منظومة الإجراءات الجزائية وتحقيق العدالة

بقلم: ألفة الشلّي

تعتبر منظومة الإجراءات الجزائية المنظومة التي تتم بموجبها محاكمة المتهمين في الجرائم الجزائية وتحديد العقوبات اللاّزمة لهم. وتهدف هذه المنظومة إلى تحقيق العدالة من خلال ضمان حقوق المتهمين والأطراف الأخرى في القضية، وتوفير الحماية للضحايا والشهود، وفرض العدالة والقانون على الجميع.

كما يفترض مبدأ النزاهة في منظومة الإجراءات الجزائية احترام وقار العدالة وهيبتها باعتبار أنّ العدل هو أسمى حق للمواطن ومن أعزّ آماله ومن أغلى أمانيه وهو في ذات الوقت واجب من أقدس واجبات الدولة إزاء مواطنيها.

ويبرز دور منظومة الإجراءات الجزائية في إقامة العدل من خلال قوانينها التي تعتبر المحرّك الرئيسي للدعوى العمومية منذ انطلاق البحث فيها وجمع القرائن والحجج المثبتة للتهمة إلى تاريخ تنفيذ العقاب على الجاني.

وحيث تمر الدعوى الجزائية بمراحل عديدة قد تطول أو تقصر حسب خطورة الفعلة كونها مخالفة أو جنحة أو جناية كل هذه المراحل تتطلّب إتباع قواعد قانونية منصوص عليها بمجلة الإجراءات الجزائية كفيلة بتحقيق السير العادي للمساءلة الجزائية ولحسن تطبيق القانون قصد تحقيق المطلب المنشود من كل عمل قضائي وهو تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع بإيقاع العقاب على كلّ من تسوله نفسه خرق القانون والاعتداء على حياة الناس أو أعراضهم أو مالهم.

وتسعى منظومة الإجراءات الجزائية التونسية إلى تحقيق المعادلة بين التصدي للجريمة وضمان الحقوق والحريات، تحقيقا لعدالة ناجزة.

فإلى أي مدى نجحت في تجسيم التوازن في هذه المعادلة؟  خاصة وأنّ التطبيقات القضائية والتطورات المجتمعية أثبتت أنّ هذه المنظومة تشكو من عدة نقائص تجعلها قاصرة أحيانا عن تجسيم التوازن بين تحقيق مصلحة المجتمع في مكافحة الجريمة وتوقيع العقاب على مقترفيها والسرعة في البحث والتقصي للكشف عن الجاني توصلا إلى توقيع الجزاء المناسب.

ونستشف هذا القصور في منظومة الإجراءات الجزائية من خلال مقتضيات القوانين الجزائية الإجرائية التي كبلت العدالة هيكليا ووظيفيا.

I عدالة مكبّلة هيكليا

للحديث عن العدالة الجزائية بكونها عدالة مكبلة هيكليا نتبين ذلك من خلال العدد الضخم للقضايا الذي يقابله نقص فادح في عدد القضاة والإطار الإداري من كتبة وتقنيين وغيرهم، عمّقه إحداث محاكم استئناف جديدة، وهو ما تطلب توفير إطار قضائي وإداري لمباشرة العمل بها دون وجود انتدابات بالحجم المطلوب، الأمر الذي يتسبب في إفراغ عديد المحاكم لسدّ الشغور، والحال أنها بطبيعتها تشكو نقصا، ممّا يزيد في تأزم الأوضاع.

من جهّة أخرى، يتبين قصور المنظومة الإجرائية من خلال خروج بعض الهياكل المؤثّرة في عمل العدالة هيكليا عن القضاء. ذلك أنّ الطرف الرئيسي الذي يتعامل معه القضاء الجزائي بشقيه الاستقرائي والحكمي هو الضابطة العدلية التي ترتبط بها نجاعة المنظومة الإجرائية أشد الارتباط. وبما أنّ أعوان الضابطة العدلية تابعون هيكليا لوزارة الداخلية، فإنّهم لا يخضعون لأيّة تبعية قانونية للسلطة القضائية.

وقد ترتب عن التضخم في عدد القضايا وارتفاع عدد الطعون في الأحكام بطء في النطق بالعدالة، ممّا يفقد الثقة في القضاء نتيجة غياب نقص الفعالية بتكرار تأخير البت في القضايا، وغياب التعمق في النزاعات المهمة، فضلا على عدم تخصيص الوقت الكافي للبحث والتحقيق، مماّ ترتب عنه تدني جودة الأحكام.

ولتجاوز العوائق الهيكلية المكبّلة للعدالة، لا بدّ من مواكبة التطوّر التقني والتكنولوجي المتسارع في مجال التقاضي واعتماد الإعلامية في الإجراءات لإيجاد حلول عملية تضمن السرعة وربح الوقت والاقتصاد في المال والتخفيف من الأعباء الورقية.

إذ أنّ العدالة الإلكترونية أصبحت مطلبا ملحا وضرورة حتمية لتطوير العدالة لاسيّما بعد تفشي جائحة كورونا وما فرضته تداعياتها على واقع الحياة العملية من تدابير وقائية وقيود على الحركة والتنقل، والتي أدت بدورها في بعض الأحيان إلى عرقلة وتأخر وصول الحقوق لأصحابها.

ويمكن القول بأنّ إنشاء منظومة قضائية تكنولوجية متكاملة توفّر مجموعة من الخدمات الإلكترونية الآمنة، بحيث تتيح إمكانية رفع الدعاوى، وإعلانها، وتبادل التقارير والمذكرات، وتحديد الجلسات، والإعلام بمواعيدها، والتقاضي أمام المحاكم باختلاف أنواعها ودرجاتها عن بعد، حتى صدور الحكم، وذلك من خلال استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة، ودون التوجه للمحكمة، يساهم في تيسير إجراءات التقاضي وتحقيق العدالة الناجزة وتخفيف العبء على المتقاضين.

تتميز المنظومة القضائية العدلية التونسية عامة، والجزائية بصفة خاصة بمسحة شكلية وبإجراءات كثيرة وطرق طعن متعددة وهو ما يحدّ من حسن سير المرفق العام للعدالة ويشجع على نزعة الخصام. فتكثيف التواجد التشريعي ذاته بالإفراط في التجريم والعقاب، أو ما يعبر عنه بالتضخم التشريعي، يعتبر من أول الأسباب المؤدية إلى ضياع العدالة، إذ لا يخلو أي نص قانوني جديد من جرائم وعقوبات وإجراءات خاصة بتتبعها، فأصبحت النصوص الإجرائية موزعة ومشتتة يصعب الإلمام بها والوصول إليها، وهو ما يجعلها تهدّد الأمن القانوني مع ما يتبعه من تفويت الوصول الناجع إلى العدالة.

من المتفق عليه أنّه من أهم ركائز الأمن القانوني تحقيق الوصول إلى القانون للجميع ممّا يتطلب توفير سهولة الاطلاع على القاعدة القانونية لحسن استعمالها. فلا يقتصر الوصول إلى العدالة على إقرار حق القيام أمام القضاء، وإنّما على الحق في القانون الذي يقتضي تمكين الشخص من النفاذ إلى القوانين حتى يستدل على حقوقه وطرق حمايتها استدلالا كافيا.         وهو ما يقتضي ضرورة المراجعة الشاملة لمجلة الإجراءات الجزائية بجعلها مجلة جامعة لكل إجراءات التقاضي الجزائي.

II– عدالة مكبلة وظيفيا

تضمنت منظومة الاجراءات الجزائية مقتضيات عطلت وظيفيا تحقيق عدالة ناجزة وسريعة، وسيتم التطرق إلى بعض وجوه ذلك اعتمادا على حالة المضنون فيه في القضية، بحسب ما إذا كان موقوفا أو بحاله سراح.

1- المظنون فيه بحالة ايقاف

سنتعرض للصعوبات والإجراءات المعطلة لتحقيق العدالة كلما كان المتهم بحالة احتفاظ أو بحالة إيقاف تحفظي.

بخصوص الإحتفاظ : الذي هو إجراء يخوّل لأعوان الضابطة العدلية في حدود اختصاصهم حق وضع شخص معين على ذمتهم فترة من الزمن وذلك لمصلحة البحث وهو إجراء يشكّل اعتداء على الحرية الفردية إلاّ أنّه اعتداء مشروع ما دام في ظلّ القانون، إذ يتمتع مأمورو الضابطة العدلية من شرطة أو حرس وطني بصلاحيات واسعة عند مباشرتهم لأبحاث أولية عادية أو في حالة التلبس ومن مقتضيات مهامهم أحيانا وضع ذوي الشبهة على ذمة الباحث لغاية مواصلة أعماله أو تجنب ارتكاب جرائم أخرى أو التحصن بالفرار وكذلك إفشال الأبحاث بربط الصلة مع مشاركيه أو إتلاف الأدلة.

وقد خوّل المشرع لهؤلاء حرمان ذوي الشبهة بصفة وقتية من حريتهم وفي نطاق ما يسمّى بالاحتفاظ المحددّة مدّته بيومين إثنين مع إمكانية التمديد كتابيا في هذا الأجل مرة واحدة فقط لمدة 24 ساعة في مادة الجنح، و48 ساعة في مادة الجنايات وذلك بموجب القانون عدد 5 لسنة 2016 المؤرخ في 16 فيفري 2016 والمتعلق بتنقيح وإتمام بعض أحكام مجلة الإجراءات الجزائية.

والسؤال المطروح، هل يمكن استيفاء جميع الأبحاث التي تستوجب تدخل عدّة أطراف وإجراء أعمال استقرائية عميقة للكشف عن ملابسات أحاطت بجناية خطيرة ” قتل نفس بشرية عمدا مثلا” خلال هذه المدّة الوجيزة، من إجراء تحاليل جينية، ورفع بصمات، وعينات من سوائل المتهم، وسعي في إيقاف أشخاص خارج مرجع النظر الترابي أو إلى الحصول على قائمة اتّصالات هاتفية…

إنّ الأجل ممنوح لباحث البداية حدّ من المدة الزمنية إلى أدناها، وجعله ملزما بالإسراع في أعماله حال أنّه مرتبط شديد الارتباط بأجهزة وهياكل لا سلطة له ولا للنيابة العمومية عليها من حيث التسلسل الهرم الإداري، وقد لا تكون مواكبة أيضا في سير أعمالها للحينية التي عليها أعمال الضابطة.

جميع هذه المعطيات تجعل من هذه الآجال آجالا غير مدروسة وغير متلائمة مع البنية التحتية والوسائل المادية التي يحتكم عليها باحث البداية، ولا تحقق النتيجة المرجوة منها.

من جهة أخرى، فتطبيقا لأحكام الفصل 13 مكرّر جديد من مجلة الإجراءات الجزائية، على مأمور الضابطة العدلية بعد انقضاء مده الاحتفاظ الأولى عرض المحتفظ به مصحوبا بملف البحث على وكيل الجمهورية الذي يتوجب عليه سماعه حينا. ويمكن لوكيل الجمهورية التمديد كتابيا في أجل الاحتفاظ مرّة واحدة فقط لمدة 24 ساعة في مادة الجنح و48 ساعة في مادة الجنايات، ويكون ذلك بمقتضى قرار معلّل يتضمن الأسانيد القانونية والواقعية التي تبرره.

توجه هذا التنقيح نحو تدعيم الحقوق والحريات وضمان المحاكمة العادلة وتحقيق العدالة الجزائية فقد نص الفصل 23 من دستور الجمهورية التونسية لسنة 2022 أنّ “المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تكفل له فيها جميع ضمانات الدفاع في إطار التتبع والمحاكمة “.  كما نصّ الفصل 27 من الدستور على أنّ الدولة “تحمي كرامة الذات البشرية وتمنع التعذيب المادي والمعنوي”. إذ بمثل هذه العبارات الصريحة والواضحة جاءت أحكام الفصلين 27 و23 من دستور الجمهورية التونسية لسنة 2022 لتعكس توجها تشريعيا قوامه واجب حماية الحقوق الفردية كلّما وجدت في مواجهة مع حق الدولة في التصدي لكل سلوك مجرم قانونا.

وإزاء هذا التناقض بين متطلبات الاستقرار من جهة وحماية حقوق الافراد من جهة أخرى برزت الحاجة لإقرار توازن بينهما، ذلك أن المبادئ العامة للقانون تتجه لصيانة الحقوق الأساسية للأفراد في مواجهه سلطة التتبع من جانب وفي تعزيز موقع المظنون فيه في كل المراحل تأسيسا لمحاكمة عادلة من جانب آخر.

وكان تكريس مبدأ البراءة ترجمانا لهذا التوجه، إذ تشكل قرينة البراءة مبدأ جوهريا في الإجراءات الجزائية ومنهجا يوجه طرق البحث حماية للمتهمين، ترافقه طوال سير الاجراءات وتحد من سلطة الباحث تجاهه. ذلك ان هدف الوصول إلى الحقيقة لإيفاء حق الدولة في العقاب لا ينبغي أن يؤدي لإهدار حقوق الافراد أو الاخلال بها، كما أنّ وجود الأفراد في وضعية إتّهام لا يفقدهم إنسانيتهم.

ومن هذا المنطلق يوصف قانون الاجراءات الجزائية أنه قانون الشرفاء لبنائه على مبدأ البراءة وإلى تنظيم إجراءات الدعوى الجزائية بصفة تكفل حماية الفرد في مواجهة حق الدولة في تسليط العقاب.

إلاّ أنّ ذلك على المستوى العملي يكون على حساب التصدي للجريمة، فأعوان الضابطة العدلية إلى جانب ضغط المدّة الاولى وقصرها المعطل لمكافحة الجرائم كما سلف بيانه، فقد وجدوا أنفسهم مجبورين على الانقطاع عن الأبحاث وتركها جانبا للتكفل بإيصال المشتبه فيه جيئة وذهابا إلى مقرات المحاكم التي تبعد في بعض الاحيان مئات الكيلومترات، فيستغرق الطريق وإجراءات إخراج وإدخال المشتبه فيه من وإلى مقرات الاحتفاظ الخاصة بالأقاليم والمحاكم، كامل فترة التمديد أو يكاد، وهي المدّة التي كان من المفروض تخصيصها لاستكمال الأبحاث. هذا الإجراء منفصل عن حقيقة العمل اليومي للنيابة العمومية وللضابطة العدلية وما على المشرع سوى التدخل لتلافي ما أفرزه التطبيق من قصور يتناقض مع ضرورات تحقيق العدالة.

بالتالي إنّ تعزيز وتطوير ضمانات المشتبه فيه أثناء مرحلة البحث لا يجب أن تنقلب إلى وسيلة تساعده على الإفلات من العدالة.

 

أمّا في خصوص الإيقاف التحفظي: فيمكن التعرض إلى هذه المسألة من جهتين:

من جهّة أولى، فقد حدّد المشرع التونسي آجاله في طور التحقيق ضمن الفصل 85 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي نصّ على أنّه: “يمكن إيقاف المظنون فيه إيقافا تحفظيا في الجنايات والجنح المتلبس بها، وكذلك كلّما ظهرت قرائن قوية تستلزم الإيقاف باعتباره وسيلة أمن يتلافى بها اقتراف جرائم جديدة أو ضمانا لتنفيذ العقوبة أو طريقة توفر سلامة سير البحث. والإيقاف التحفظي في الحالات المنصوص عليها بالفقرة السابقة لا يجوز أن يتجاوز الستة أشهر. وإذا اقتضت مصلحة البحث إبقاء المظنون فيه بحالة إيقاف،           يمكن لقاضي التحقيق بعد أخذ رأي وكيل الجمهورية وبمقتضى قرار معلّل، تمديد فترة الإيقاف بالنسبة إلى الجنحة مرة واحدة لا تزيد مدّتها على ثلاثة أشهر وبالنسبة إلى الجناية مرتين لا تزيد مدة كل واحدة على أربعة أشهر. والقرار القاضي بما ذكر قابل للاستئناف”.

 إلاّ أنّه بالتمعن في هذه الآجال نجد أنّها آجال قصيرة نسبيا عندما يتعلق الأمر ببعض الجرائم الخطيرة والمعقدة. فقد تطورت الجريمة وتشعبت وأصبحت تتطلب متسعا من الوقت والجهد للبحث فيها وتقصيها، فضلا على أن الطعون في قرارات حاكم التحقيق وتكررها أثناء نظره في نفس القضية، يترتب عنها نزع الملف من بين يديه لإحالته برمته على دائرة الاتّهام، إذ أنّ مدّة الايقاف التحفظي المضبوطة بالنصوص الإجرائية والتي تخوّل لحاكم التحقيق فعليا إتمام الأعمال اللازمة لتهيئة القضية للفصل فيها، هي مدّة نظرية.

ولا يفوت هنا التساؤل عن عدم ضبط أجل الايقاف التحفظي في غيرها من المراحل بما في ذلك مرحلة المحاكمة رغم كونها مرحلة تكون فيها القضية جاهزة للحكم ولا تتطلب مددا طويلة إلى الحدّ الذي لا يقع معه ضبطها بآجال كما هو الحال بالنسبة إلى الأجل المضبوطة في مرحلة التحقيق، والأمر نفسه ينسحب على مرحلة الاتّهام ومرحلة تعقيب الاتهام.

ومن جهّة ثانية، يعرف النظام الإجرائي التونسي المتعلّق بالإيقاف التحفظي عديد المشاكل والصعوبات التي أعاقت تطور منظومة العدالة في تونس وساهمت إلى حدّ كبير في تعطل سير دواليب القضاء على الوجه الأحسن بما يوفر المحاكمة العادلة وتتمثل أهم هذه المشاكل في طول أجل الزمن القضائي في بعض القضايا وتعدّد وطول أطوار التقاضي بالإضافة إلى العدد الكبير من القضايا المنشورة بالمحاكم إلى جانب اكتظاظ السجون بالعديد من الموقوفين والمحكوم عليهم نتيجة عدم تفعيل الوسائل البديلة للإيقاف التحفظي وبدائل العقوبات.

وتأسيسا على ذلك فإنّّّ كلّ مشروع تعديل أو إصلاح يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هذه العوائق والصعوبات ويعمل على رفعها لتطوير المنظومة والتحسين في جودتها.

ولربّما يفسّر عزوف المحاكم عن تطبيق هذه الإجراءات والعقوبات نتيجة وجود بعض المعوقات القانونية والتنظيمية المتمثلة في غياب تنظيم شامل للمؤسسات المهيأة لتنفيذ عقوبة العمل للمصلحة العامة وعدم مسايرة أنظمة السجون وتنفيذ العقوبة على سبيل المثال التنقيح المدخل على المجلة الجزائية في خصوص اعتماد العقوبة البديلة المذكورة والمتمثلة كذلك في خيار المشرع في جعل الالتجاء إلى هذه العقوبات استثناء من حيث نطاق تطبيقه  ومن حيث الشروط المستوجبة، ومن ذلك استبعاد هذه العقوبات من جزء هام من الأحكام (مثل الأحكام الغيابية : فالحضور بالجلسة والموافقة على العقوبة البديلة شرط أساسي من شروط الحكم بها).

كما يفسّر عزوف المحاكم عن تطبيق هذه الإجراءات والعقوبات إلى بعض المعوّقات الواقعية المتمثلة في عدم إشراف وزارة العدل فعليا على سجل السوابق العدلية، بما يحول دون الاطلاع على صحيفة سوابق المتهم للنظر في مدى توفر شروط تطبيق العقوبات البديلة وعدم توفر العدد الكافي من المؤسسات المحتضنة لتنفيذ عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة وسوء انتشارها الجغرافي، بما يجعل بعض المحاكم في حالة استحالة مادية حتى وإن اتجهت النية لتفعيلها وكذلك هيمنة ثقافة العقوبة الكلاسيكية عند جزء من القضاة وعدم إيمانهم بفاعلية العقوبة البديلة .

يطرح النظام الإجرائى التونسي المتعلّق بالإيقاف التحفظي العديد من الإشكاليات من جهة على مستوى قصر المدّة في بعض القضايا الخطيرة. وفي المقابل على مستوى طول المدّة بالنسبة للقضايا التي تطول فيها إجراءات التقاضي والتي تتطلب بالضرورة تفعيل العقوبات البديلة كالعمل لفائدة المصلحة العامة أو الوضع تحت المراقبة الإلكترونية التي تمّ إدراجها مؤخرا ضمن الفصل 5 من المجلة الجزائية وهي عقوبة بديلة ليس الهدف منها ترك المتهم دون عقاب وإنّما الموازنة بيم الجانبين الردعي والإصلاحي وتهذيب الجاني بطريقة عصرية ومتطورة تتلاءم مع تطبيق العقاب والتصدي للجريمة وأيضا تحقيق العدالة الجزائية.

2- المظنون فيه بحالة سراح

ما يلاحظ أنّ النصوص الاجرائية قد تضمنت موجبات عمقت التعطيل الوظيفي لمرفق العدالة، من ذلك ضرورة استدعاء المتهم سواء من حاكم التحقيق أو أمام المجالس الجزائية بالطريقة الادارية أو بواسطة عدل منفذ. فقد اثبت الواقع العملي فشل آلية الاستدعاء الإداري لدرجة أصبح معه هذا الاجراء مجرد شكلية تضاف للملف يعلم الجميع انعدام جدواها.

أما في خصوص الاستدعاء بواسطة عدل منفذ فهو تنصيص لا معنى له فالمحاكم ليس لها أي استقلالية مالية تمكنها من الاحتكام على ميزانية تبذل منها أجور ومصاريف عدل التنفيذ.

لا مناص لضمان تحقيق العدالة من التيسير في بعض المواطن الاجرائية، وتحرير المنظومة الإجرائية الجزائية من إرث الماضي المكبلة به وذلك أمام نسق تطور ديناميكي، ويمكن في هذا الصدد أن يتدخل المشرع لتكريس إجراء الاستدعاء بواسطة الهاتف والبريد الإلكتروني، أو كذلك تمكين المحامي من التواصل مع حاكم التحقيق أو المحكمة الجزائية بالوسائل الحديثة. فقد حان الوقت لاعتماد الإعلامية في الاجراءات والاستئناس بها لإيجاد حلول عملية تضمن السرعة وربح الوقت وتخفيف من الأعباء الورقية فضلا عمّا تحققه من السرية والسلامة وعدم إنكار المعاملة.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 32، نوفمبر 2023.

للاطّلاع على العدد كاملا: http://tiny.cc/hourouf32

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights