تونس والعدالة الاجتماعيّة

بقلم: يوسف النقّاطي

لمْ تكن الثورة التونسيّة مجرّد ثورة على الحكم الفردي ومصادرة الحقوق المدنيّة والسياسيّة، بلْ كانتْ أساسا ثورة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعيّة والسير نحو واقع اقتصادي أفضل، وقد تجسّد ذلك في الشعار الذي هتفتْ به الحشُود الشعبيّة في الساحات “شغْل، حريّة، كرامة وطنيّة “.

والعدالةُ الاجتماعيّة تعني أوّلا القضاء على الفقْر باعتباره أوْضح مؤشّرات الظّلم، وثانيا الحدّ من التفاوت الاجتماعي عبْر تدابير منْ قبيل توفير التعليم والرعاية الصحيّة المجّانييْن، اضافة الى ضمان مستوى عيْش لائق للجميع عنْ طريق التشغيل بأجور ملائمة [1] وضمان السّكن والنّقل وبقيّة الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

فتونس بقيتْ لعقود ضحيّة لأنظمة تسلطّية تُصادر الحقوق والحريّات وتحْكمُ بسياسات جائرة فرضتْ الفقْر والخصاصة على شريحة كبيرة من المواطنين، فكانتْ بذلك الثورةُ حدثا عبّر من خلاله “مُجْتمع الهامش” عنْ رغبته في القطْع مع الدكتاتوريّة والحيْف الاجتماعي، انتصارا لكرامة الإنسان وتكْذيبا لمقولة نهاية التاريخ.[2]

وفي غمرة الانتشاء بهروب زين العابدين بن علي وتكريس التعدديّة وحريّة التعبير، اعتقدت الحشود للحظة أنّ الانتقال الديمقراطي المستوْرد سيفي بوعوده في التنمية وتحقيق الرفاه، وتركتْ المسار الثوري لتقودهُ طبقة سياسيّة هاوية ضعيفة الإرادة والتكوين.

وفي الاثناء، استفادت قوى الهيمنة الاقتصادية والطبقيّة من تجاربها السابقة في امتصاص الصدمات وإدارة الأزمات ومن تغلْغل أذرعها في مواقع القرار السياسي، وأعادت ترتيب تحالفاتها وامتداداتها داخل المجتمع وأجهزة الدولة بشكل سمحَ لها بمواصلة احتكار الثروة والامتيازات.

وقدْ عكستْ سياساتُ الحكومات المتعاقبة منذ سقوط بن علي استعداد حكّام تونس الجدد للتحالف مع هذه القوى وتمثيل مصالحها داخل دوائر الحكم، وترسّخت الديمقراطية طوال العشريّة الماضية كمجرّد آليّة للارتقاء إلى السلطة وممارستها للحفاظ على مصالح أصحاب الثروة ومنع كلّ محاولة لإرساء الشفافية والحوكمة في المجال الاقتصادي.

وفي المقابل، بقيت فئات هامّة من المجتمع مقصيّة من الدورة الانتاجية تعاني الفقر والبطالة والاحتقار الاجتماعي وتتحمّل وحدها كلفة الفشل الاقتصادي والسياسي. وأمام عجز هذه المنظومة عنْ تجاوز فشلها وعطَالَتها، أصبح التونسيون يعاينُون يوميّا انهيار المرافق العموميّة وتفكّك الدولة، وهو العامل الذي جعل جزءا هامّا من المُجتمع ينْحازُ إلى المسار الذي فرضهُ رئيس الجمهورية منذ 25 جويلية 2021.

وبذلك توفّر لرئيس الجمهورية تأييد شعبيّ واسع يستمدُّ عمقه أولا من السرديّة الثوريّة والمطالبة بتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي من أجل رفع البؤس عن البؤساء وثانيا من خطابه التعبوي الذي ينبّه فيه الشعب الى أعدائه من النخب السياسية الفاسدة والمرتهنة للخارج[3]، وعلى هذا الأساس كسب معركته مع كلّ خصومه ومنافسيه السياسيّين.

وقد كانت الفرصة ملائمة للرئيس سعيّد لاستغلال هذا الزخم الشعبي وفرْض معادلة اقتصاديّة جديدة تستجيب لتطلّعات الفئات المسحوقة، لكنّه اختار أن يبقى سجينا لأفكار العقل الدستوري المحض، فحَصَر كلّ معاركه في النقاش القانوني والسياسي المجرّد منْ كلّ محْتوى اجتماعي واقتصادي، واكتفى بالتعويل على حكومة تكنوقراط لا تمْلكُ أيّ تصوّر لما يجبُ أنْ يكون عليْه الاقتصاد السياسي، وهو ما أدّى الى تعمّق الأزمة بكلّ ما تنطوي عليْه من مخاطر.

ولنا أن نعاين ذلك من خلال الارتفاع الجنوني للأسعار مقابل ضعْف القدْرة الشرائيّة، اضافة الى نُدْرة المواد الغذائيّة والمحْروقات، واستغلال الكارتلات الّتي تهيْمنُ على الاقتصاد لهذا الظرْف لفرض شروطها على المواطنين الّذين علقُوا بيْن مطرقة الدولة الفاشلة وسنْدان نظام اقتصادي تحكُمه إرادة أثرياء الحرب.

وفي المقابل، أكّدتْ مخْتلف النصوص القانونيّة الّتي صدرتْ طوال السنتيْن الأخيرتيْن سلبيّة الدولة ومحدوديّة قدْرة القائمين عليها على التعامل مع المأزق الاقتصادي والاجتماعي، إذ وقعت المحافظة على نفس السياسة المعتمدة قبل وبعد الثورة والمتمثّلة في إثقال كاهل الطبقة الوسطى والفئات الشعبيّة مقابل محاباة نخب ضيّقة من رجال الاعمال وإعفائها من أداء الضريبة وتحمّل التكاليف العامة وهو ما ينزع صفة العدالة عن النظام الجبائي ويعمّق التفاوت الطبقي والجهوي والاحتقان الاجتماعي.

وأمام عجْز الدولة عن إيجاد حلول بديلة لتمويل ميزانيّتها بعيدا عن صنْدوق النقد الدولي، تسعى دوائر القرار العالمي منْ خلال هذه المؤسّسة الى استغْلال الهشاشة الماليّة والدبلوماسيّة للبلاد لتفرض علينا وصفتها النيوليبراليّة القائمة أساسا على الإلغاء التدريجي لمنظومة الدعم والإعانات الاجتماعية، وخوْصصة المؤسّسات العمومية وتخلّي الدولة عمّا تبقى من دورها في تمويل الصحة والتعليم وبقية المرافق الاساسيّة لفسح المجال أمام القطاع الخاص، وهي تدابير أثبتت التجربة فشلها في جلّ البلدان النامية، إذْ لم تؤدّي إلاّ إلى تعميق آفة الفقر والبطالة والهشاشة الاجتماعيّة، إضافة إلى انتهاك سيادة الدول وإلغاء حقّ الشعوب في تقْرير مصيرها.

وفي تونس بالذات، أدّت محاولات فرض مثل هذه الاجراءات بالقوّة الى اضطرابات اجتماعيّة أهمّها انتفاضة الخبز سنة 1984 [4]وهو ما يؤكد أن الشارع التونسي سيشكّلُ دائما عائقا قويا أمام القبول بمثل هذه الإملاءات.

وفي هذا الاطار يحاولُ رئيس الجمهوريّة طمأنة التونسيّين منْ خلال خطاباته الّتي يعْلنُ فيها في كلّ مرّة عنْ تشبّثه بسيادة القرار الوطني وبالدور الاجتماعي للدولة، كما طرح على طاولة التفاوض مع عدد من الشركاء الأجانب مسألة إلغاء الديون السابقة الّتي تثقلُ كاهل الدولة وتحويلها إلى مشاريع تنمويّة [5]إضافة إلى فرْض أداءات على أصحاب الثروات لتمويل صنْدوق الدعْم بدل إلغائه.[6]

فهلْ نكتفي هنا بحماسة الخطاب السياسي وبالنوايا الطيّبة لرئيس الدولة لنطمئنّ على مصير مؤسّسات الدولة وحلْم المرور الى الاقتصاد العصْري القائم على التوزيع العادل للثروة في تونس ؟ الإجابة ستكُونُ قطْعا بالنفي.

لا نقاش في أنّ الثقة مطلوبة في الحياة العامة وفي السياسة على وجه الخصوص، لكنْ في الأنظمة الديمقراطيّة، الثقة لا تمْنحُ للأشخاص، وإنما فقط للمؤسّسات التي اعتاد المواطنون على نجاعتها وحسْن إدارتها للشأْن العام وعلى احترامها لحقوقهم وحريّاتهم، لكنْ في تونس بالذات، اعتاد الشعبُ على ظلْم السلطة السياسيّة ومحاباتها لأصحاب الثروة، وهو ما يفسّرُ قلّة انخراط التونسيّين في المشروع السياسي لرئيس الجمهوريّة وعزوفهمْ عن المشاركة في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة بدورتيْها.[7]

ولعلّ ما يعمّق هذه الأزمة اليوْم، هو حالة الانفراد بالرّأي الّتي تشهدُها البلاد، وهو ما نلاحظه منْ خلال إقصاء المجتمع المدني والأجسام الوسيطة من الشأن العام ومحاولة التضييق على الحريّات منْ خلال نصوص ذات نزعة تسلطيّة كالمرسوم عدد 54 لسنة 2022، إضافة الى تصاعد وتيرة العنْف البوليسي وظاهرة افلات الأمنيّين من العقاب.

وباستحْضار دروس التاريخ سندركُ أنّ هذه الانحرافات لنْ تؤدّي إلّا الى تصاعد الاحتقان الاجتماعي واستفْحال الأزمة الاقتصاديّة، فالحريّات السياسيّة شرْط مسْبقٌ للتنمية[8]، وكلّ اعتداء عليْها هو في الحقيقة حرْمانٌ من القدْرة على الخروج من الفقْر والعوز.  

إنّ العدالة الاجتماعيّة لا تتحقّق أبدا في فضاء استبداديّ الحاكمُ فيه هو كلمة الحقّ النافذة والحكيم الّذي لا يناقَش، فقدْ ظهر منذ زمن زيفُ أسطورة المستبدّ العادل[9]، ولا سبيل لبلوغ مجتمع الاقتصاد العصري والتوزيع العادل للثروة إلّا بتعْزيز العمليّة الديمقراطيّة وأخْلقتها، فالنّقاش العام والحرّ الّذي تتيحه الديمقراطيّة يلعب دوْرا رئيسيّا في تحسين جوْدة الخيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وفي الضغط على المؤسّسات والتصدّي لها متى انْحرفتْ عنْ خدْمة الصالح العام.

وفي الواقع، هنا تكمن مهمّة القوى الوطنيّة التقدميّة المتشبّعة بالفكر الاجتماعي، فهي ستكون مسؤولة أوّلا عن المطالبة بالحريّة والعدالة الاجتماعيّة دون توقّف عند العقبات المفتعلة، وثانيا عنْ زرْع الثقافة الديمقراطيّة الاجتماعيّة وتوسيعها وربط الفعل السياسي بالأخلاق.

وقد يبدو النجاح في هذه المهمّة صعْب المنال نظريّا، فالتونسيّون أعيتهمْ الخطابات الّتي تتغنّى بالديمقراطيّة والحريّات، وهمْ الّذين رأوْا ثورتهم تتوارى خلْف ضباب “الانتقال الديمقراطي” الّذي استفادت منه فقطْ الأقليّة الحاكمة والنخب العتيقة الّتي تلاحقها تهم الفساد والعمالة للقوى الأجنبيّة.

ولكنّ التاريخ حركته دائريّة، وهو كما يصفه والتر بنجامين “كرنفالٌ مستمرّ من احتفالات المنتصرين المنتصبين على منصّة الظفر بنشوة على حساب المهزومين المندهشين، والنتيجة الطبيعيّة هي أن يعيد الأخيرون ترتيب صفوفهم لإعادة اعتلاء هذه المنصّة، وهكذا تغلقُ الدائرة بحتميّة مستمرّة “[10].

ومعنى ذلك أنّه لئن كانت الغلبة اليوم لمنظومة الهيمنة الاقتصاديّة والطبقيّة وللسياسات الجائرة، فانّ النّصْر سيكونُ غدا حليف عموم المواطنين وأصحاب الحقوق متى أعدّوا لهذا النصر كلّ عدّته.

وقدْ عبّر المجتمع التونسي بشكل دوري عن انفتاحه على أفكار التقدّم والتغيير الاجتماعي، وخير مثال على ذلك الحركات الاجتماعيّة الّتي تشكّلت في عدّة جهات في البلاد انطلاقا من انتفاضة الرديف سنة 2008 وصولا الى تحركات أبناء الأحياء الشعبيّة في جانفي 2021 والهبّة المواطنيّة لأهالي عقارب في نوفمبر من نفس السنة وحملة ” تعلّم عوم ” الّتي وحّدت أبناء “الفيراج” في مواجهة القمع البوليسي، وهي حركات رفعت مطالب اجتماعيّة واقتصاديّة مثْل الحقّ في الشغل، والحق في الماء والحق في بيئة سليمة، ودافعت عن حقوق الجهات والفئات المهمّشة.

ورغم القمع الأمني والتهميش الاعلامي لهذه التحرّكات، فقد نجحت في لفت النظر الى القضايا الّتي دافعتْ عنها، وعبّرتْ عن قدرة عالية على التنظّم وعلى مقارعة منظومة الحكم وأجهزتها القمعيّة من أجل انتزاع الاعتراف بما حملتْهُ من مطالب ورسائل أخلاقيّة.

وقد أعلنتْ هذه الحركات عن أفق جديدة للنضال من أجل الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وعرفت كيف تفرض مطالبها وتطرحها للنقاش العام، كما قدّمت أشكالا جديدة للتنظّم بشكل مستقلّ عن الأحزاب السياسيّة التقليديّة التي احتكرت الحضور في الفضاء الإعلامي دون أن يكون لها أيّ تأثير عملي أو امتدادٌ داخل المجتمع.

ولا شكّ في أنّ هذه الحركات متى عرفتْ كيف تتجاوز تشتّتها ومطلبيّتها الضيّقة والتحمتْ مع بقيّة القوى الوطنيّة الحاملة لفكر وطني اجتماعي ستشكّل النواة الأولى ليسار تونسي جديد يقود النضال الوطني زمن الهيمنة الثقافيّة للعولمة النيوليبراليّة.

وميلاد هذا اليسار يبقى رهين إنتاج خطاب خاصّ به يسمحُ له بمدّ جسور للتواصل المباشر مع عموم الشرائح الاجتماعيّة وأصحاب الحقوق، فالتغيير الاجتماعي لا يتحقّق بالأقليات أو النخب، بلْ يتطلّب الانخراط الفعلي والمسؤول لأوسع الفئات الشعبيّة.

ويعني ذلك أنّ مشروع التغيير الاجتماعي يجب أنْ ينتشر ويتأصّل داخل المجتمع بأسره الى أن يتحوّل الى ثقافة مهيمنة ومشروع جماعي مشترك يستبْطنُهُ ويدافعُ عنه أكبر عدد ممكن من التونسيّين، فتونس جديرة بجمهوريّة وطنيّة اجتماعيّة ديمقراطيّة قابلة للحياة والاستمرار، وعلى هذا الأمل سنبني المستقبل   [11].

 

الهوامش

 

  1. Salam Said (Eds), Towards Socially Just Development in the MENA Region, Friedrich Ebert Stiftung Regional Project «For Socially Just Development in MENA», Tunis, 2017, p.18.
  2. “نهاية التاريخ لا بمعْنى نهاية أحداثه، بلْ نهاية ثوراته الممكنة ضدّ النموذج اللّيبرالي المعوْلم حسب قراءة فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” “، ماهر حنين،مجتمع المقاومة،ما بعْد الاسلامويّة،ما بعْد البورقيبيّة،ما بعْد الماركسيّة، كلمات عابرة،منشورات جمعيّة نشاز، 2019، ص19.
  3. ماهر حنين،” 25 جويلية المنعرج؟ مقدّمات للفهم”، جريدة المغْرب، 2021/08/03،
  4. محمّد مزالي، نصيبي من الحقيقة، دار الشروق، القاهرة، 2007، ص.465.
  5. بيان رئاسة الجمهوريّة الثلاثاء 6 جوان 2023 اثر استقبال رئيس الجمهوريّة لرئيسة مجلس الوزراء الايطاليّة جورجيا ميلوني.
  6. بيان رئاسة الجمهوريّة السبت 3 جوان 2023 اثر مكالمة هاتفيّة بين الرئيسين التونسي والفرنسي.
  7. لمْ تتجاوز نسْبة الإقبال على التصويت في الدورة الأولى 11.2% مقابل 11.4% في الدورة الثانية.
  8. امارتيا صن، التنمية حريّة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الاولى 2010، ص.223.
  9. Amartya Sen, “Development as Freedom”, Oxford University Press, 2001.
  10. ألان دونو، نظام التفاهة، دار سؤال للنشر، 2020، ص.65.
  11. يوسف النقّاطي،” المجْتمعُ التونسي أمام تحدّيات الراهن”، جريدة الشعْب، 2022/08/25.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 30، سبتمبر 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf30

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights