قراءة في كتاب ”خمسة دروس في التحليل النفسي“*

بقلم: مريم مقعدي

 لقد دفعتني دهشتي بذلك الجانب اللاشعوري “الغامض ” -إن شئنا القول – داخل كل إنسان إلى الاطلاع على هذا النص الفريودي الطريف الذي بدا لي بمثابة الغوص في مكامن الجهاز النفسي للإنسان، حيث يقر لنا فرويد في مستهل الدرس الأول أنه لا يعود إليه الفضل في إخراج علم النفس التحليلي إلى الوجود إذ كان آنذاك طالبا منهمكا في تحضير امتحانات السنة النهائية، وإنما هناك من سبقه في إخراج هذا العلم إلى النور وهو طبيب من فيينا يدعى الدكتور جوزيف براور الذي طبق هذا الأسلوب لمعالجة فتاة هستيرية.

كانت هذه الفتاة في مقتبل عمرها عندما ظهرت عليها إثر وفاة أبيها سلسلة من الاضطرابات الجسمانية والذهنية كما تمنعت عن الطعام واستحال عليها الشراب منذ عدة أسابيع رغم عطشها المهلك وأصابها أيضا اختلال في النطق فعجزت على فهم لغتها أو حتى التكلم بها، وكانت أيضا تتعرض بشكل مستمر لحالات من الهذيان والغيبات. ويقرّ فرويد في هذا الإطار أن هذا المرض ليس داء عضويا خطيرا في المخ وإنما “هي حالة غريبة غامضة أطلق عليها الأطباء اليونانيون منذ القديم اسم هستيريا”. وعندما تكون المريضة في حالة من الغيبة والهذيان كانت عادة ما تهمس بكلمات متعلقة أساسا بتلك الحادثة وبماضيها، إلى أن تفطن د.براو إلى الأمر وطلب منها إعادة نفس الكلمات بعد أن وضعها تحت ضرب من التنويم المغناطيسي. ولعل هذه التقنية تمثل أولى خطوات علم النفس التحليلي، الذي سيفجر من خلالها المحلل النفسي العقد والكبوات النفسية الكامنة داخل المريض ليضعها وجها لوجه معه غاية مواجهتها وعدم التنكر لها من هنا يمكن أن نستشف إذن قيمة المعالجة من خلال الكلام التي ستمثل بعد ذلك الركيزة الأساسية في نظرية فرويد في التحليل النفسي،  ذلك أن وجه الصعوبة الأساسي هنا يكمن في أن المريض يكتم ما يرغب فيه من أشياء أو ما يتعرض له من حوادث ولا يضعها موضع حديث ومساءلة لذلك تعيد هذه الأحداث والرغبات نفسها في شكل أحلام أو يمكن تتجسد بشكل واضح أحيانا في هفوات اللسان. يقول فرويد بشكل صريح: ” الهستيريون تؤلمهم التذكرات، وأعراضهم هي رواسب ورموز لبعض الأحداث الصادمة، وهذه الرموز هي بتعبير أصح رموز تذكارية”.  وبعد أن جرّب الدكتور براور إذن تقنية التنويم المغناطيسي وحاول أن يعيد بعضا من الآلام العميقة التي كبتتها مريضته إلى الوجود عادت الفتاة إلى حالتها النفسية الطبيعية وتصالحت في المقابل مع كل الأحداث التي حصلت لها في الماضي فأطلقت على هذا العلاج تسمية ” العلاج بالمحادثة ” وقد كانت أيضا في كثير من الأحيان تسميه مازحة ” تنظيف المدخنة “.

مثّل هذا الاهتمام الجديد بالجانب اللاشعوري في الجهاز النفسي الإنساني انقلابا شاملا على الفلسفة الديكارتية التي عرفت الإنسان طوال تاريخ الفلسفة بكونه ذات واعية تتميز بقدرتها على التفكير. لكن على الرغم من أن الدكتور براور حقق نوعا من “الاكتشاف الباهر” عندما طبق تقنية التنويم المغناطيسي التي استطاع من خلالها أن ينفذ إلى أعماق المريض عبر الكلام والفضفضة وعلى الرغم من إتباع فرويد لهذه التقنية لفترة من الزمن إلا انه سرعان ما تخلى عنها وانتهى به الامر إلى اعتبارها ضربا من الممارسة الصوفية. وفي المقابل اكتفى بالعلاج التطهيري تاركا المرضى على حالتهم الطبيعية. إذ يقول صراحة معبرا عن قلقه “بدا ذلك في أول وهلة عملا جنونيا لا حظ له من النجاح إذ كان المقصود أن احمل المريض على أن يعرفني بشيء لا اعلمه أنا ويجهله هو أيضا فكيف آمل أن أتمكن من التوصل إلى ذلك ” خاصة وأن المريض الذي يجهد نفسه كي يعيد هذه الذكريات المنسية إلى حيز الشعور يعتمد أسلوب ” المقاومة ” كي لا تكون ذكرياته مكشوفة للمحلل النفسي بشكل فاضح. وبناء على فكرة المقاومة هذه، حاول فرويد أن يبعد فكرة المقاومة لدى المريض وذلك بحمله تدريجيا على التكلم بكل ما يتبادر إلى ذهنه. وعلى الرغم من أهمية فحص الخواطر العفوية الواردة ببال المريض إلا أن ثمة طريقة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى ألا وهي تحليل الأحلام وتأويلها باعتبارها “أسهل طريق لمعرفة اللاشعور وأمتن وأرسخ أساس لأبحاثنا” مثلما عبّرعن ذلك فرويد. ولكن إن كانت الأحلام تكتسي هذه الأهمية فلماذا عندما ننهض من النوم يكون موقفنا منها موقف احتقار وتجاهل؟

   يبدو أن اغلب الناس يسارعون إلى تجاهل أحلامهم ووضعها في دائرة النسيان لأنها تظهر في غالبية الأحيان بمظهر فاحش مناف للأخلاق الجماعية التي رسمها لنا الأنا الأعلى. يؤكد لنا فرويد في الدرس الثالث من هذا الكتاب إن الأحلام ليست غريبة عن صاحبها كما هي ليست “غير مفهومة ” مثلما نذهب إلى ذلك جميعا. وفي هذا الإطار يقدم لنا فرويد مثال الطفل الصغير – ابتداء من عام ونصف- الذي تتعلق أحلامه في العادة بتحقيق رغبات أنشأها في اليوم السابق في نفسه دون أن يحققها فيكفي إذن أن نعرف ما عاشه الطفل في اليوم السابق حتى نتمكن من تفسير أحلامه. بهذه الطريقة إذن يفسر لنا فرويد كيفية تشكل الأحلام لدى الكبار لكنه يشير إلى أن الفرق الوحيد بين أحلام الصغار وأحلام الكبار يكمن في أن أحلام هذه الأخيرة قد تنكرت وتغيرت ملامحها “والفرق بين منشئها النفسي الأصيل وبين صورتها الأخيرة المعبرة عنها فرق كبير جدا” فما على الإنسان إذن إلا أن يفك رموز أحلامه ويزيل عنها ستار الغموض الذي يغطيها حتى تعود إلى حيز الشعور.

إضافة إلى ذلك يستنتج فرويد في نهاية الكتاب أن اضطرابات الحياة الجنسية تعد من أبرز أسباب المرض فالأعراض المرضية الحادة التي يعيشها المريض تكون وبلا شك مرتبطة بتجارب الحب التي عاشها المريض في الماضي وخاصة في فترتي الطفولة والمراهقة اللتين ستحددان بعد ذلك كامل حياة الإنسان. يتولد عن هذه الطاقات الجنسية المكبوتة نوع من الحرمان الذي سيكون بعد ذلك مصدرا أساسيا للقلق والألم، لذلك نجد المريض يسعى إلى أن يعوض هذا الحرمان عبر الوسائل التي ذكرناها سابقا (الأحلام وهفوات اللسان…) بل أكثر من ذلك يمكن أن يحتد الألم أكثر حتى يصل إلى حد اقتراف بعض الجرائم الشنيعة. ولكن أي شعور بالذنب والحرمان هذا الذي يجعلنا نقترف مثل هذه الجرائم وما الذي يمكننا أن نفعل حتى نتخلص من هذه الطاقات الجنسية المكبوتة؟

يقترح علينا فرويد في نهاية الكتاب أننا يمكن أن نحقق رمزيا رغباتنا الممنوعة في الواقع وذلك عبر ممارسة الفن في مظاهره المتعددة كالغناء والرسم والمسرح أين تتجلى “إبداعات الإنسانية ” على حد قول هيغل. أيضا لا ينبغي علينا أن نهمل ” الجانب الحيواني الكامن في طبعنا”. وفي هذا الإطار يقدم لنا فرويد مثالا طريفا هو مثال حصان مدينة شيلدا فائق الجمال. فعلى الرغم من جماله الباهر وقوته الخارقة، كان اعلافه يتطلب نفقات باهظة جدا فقرروا كل يوم أن ينقصوا له حبة واحدة من العلف حتى يتعود على الاستغناء على الطعام كليا لكنه للأسف مات عندما حرم من أخر حبة علف. يمكن أن نستنتج إذن من هذه القصة الطريفة أن حصان شيلدا مات جوعا لأنه حرم من الأكل حتى لو كان ذلك بشكل تدريجي. كذلك هو شان الإنسان. 

 

* المؤلف: سيغموند فرويد

تقديم وتعريب: رضا بن رجب وعبد الرزاق الحليوي

منشورات دار المعرفة، تونس، 1991.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 21، أكتوبر 2022

 للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf21

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights