الاحتراف في كرة القدم التونسية: المنزلة بين المنزلتين
|دخلت كرة القدم التونسية منذ 2005 عصر الاحتراف “الكلي” الذي شمل حتّى إسم البطولة بما أنّه تحوّل إلى “الرابطة المحترفة الأولى”…تسمية فخمة، جرايات خياليّة، صفقات انتقال بمئات الآلاف من الدنانير، كلّ هذا يوحي بوجود احتراف من الطراز الرفيع بعد تجربة اللاهواية الّتي تحيل، كما يدلّ مسمّاها، على مرحلة انتقاليّة بين الهواية والاحتراف ولكنّ هذه المنزلة بين المنزلتين لازالت متواصلة، فالاحتراف لم يشمل إلا وضعيّة اللاعبين، بينما بقيت بقيّة البنية (الجمعيات والجامعات و الفكر السائد) هاوية وهو ما أدّى إلى احتراف أعرج هجين.
يستوجب الاحتراف حدّا أدنى من المداخيل القارّة الّتي تمكّن النادي من مجابهات الصعوبات الماليّة الّتي يمكن أن تعترضه والتي تفاقمت في عصر الاحتراف (ومن أسباب ذلك التضخّم في جرايات اللاعبين والمدرّبين)، وهذا الحدّ الأدنى يشكّل شرطا قبليّا للدخول في الاحتراف. ففي فرنسا مثلا، وعندما تقرّر إنشاء بطولة محترفة سنة 1932، كان من الشروط الموضوعة لمرور الأندية من نظام الهواية إلى نظام الاحتراف، أن يكون النادي حقّق عائدات تذاكر محترمة بالقدر الّذي يضمن له مواجهة المصاريف. وعموما، فإنّ أهمّ موارد الأندية المحترفة في العالم حاليّا ثلاثة: عائدات البث التلفزي، عائدات التذاكر والعائدات التجاريّة، وذلك بنسب متفاوتة من ناد إلى آخر ومن بطولة إلى أخرى. ففي البطولة الفرنسية مثلا، وحسب دراسة أعدّت سنة 2006، تبلغ عائدات البث التلفزي 57% من مداخيل الأندية الفرنسية المحترفة مقابل 20% للعائدات التجارية و 13% لعائدات التذاكر، في حين لا تمثّل الهبات والتبرّعات سوى 4% من المداخيل. أما في تونس، فالبنية معكوسة. فالأندية، وخاصة الصغرى منها، تعوّل بشكل أساسي ويكاد يكون حصريّا على الهبات. وعلى سبيل المثال، تصل مساهمة شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيمياوي إلى حدود 80 في المائة من ميزانيّة فريق قوافل قفصة في موسم 2009-2010. وفي نفس الموسم، تبرّع السيّد علي بعبورة بـ 876 ألف دينار لترجّي جرجيس الّذي تبلغ ميزانيّته مليون و 800 ألف دينار. ويقلّ التعويل على التبرّعات في الأندية الكبرى، لكن تبقى نسبته مهمّة، إذ ساهم السيّد حمدي المدّب بمليوني دينار في ميزانيّة الترجّي الرياضي الّتي ناهزت 11 مليون دينار (حول هذه الأرقام وغيرها، انظر: جمال الفرشيشي، “ميزانيات أندية الرابطة المحترفة الأولى: من أين تأتي الأموال…وكيف تنفق؟”، الصباح ،28-6-2010). هذا التعويل على التبرّعات يجعل الأندية في حالة ترقّب دائم للتبرّع، ولا تكون قادرة على العمل إلا إذا تكرّم الواهب المحسن بالتفضّل بعطاياه، وإلا فلن يتمكّن النادي من سداد المتخلّد بذمّته. وقد رأينا بعد الثورة رئيس قوافل قفصة يكاد يستجدي الولاية والشركات على الهواء (في حصّة الأحد الرياضي). كما كان النادي الإفريقي، في أزماته الماليّة وانتداباته، يلجأ بصفة تكاد تكون آليّة بـ”الأب الروحي” حمادي بوصبيع ممّا جعل هذا الأخير قادرا على التدخّل في أعمال الهيئات المديرة المتعاقبة على النادي.
وهذا التعويل شبه الكلّي على التبرّعات غير مستغرب. فالنوادي في تونس تبقى جمعيّات، أي أنّها ،حسب تعريف الجمعيّة، لا تهدف إلى تحقيق الأرباح. فهي تقوم على التطوّع ومسيّروها لا يتقاضون، أو لا يفترض أن يتقاضوا، أموالا مقابل أدائهم لمهامهم الّتي تفترض منهم الكثير من الوقت والجهد. وبالتالي يصبح التسيير في الجمعيّة مسؤوليّة ثقيلة بما أنّه يفترض تفرّغا دون أن يكون هناك مقابل. مادي وقيام الجمعيّات على مبدأ التطوّع يقلّص من جودة الخدمات المسداة. فالمسيّرون ليسوا مختصّين في التصرّف الرياضي (وهو اختصاص موجود في الجامعة التونسيّة ويتخرّج منه، مثل غيره، عدد هام من العاطلين عن العمل سنويّا) بل أنّهم ينحدرون من ميادين مختلفة ويديرون جمعيّاتهم على حدّ درايتهم وتفرّغهم وهم غير قادرين على جلب الأموال بغير الطرق الممكنة للجمعيّات. مسيّرون متطوّعون يشرفون على لاعبين محترفين، تلك هي المفارقة (الّتي تظهر حتّى من خلال التسمية: جمعيّة (=تطوّع) محترفة)، مفارقة قد تؤدّي إلى تخبّط عجيب في القرارات لعلّ من أبرز مظاهرها الإقالات الاعتباطيّة للمدرّبين. ونفس الملاحظة تنطبق على الجامعة التونسيّة لكرة القدم الّتي ختمت الموسم بقرار إلغاء النزول وهو قرار اتّخذ على عجل ودون تفكير عميق في تداعياته وربّما أريد به استرضاء الفرق “الصغرى” الّتي صدرت من بعضها بوادر غضب فكان أن استاءت العديد من الجمعيات “الكبرى” وسحبت ثقتها من الجامعة.
إنّ الاحتراف الحالي بتونس يقوم على مسلمّة أنّ تفرّغ اللاعب لممارسة كرة القدم وجعلها مهنة له كاف لتحسين أدائه، في حين أنّ اللاعب ليس في عزلة عن محيطه بشكل عام ومحيط عمله بشكل خاص. فليس الأمر سيّان أن يكون اللاعب محترفا في محيط هاو يقوم على التطوّع أو أن يكون محترفا في محيط مهني يعيش كليّا من كرة القدم. ولعلّ هذا المحيط المهني الهاوي هو الّذي يجعل عددا من اللاعبين لا يأخذون “مهنتهم” مأخذ الجدّ ويسلكون في حياتهم ما يناقض هذا الاحتراف، وهو ما يجعل عددا من أفراد المجتمع لا يستسيغون إلى حدّ الآن أن يكون لعب كرة القدم مهنة.
وللانتقال إلى احتراف كلّي، يجب تغيير هذا المحيط ليصبح محيطا يمتهن، بكامل مكوّناته، كرة القدم وهو ما يعني تحوّل الجمعيات إلى شركات رياضيّة. وليس هذا التحوّل ببدعة، وليس يقتصر على البلدان الأروبيّة، فالجزائر أقرّت منذ 2010 تحوّل النوادي إلى شركات رياضيّة بالأسهم. وهذا الانتقال يعني أن تتحوّل النوادي إلى مؤسسات لها رؤوس أموال تنشط في المجال الرياضي وتعمل بغاية تحقيق الأرباح، وهذا التغيير سيجعل مسيّري النوادي مهنيين مسؤولين أمام المساهمين عن النتائج المحقّقة ويقومون بتعبئة الموارد ويتصرّفون في الرصيد البشري للمؤسّسة، الّذي يشمل اللاعبين. وتجدر الإشارة إلى أنّ فريق الترجّي الرياضي كان سبّاقا برسمه لمخطّط للتحوّل إلى شركة رياضيّة بحلول سنة 2019 (رغم غياب الإطار القانوني لهذا التحوّل إلى حدّ الآن) .
هذا الانتقال، الّذي يجب أن يتمّ وفق شروط محدّدة (كتحقيق رقم معيّن من المداخيل القارة لفترة زمنيّة أو أن لا يقلّ رأس المال عن حدّ أدنى) ودون تعجّل، سيترتّب عنه فصل بين الرياضة المحترفة والرياضة الهاوية، أي الفصل بين المنزلتين الواقعة بينهما بطولتنا الآن، فلا تنشط ضمن البطولة المحترفة إلا الفرق المستوفية للشروط الموضوعة للحصول على صفة الشركة وبذلك تتوفّر لها المقوّمات اللازمة لمجابهة متطلبات الاحتراف. وحتّى مع إقرار هذا الاحتراف الكلّي، تظلّ كرة القدم قبل كلّ شيء “لعبة” وتختلف عن باقي المهن ويجب على اللاعبين، وأستعير هنا قولة وينتون مارساليس، أن يكونوا ممتنّين أن أتيحت لهم الفرصة للعب.