلاق النار …ومع كل ذلك كانت مشاهد الموتى والجرحى والقلق الرهيب …”

في حقول الفلاندرز: القصيدة الرمز

تعد قصيدة “في حقول الفلاندرز” من أشهر القصائد العاطفية التي كُتبت عن الحرب، حيث كانت هدية لكل الجنود الذين لاقوا حتفهم. وقد ألفها جون ماكراي في 3 ماي 1915 بعد مقتل صديقه ألكسيس هيملر في معركة إيبرس الثانية. أدّى ماكراي الدّفن بنفسه وتأثر لفقدان صديقه العزيز كثيرا. وبعد أيام لاحظ نمو نبات الخشخاش (نباتات عشبية من أسرة شقائق النعمان) بسرعة حول قبور الجنود الذين ماتوا في المعركة.

أمضى جون ماكراي الأيام التي تلت وفاة صديقه وهو يشعر بالعجز عن عدم التمكن من مساعدته وإخراجه من أهوال الحرب، فكتب قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:

في حقول الفلاندرز انفجر الخشخاش

بين الصُلبان صفّا تلو الآخر

ذاك هو علامة مكاننا وفي السماء

ما تزال القبرات مترنمة دون وجل تطير

لا تكاد تسمع وسط أصوات البنادق

نحن الموتى وقبل أيام قليلة

كنّا أحياء ونشعر بالفجر ونشاهد غروب الشمس المتوهج

أحببنا وكنا محبوبين والآن نستلقي أمواتا

في حقول الفلاندرز

تابعوا معركتنا مع العدو

من أيد خائرات نرمي الشعلة إليكم

ولتكن لكم لترفعوها عاليا

وإن نقضتم العهد نحن الذين نموت

فلا ننام ولو أن الخشخاش يتكاثر

في حقول الفلاندرز

تعد هذه القصيدة حسب المؤرخ بول فوسكانت “أشهر قصيدة في عصرها ” حيث أعيد نشرها في جميع أنحاء العالم وسرعان ما أصبحت مرادفة لتضحية الجنود الذين ماتوا خلال الحرب العالمية الأولى.

كأنّ جحيم الحرب هنا قد ذكّر جون ماكراي بالقيم التي يتوجب أن تقود الإنسانية في بداية القرن العشرين، وهي قيم حتما منافية للجشع والإمبريالية وحب السيطرة والتنافس المحموم.

أضف إلى ذلك، لا يمكننا أن ننكر وجود مسحة رومانسية تميز قصيدة “في حقول الفلاندرز” إذ يعكس ذلك بلا ريب تشبّث الشاعر بالأمل والكفاح والنضال من أجل العودة إلى الوطن سالما وتحقيق النصر في هذه الحرب الكونية الكبرى.

من الأهمية بمكان كذلك، الإشارة إلى استعمال الشاعر لنبتة الخشخاش كرمز للحياة في إطار حديثه عن قبور الموتى، إذ تعيد هذه النبتة الحياة للجنود الذين لاقوا حتفهم في المعارك. وسيصبح الخشخاش بذلك أحد أشهر الرموز التذكارية في العالم للجنود الذين يضحّون بأنفسهم في الحروب، فقد أصدرت كندا سنة 2015 عديد الطوابع البريدية احتفاء بالذكرى المئوية لصدور قصيدة جون ماكراي وقد حملت هذه الطوابع صورة لنبات الخشخاش.

لئن كان لون الخشخاش أقرب إلى لون الدماء، فإن الشاعر قد استخدمه للدلالة على انبعاث الحياة من جديد من جهة وخلود أرواح الجنود الذين سيبقى يذكرهم التاريخ من جهة أخرى.

يعود كذلك جون ماكراي في قصيدته إلى جدلية الموت والحياة بين الحاضر والماضي وذلك من خلال استرجاع الماضي السعيد الرومانسي والحاضر الأليم القاتم. فالماضي يمثل بالنسبة للشاعر الحياة الطبيعية التي كان يعيشها قبل الحرب حيث كان هناك الحب والحياة و”غروب الشمس المُتوهّج” والفجر في حين أن الحاضر لا يمكن أن يكون سوى مرادفا للموت ولأصوات البنادق فكأن الشاعر هنا ينتظر الخلاص الذي ينهي هذا الكابوس ويعيد الحياة إليه.

يؤكّد الكاتب في النهاية على ضرورة النضال والكفاح من أجل تحقيق النصر. فعلى الرغم من فظاعة المعارك، أصر الشاعر على تحفيز الجنود ودفعهم وبث روح المقاومة والشجاعة فيهم حيث استعمل كلمة الشعلة للدلالة على الاصرار والشجاعة والمقاومة حتى لو كانت تلك الشعلة “من أيد خائرات”.

تُمثّل قصيدة جون ماكراي “في حقول الفلاندرز” تخليدا لذكرى كل من عاش أهوال معارك الحرب العالمية الأولى وهي كذلك شهادة حيّة وصادقة يمكن الاعتماد عليها كوثيقة تاريخية لإعادة النظر في تاريخ عالمنا المعاصر بأزماته وتحوّلاته الكبرى. فلطالما اعتمد المؤرخون على تقارير الجنرالات والوثائق الرسمية في حين أنهم لا يعيرون أدنى اهتمام إلى مثل هذه المصادر التي كتبت التاريخ من أسفل أي تاريخ الهامش (تاريخ الجنود البسطاء). ولا ريب أن مؤرخ اليوم مطالب بالانفتاح أكثر على مصادر متنوعة وموازية ومنها القصائد التي تبدو أكثر صدقا وعمقا من غيرها من الوثائق.

صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الرابع، جوان 2021، ص. ص 8-9.

لتحميل كامل العدد :  http://tiny.cc/hourouf4

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights