الإسلاميون و العلوم الصحيحة

Jebali-laarayedh-benkirane-nejadما يميّز أعضاء الحكومات الاسلامية التي صعدت الى سدّة الحكم في المنطقة العربية بعد التغيرات السياسية التي شهدتها المنطقة أنّ الأغلبية الساحقة لمنتسبيها متحصّلون على شهادات في الفيزياء أو الرياضيات أو الهندسة أي متحصّلون على شهادات في العلوم الصحيحة. فحمادي الجبالي الأمين العام لحزب حركة النهضة مهندس، نفس الشيء بالنسبة لعلي العريض رئيس الحكومة الحالية و محمد بن سالم وزير الفلاحة ، منصف بن سالم وزير التعليم العالي دكتور في الرياضيات. في مصر، محمد مرسي رئيس الجمهورية و الرئيس السابق لحزب الحرية و العدالة (حركة الاخوان المسلمين) هو مهندس أيضا. عبد الاله بن كيران رئيس الحكومة المغربية وأمين عام حزب العدالة و التنمية المغربي متحصّل على الاجازة في الفيزياء. محمود أحمدي نجاد رئيس جمهورية ايران الاسلامية متحصّل على دكتوراه في هندسة النقل و التخطيط.

ما يجمع كلّ هاته الشخصيات السياسية الاسلامية إذن أنها تلقّت تكوينا علميّا  و تحصيلا أكاديميّا  في مختلف اختصاصات العلوم الصحيحة و ليس في اختصاصات العلوم الإنسانية من فلسفة وتاريخ و جغرافيا و علم نفس و علم اجتماع و علوم قانونية…

هاته العلاقة الوطيدة و الحميمة بين الاسلاميبن و العلوم الصحيحة كانت دائما موجودة و متينة، فمنفّذو هجمات 11 سبتمبر 2001 كانوا قد درسوا الهندسة والطيران والفيزياء. أسامة بن لادن الرجل الأول السابق في تنظيم القاعدة كان له شهادة في الهندسة المدنية، أيمن الظواهري الرجل الأول الحالي في تنظيم القاعدة كان طبيبا جراحا.

نفس هاته المعادلة نجدها أيضا في المؤسسات الجامعية. فالإسلاميون موجودون بكثرة في كليّات العلوم و التقنية و الهندسة بينما يقلّ عددهم بشكل واضح في كليات العلوم الانسانية. و هو ما تجسّده بوضوح و على الدّوام نتائج انتخابات المجالس العلمية. فكليّات العلوم كانت دائما و لا تزال معقلا للإسلاميين. وحتّى تقهقر نتائج الفصيل الطلابي التابع لحركة النهضة الاسلامية في كليات العلوم في الانتخابات الأخيرة كان بمثابة ردّة فعل (un vote-sanction) على فشل حكومة الترويكا التي تقودها حركة النهضة وليس تغيّرا في الرؤية أو الاختيارات السياسية أو التوجهات العقائدية الايديولوجية. فلو كان يوجد فصيل طلابي إسلامي آخر بخلاف الفصيل الطلابي التابع للحزب الحاكم لتمّ اختياره من قبل طلبة هاته الكليّات..

هاته العلاقة الصّلبة و المتينة بين الاسلاميين من جهة و العلوم الصحيحة من جهة أخرى تفسّر بطبيعة النظام التعليمي السّائد في تونس و في الدول العربية بصفة عامّة. فهذا النظام التعليمي يتميّز بهيمنة التعليم التقني و التكنولوجي خاصّة في مرحلتي التعليم الاعدادي و الثانوي. فالأغلبية الساحقة للتلاميذ المتميزين يقع توجيهم و تشجيعهم للتخصص  في احدى الشعب العلمية دون شعبة الآداب التي صارت شعبة مهمّشة يختارها عامّة التلاميذ متوسطو المستوى الذين لم تتوفر فيهم الشروط اللازمة للالتحاق بإحدى الشعب العلمية. و ما يميّز النظام التعليمي العلمي والتقني  هو أنّه تعليم  يقتصر فقط على تحصيل و تجميع المعارف التقنية مع إهمال التفكير النقدي العقلاني القائم على عدم الاستكانة للسائد و المساءلة المستمرّة. ففي هاته الشعب، لا يقع تدريس مادة الفلسفة إلا في مستوى الباكالوريا فقط. وهو ما يدفع التلاميذ للتعامل مع هاته المادة باستهتار وسطحية. فهي مادة ذات ضارب ضعيف و لا يمكن أن يكون لها أيّ  تأثير على النجاح أو الرسوب في الباكالوريا.

هذا النوع من التعليم التقني و العلمي الصرف والذي يقصي كلّ محاولة للتفكير والنقد والمساءلة يصنع أناسا يفكّرون بشكل آليّ و دوغمائي. فهم تدرّبوا وتعوّدوا على وجود حلّ واحد  لكلّ مشكل، حلّ واحد يلغي بقية الحلول الأخرى الخاطئة، حقيقة واحدة ووحيدة تقصي بطريقة جذريّة جميع الفرضيّات والإمكانيّات الأخرى بعبارة واحدة على وجود الحقيقة المطلقة وضرورة الالتحاق “بالفرقة الناجية“. و هو ما تفطّن اليه بوضوح المفكّر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري عندما بيّن أن طبيعة التعليم التقني و العلمي المسيطر في الوطن العربي تغيّب التساؤل النقدي و تقولب الأفكار و الأذهان  ليستخلص بأن العقل التكنونولوجي و العلمي مستعد  دائما لتلقي العقائد بنفس السهولة و بنفس السرعة التي يتلقى بها العلوم الصحيحة. وهو يتلقى هاته العقائد دون تمحيص أو و دون أيّة محاولة لإحالتها على محك النقد و المساءلة و الشكّ. فالعقل العلمي و التقني لا يطرح أبدا سؤالي لماذا و كيف، فهو عقل همّه الوحيد التلقي ومهووس بالتّحصيل الأعمى دون انتقاء أو تمحيص.

الباحث عبد القادر الزغل عبّر عن هاته الظاهرة كالتالي: “إنّ المدهش في الأمر بالنسبة إلى المثقفين الوضعيين أو الوضعيين الجدد هو أن المحرك الأساسي لهذه الحركة (الاسلامية)، التي تعود إلى المقدس في العالم الإسلامي، لم يتشكل كما يمكن أن نعتقد من طلبة كليات اللاهوت والعلوم الدينية المهددين بالبطالة، ولكن على العكس فهو يتكوّن في أغلبه من طلبة الكليات العلمية ومعاهد التقنية” .

كل إنسان عاقل وعقلاني عليه أن يؤمن أنّ التعامل مع الظاهرة الاسلامية لا يمكن أن يكون تعاملا أمنيا إقصائيا بل بالحفر الجينيالوجي العميق و البحث العلمي المستفيض قصد الوقوف عند الأسباب المتعددة و المختلفة  التي تفسّر بروز مثل هذه الظاهرة و تطورها . والاهتمام بطبيعة التكوين العلمي و التقني الصرف لمنتسبي الحركات الاسلامية يمكن أن يطرح على طاولة النقاش إحدى الاسباب المهمة الّتي تقف وراء هذه الظاهرة.

Please follow and like us:
4 Comments

اترك رد

Verified by MonsterInsights