في اليوبيل الماسي للفريق الذهبي

بقلم: حمزة عمر

بعد فوزه بكأس العالم سنة 2014، بلغت حصيلة المنتخب الألماني في ترتيب “إيلو” للمنتخبات 2200 نقطة ليحطّم بذلك، ستّين عاما بعد المباراة المعروفة باسم “معجزة برن”، عدد النقاط التي وصل إليها المنتخب المجري في جوان 1954 والبالغ 2166 نقطة.

كان “الفريق الذهبي ” أو “المجريون السحرة” ظاهرة فريدة أحدثت ثورة في مفاهيم وتكتيكات رياضة كرة القدم لا تزال آثارها ماثلة إلى اليوم.

التجانس هو البداية

بدأت القصّة بتعيين المدرّب غوستاف شيبش على رأس المنتخب المجري في سنة 1949. كان شيبش متأثّرا بالمنتخب الإيطالي الحائز على كأسي العالم لسنتي 1934 و1938 والمنتخب النمساوي لنفس الفترة اللذين كانت صفوفهما تعرفان مقدارا كبيرا من التجانس بين اللاعبين. كوّن شيبش فريقا نواته تنحدر من فريقي ام تي كي (فاروش لوبوغو) وخاصة هونفيد بودابست، فريق الجيش المجري، الذي تحوّل إلى ما يشبه معسكر تدريب للمنتخب، وكان ذلك عكس الرؤية السائدة في اختيار عناصر المنتخبات والتي تقوم على اختيار أحسن عنصر في كلّ مركز مهما كان فريقه. وتكوّن العمود الفقري للمجر من ستّة لاعبين: حارس المرمى جولا غروشيتش المعروف بالفهد الأسود والذي تميّز بلعبه دور الحارس الليبيرو الذي يعزّز الدفاع متى احتيج إليه، لاعب الوسط يوزيف بوزيك، قلب الهجوم المتأخّر ناندور هيديكوتي، الجناح الأيسر زلتان تسيبور والهدّافان شاندور كوتشيش وفرنز بوشكاش. وقد حرص شيبش على حسن انتقاء عناصر فريقه حتّى أنّه تدخّل لدى السلطات المجرية للإفراج عن جولا لورانت، الذي كان موجودا بأحد معسكرات الاعتقال لمحاولته الفرار من البلاد، نظرا لأنّه كان يعتبره عنصرا هاما في خططه.

الإنجازات الأولى

كان أوّل انجاز كبير للمنتخب المجري حصوله على الميدالية الذهبية في دورة الألعاب الأولمبية بهلسنكي سنة 1952. انتصر المجريون في الدور التمهيدي على رومانيا بنتيجة 1/2 وفي الدور الأوّل على إيطاليا بثلاثة أهداف مقابل لا شيء قبل أن يسحقوا المنتخب التركي بسبعة أهداف مقابل هدف ثمّ حامل اللقب المنتخب السويدي بسداسية نظيفة ويكملوا المشوار بفوز على يوغسلافيا بهدفين ليفوزوا بالذهب دون مصاعب جمّة.

في سنة 1953، فاز المنتخب المجري بكأس أوروبا الوسطى، وهي تظاهرة سبقت كأس أروبا للأمم، بعد جمعه لـ11 نقطة أمام كلّ من تشيكوسلوفاكيا والنمسا (9 نقاط). وقد انتصر المجريون في المباراة الأخيرة على الإيطاليين في عقر دارهم بثلاثية نظيفة. وتوّج بوشكاش هدّافا للمسابقة بعشرة أهداف.

مباراة القرن

في 25 نوفمبر من نفس السنة، أقيمت مباراة وديّة بين انجلترا والمجر على ملعب ويمبلي عرفت باسم “مباراة القرن”، ذلك أنّها جمعت البطل الأولمبي الذي لم يخسر أيّ مباراة منذ سنة 1950 وبين منتخب يمثّل مهد اللعبة والذي لم يخسر على ملعبه إطلاقا أمام أيّ فريق من خارج الجزر البريطانية. كان الأنجليز معتدّين بكرتهم ومستوى لاعبيهم وبتكتيكهم المعروف باسم WM (3-2-2-3) وبنجمهم الأسطوري ستانلي ماتيوز، وكانوا يجهلون التطوّر الذي وصلته الكرة داخل القارة الأروبية. وأمام أكثر من مائة ألف متفرّج، دخل الأنجليز المباراة بثقة كبيرة وبكثير من التعالي على بلد يعتبرونه صغيرا ومنتخب كان بالنسبة إليهم مغمورا ليفاجأهم هيديكوتي بهدف منذ الدقيقة الأولى ولينتهي الشوط الأوّل بتقدّم كبير للمجريين بنتيجة 2/4 وليستمرّ تعميق الفارق خلال الشوط الثاني لتنتهي المباراة بفوز تاريخي للمجر بنتيجة 3/6 بعد سيطرة كليّة على مجرى المباراة تجسّمت من خلال 35 تصويبة نحو المرمى مقابل خمس فقط للمنتخب الأنجليزي.

أثبت المجريون تفوّقهم الكبير على الأنجليز على كلّ المستويات. فمن الناحية التكتيكية، قلب شيبش التكتيك الأنجليزي ليلعب بخطّة 2-3-3-2 (وهي الخطّة التي تحوّلت في وقت لاحق إلى 4-2-4) مع وجود بوزيك كلاعب وسط ميدان محوري وإعطاء الحريّة كاملة لهيديكوتي للتحرّك بين خطي الوسط والهجوم، وهو ما أربك الدفاع الأنجليزي الذي كان يراقب عن كثب حامل الرقم 9 هيديكوتي اعتقادا منهم أنّه قلب الهجوم الكلاسيكي ممّا حرّر كلا من كوتشيش وبوشكاش. كما أنّ المجريين السحرة كانوا سبّاقين إلى اعتماد كرة القدم الشاملة (التي اشتهرت فيما بعد مع هولندا كرويف) فكانت التشكيلة تشهد تغيّرا مستمرّا وسريعا للمراكز بين اللاعبين عجز الأنجليز، المتعوّدون على بقاء اللاعب في المركز المسند إليه، عن متابعته. ومن الناحية البدنية، لم يقو الأنجليز على مجاراة النسق البدني للمجريين الخاضعين لتدريبات شاقة. وحتّى من ناحية التجهيزات الرياضية، ارتدى المجريون أحذية خفيفة ساعدتهم على أن يكونوا أسرع حركة من نظرائهم.

زعزعت هذه المباراة الثقة الكبيرة التي امتلكها الأنجليز في كرتهم التي تبيّن تخلّف أساليبها مقارنة بالمجريين وكان السير مات بسبي، مدرّب مانشستر يونايتد، من السبّاقين إلى الدعوة إلى الانفتاح على كرة القدم الأروبية ومسابقاتها. وقد تأكّدت وجاهة هذه الدعوة بعد مباراة العودة التي أقيمت ببودابست يوم 23 ماي 1954 والتي تعرّض فيها المنتخب الأنجليزي إلى هزيمة مذلّة بسبعة أهداف لهدف، وهي أثقل هزيمة في تاريخه حتّى اليوم.

في كأس العالم 1954

بعد ثلاثة أسابيع، انطلقت فعاليات كأس العالم بسويسرا ودخلها المنتخب المجري كأبرز المرشّحين للفوز باللقب، وهو ما أكّده من خلال فوزين سهلين في الدور الأوّل على كلّ من كوريا الجنوبية (0/9) وعلى ألمانيا الغربية (3/8). في الدور ربع النهائي، واجهت المجر البرازيل في لقاء عرف باسم “معركة برن” وكان من أعنف المباريات في تاريخ كأس العالم. وقد علّق حكم المباراة الأنجليزي آرثر إليس على المباراة بعد أربع وثلاثين عاما بقوله “ظننت أنّه سيكون أعظم لقاء أراه. كنت على قمّة العالم. لا أدري إن كان للدين أو السياسة دخل بما جرى لكنّهم تصرّفوا كالحيوانات. كانت فضيحة. كانت مباراة رهيبة. لو جرت اليوم، لطُرد العديد من اللاعبين ولتوقّفت المباراة. الفكرة الوحيدة التي خامرتني يومها أنّه لا بدّ أن أنهي المباراة”. كانت النتيجة النهائية انتصار المجر بـنتيجة 2/4 في لقاء شهد ضربتي جزاء وثلاث ورقات حمراء وأربع ورقات صفراء و42 مخالفة. وتواصلت المواجهة بعد الصافرة النهائية إذ اجتاح المشجّعون البرازيليون الميدان وتبادل اللاعبون العنف في الطريق إلى حجرات الملابس. وقد أصيب غوستاف شيبش بجرح في وجهه قُطّب بأربع غرزات.

في الدور نصف النهائي، واجهت المجرّ الأورغواي، المنتخب حامل اللقب الذي لم ينهزم قطّ في مباريات كأس العالم. وواجه الفريق الذهبي بعض الصعوبات، فرغم تفوّقه بهدفين، عدّلت الأورغواي قبل أربع دقائق من نهاية الوقت القانوني للمباراة، ليمرّ الفريقان إلى الحصص الإضافيّة. وحسمت اللياقة البدنية للمجريين الموقف ليسجّل كوتشيش هدفين كانا كافيين لترشيح المجرّ إلى الدور النهائي للمرّة الثانية بعد كأس العالم 1938.

معجزة برن

في الدور النهائي، انتظر الجميع فوزا سهلا للمجرّ أمام ألمانيا الغربية يكون تكرارا لنتيجة المواجهة في الدور الأوّل، خصوصا أنّ المنتخب الألماني كان مكوّنا من لاعبين ينتمون إلى بطولات جهوية. وقد اختار شيبش إعادة بوشكاش، المصاب منذ مباراة الدور الأول، إلى التشكيلة الأساسية على حساب بوداي الذي قدّم مردودا متميّزا في الدور نصف النهائي. و قد شهدت المباراة حضور عدد غفير من الجماهير الألمانية في حين لم تسمح السّلطات المجريّة إلاّ لعدد محدود من المتفرجين بالتحوّل إلى سويسرا.

تقدّم المجريون منذ الدقائق العشر الأولى بهدفين لبوشكاش وتسيبور ممّا أوحى بمباراة ذات اتجاه واحد غير أن الألمان عادوا بسرعة وعدّلوا النتيجة بعد مرور عشرين دقيقة و بقيت النتيجة على حالها إلى نهاية الشوط الأول رغم تعدد الفرص لكلا الجانبين. في الشوط الثاني اشتدّ الضغط المجري دون تجسيم للفرص و قبل نهاية المبارة بست دقائق سجّل الألمان هدفهم الثالث وعجز المجريون فيما تبقى من المقابلة عن تدارك هذا التأخّر لتفوز ألمانيا الغربيّة بكـأس العالم للمرّة الأولى في تاريخها بعد مباراة عرفت لاحقا باسم “معجزة برن” وكانت بداية الظهور الألماني على ساحة كرة القدم العالمية.

واعترت فوز الألمان بعض الشّوائب إذ يبدو أن الهدف الثاني كان مسبوقا بخطإ على الحارس غروشيتش، كما لم يحتسب الحكم ضربة جزاء على كوتشيش، وصفّر تسللا غير موجود ضد بوشكاش في الدقائق الأخيرة من المباراة. كما أشارت دراسة ألمانيّة أصدرتها جامعة لايبزيغ سنة 2010 إلى إمكانية أن يكون اللاعبون الألمان قد حقنوا بالميتامفيتامين قبل المقابلة.

نهاية الفريق الذهبي

رغم خيبة الهزيمة، تواصلت عروض المجريين الجيّدة إلى حدود سنة 1956. وكانت المباراة الأخيرة للفريق الذهبي هي التي جمعته بالاتّحاد السوفياتي يوم 23 سبتمبر 1956، حيث ألحق المجريون، بقيادة مدرّبهم الجديد مارتون بوكوفي، الهزيمة الأولى للسوفيات في عقر دارهم بفضل هدف تسيبور. بعد ذلك بشهر، اندلعت الثورة المجريّة وتدخّل الجيش السوفياتي لسحقها، في وقت كان فيه فريق هونفيد بودابست، الذي يضمّ أغلب لاعبي المنتخب، مسافرا إلى أنجلترا لإجراء لقاء ودّي مع فريق ولفرهامبتون قبل التحوّل إلى إسبانيا لملاقاة أتلتيك بيلباو في إطار كأس رابطة الأبطال. قرّر عناصر الفريق عدم العودة إلى المجرّ، وقاموا بجولة عالمية حملتهم إلى إيطاليا والبرتغال وإسبانيا والبرازيل. ورغم أنّ المكسيك عرضت عليهم اللجوء السياسي مع منحهم فرصة المشاركة في بطولتها الوطنية، فقد قرّروا العودة إلى أروبا، وانفرط عقد المجريين السحرة…

المسيرة اللاحقة لأركان الفريق

عرف الستّة العظام مصائر متباينة. وكان أكثرهم تميّزا فيما بعد فرنز بوشكاش، الذي انضمّ إلى ريال مدريد سنة 1958. ورغم أنّه كان في سنّ الـ31، فقد قضّى ثماني سنوات في هذا الفريق صنع خلالها العصر الذهبي للنادي الملكي رفقة دي ستيفانو ورايموند كوبا وتوّج بلقب أفضل هدّاف بالبطولة الإسبانية أربع مرّات، كما تحصّل على الجنسية الإسبانية ولعب مع المنتخب الإسباني كأس العالم 1962. وحلّ سابعا في قائمة أعظم اللاعبين في القرن العشرين في استفتاء نظّمته مجلّة ورلد سوكر. توفيّ بوشكاش سنة 2006 بعد صراع مع مرض الزهايمر.

أمّا كوتشيش وتسيبور، فقد انضمّا إلى نادي برشلونة في نفس السنة. وإذا كان تسيبور لم يبق هناك لأكثر من ثلاث سنوات انتقل بعدها إلى عدد من الفرق داخل وخارج إسبانيا، فقد قضّى كوتشيش سبع سنوات ببرشلونة قبل اعتزاله، وتوفيّ هناك سنة 1979 بعد إصابته بالسرطان. أمّا تسيبور فقد توفّي سنة 1997.

وواصل الثلاثة الآخرون: غروشيتش وبوزيك وهيديكوتي مشوارهم بالمجر. اعتزل هيديكوتي اللعب مع نادي ام تي كي سنة 1958 قبل أن ينتقل إلى مجال التدريب الذي بدأه مع نفس الفريق في السنة الموالية وأنهاه مع الأهلي المصري سنة 1985. وتوفيّ سنة 2002. أمّا جروشيتش وبوزيك فقد شاركا مع منتخب بلادهما في كأس العالم 1958. واعتزل بوزيك سنة 1962 اللعب مع هونفيد بودابست وانتقل بعد سنوات أربع لتدريب فريقه فالمنتخب المجري وتوفيّ سنة 1979 إثر أزمة قلبية. أمّا حارس المرمى جروشتيش، فقد انتقل إلى نادي تاتبانيا بانياز سنة 1957 وشارك في كأس العالم 1962. وتعطّل انتدابه من قبل فريق فرنزفاروشي بقرار من وزارة الرياضة المجرية، التي كانت تعتبر هذا الفريق محسوبا على اليمين، فقرّر اعتزال اللعب، وخاض مشوار التدريب. وبعد انتهاء الحكم الشيوعي، دخل غمار السياسة مع حزب فيديز المسيحي المحافظ. وفي سنة 2008، وفي خطوة رمزية، دعي للعب مع فريق  فرنزفاروشي، 46 سنة بعد حرمانه من الالتحاق به، فحرس المرمى لعدّة ثوان قبل أن يتمّ تغييره تحت تصفيق الجماهير. وكان آخر “العظام” وفاة، إذ وافاه الأجل يوم 13 جوان 2014.

وبموت جولا غروشيتش، غاب آخر رموز “المجريين السحرة”، ذلك الفريق الذي شكّل ثورة في عالم كرة القدم من خلال تغييره أساليب انتخاب اللاعبين واعتماده تكتيكات جديدة وتبنّيه المبكّر لكرة القدم الشاملة وإحداثه لخطّة قلب الهجوم المتأخّر واعتنائه الكبير بالتفوّق البدني للاعبيه من خلال التدريبات الصارمة. وبين جوان 1950 وفيفري 1956، عرف هذا الفريق 42 انتصارا وسبع تعادلات وهزيمة واحدة (نهائي 1954). وحقّق أرقاما قياسية لم تحطّم إلى اليوم كبقائه لمدّة أربع سنوات وشهر دون هزيمة (لمدّة 32 مقابلة) وتسجيله 27 هدف في نسخة واحدة لكأس العالم وتسجيله لأعرض فارق في تاريخ المسابقة. وفي يوبيله الماسي، يبقى هذا الفريق أعظم منتخب لم يفز بكأس العالم…