“مليونية” في قرطاج: ماجدة الرومي تهدينا العيد قبل هلاله…
|في بلدنا، أصبحنا نشهد كلّ أسبوع تقريبا “مليونية”. يكفي أن تدعو لتجمّع ما على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي وتدعوه مليونية، حتّى إن لم يحضر من المليون سوى ألف أو ألفين. وهي غالبا تظاهرات تفرّق بين المواطنين وتبثّ بينهم بذور الحقد والشقاق. الهدف منها فقط بيان القدرة على الحشد والمزايدة على بقيّة الفرقاء السياسيين.
بهذا المعنى، يكون حفل ماجدة الرومي بقرطاج أحقّ أن يدعى مليونيّة. فمن حيث عدد الحضور، لم يكن بالمسرح موطئ قدم، ولعلّ قرطاج لم تعرف حشدا مماثلا من قبل، ممّا اضطرّ عددا من الحضور إلى البقاء وقوفا طوال مدّة الحفل وحتّى إلى ابتداع مقاعد في أماكن تبدو مستحيلة ! وإن كان السيّد مدير المهرجان قد لوّح بالاستقالة بعد عرض الحضرة نظرا لدخول عدد من المشاهدين فاق عدد التذاكر المباعة، فعليه أن يتمسّك بها الآن. الإصرار على ترويج عدد من التذاكر يفوق طاقة استيعاب المسرح (وهي طاقة استيعاب غير محدّدة بدقّة لغياب المقاعد) أصبح عملا ممنهجا في قرطاج خلال العروض الكبرى. أمّا عن الغاية من الحضور، فلم تكن الدعوة إلى الفرقة وشتم “الطوائف” المعادية والمناداة بشعارات جوفاء. كان جميع الحاضرين يبحثون عن ميناء سلام يهب للأرواح شيئا من السكينة في خضمّ الأمواج العاتية الّتي تحاصر مركبا لا يدري حتّى ربابنته أنّى يكون مآله.
وكانت الماجدة متألّقة كالعادة. تلك الفتاة الّتي وقفت أوّل مرّة على ركح قرطاج منذ نيّف وثلاثين سنة لم تزدد إلا بريقا وتجدّدا. من الضفّة الأخرى للمتوسّط، أين لا يزال لبنان الكرامة والشعب العنيد يكافح منذ نهاية حربه الأهلية للخروج من مستنقع العنف، جاءت ماجدة إلى وطن يعاني خُمار “الربيع” وأصوات إنفجارات غريبة على أسماعه. جاءتنا مكلّلة بطوق الياسمين لتكتب على قلوبنا بريش اليمام: “تعالوا نحلّق قليلا ونغنّ معا للحبّ والسلام والوطن”. جاءتنا لتهمس في آذاننا: “خامرتنا مثل همومكم، ولم يمنعنا ذلك من أن نعيش”.
مزجت ماجدة بين قديمها وجديدها، بين أناشيد الوطن وتقاسيم الحبّ. ولكن حتّى قديمها كان “يتجافى عن البلى كأنّما لبس ثوب نعيم”. صداحها يقع من القلب موقع الماء من ذي الغلّة الصادي، وكأنّ الشاعر عنى أغانيها حين قال:
في سمعها أبديّ ريّ الظامئيــ***ــن فطعمها حاكى مياه الكوثر
وعلى غير عادتها، لم تكن ماجدة تميس ميسها البديع ولا تميد ميدها الحلو مع الأغاني الّتي تعوّدت أن تتهادى على إيقاعها كـ”كلمات” أو “عيناك”. لم تراوح مكانها طوال الحفل، كأنّ روحا من جارة القمر حلّت بها، وأجزم أنّ ذلك كان احتراما منها لظلّ الحزن المخيّم على بلادنا، وهي الّتي عوّدتنا دائما بالتزامها ورقّة شعورها. وحتّى الجمهور بدا أقلّ ميلا للرقص والاحتفال من حفلاتها السابقة، وإن لم يمنعه ذلك من الاستمتاع… بهدوء أكبر.
إثر تحيّتها المعتادة “عالسلامة يا تونس” (الّتي تغيّرت مقاطع كلماتها جذريّا عن نسختها الأولى في 1999)، غنّت ماجدة “نشيد الشهداء” لتذكّرنا أن لا ننسى، وأن نبقى على العهد، ولتقول لمن لم يرحلوا إلا بأجسادهم “رحتوا بس تركتوا رجال”. وفي الختام، وإثر كوكتيلها التونسي الذي ما انفكّت تتفنّن في اختيار أغنياته، فاجأت الماجدة الجميع لمّا أدت الأغنية الوطنية بامتياز “بني وطني”، كأنّما لتمهر بذلك تونسيّة تحتضنها في فؤادها. وقف الجميع وردّدوا معها كلمات الأغنية العظيمة في لحظات من الحماس الصادق. كأنّ قدوم الماجدة إلى تونس أصبح عيدا وطنيا. وتمنّيت لو أكثرت من أداء ما يتغنّى بلبنان، علّها تنفخ تلك الروح العاتية في فنّانينا. تمنّيت لو سمعت “عم بحلمك” أو “بيروت يا ست الدنيا”، فمثل تلك الأغاني كانت شيئا من النور المتولّد من محيطات العتم خلال الحرب الأهلية بلبنان.
وكان الأركستر السمفوني التونسي بقيادة المايسترو حافظ مقني نكهة الحفلة وملحها. كان حضوره هو العلامة المميّزة الّتي خلقت الفارق مع جميع حفلات ماجدة الرومي السابقة. والحقيقة أنّ شيئا من القلق خامرني قبل الحفل، ذلك أنّ ماجدة عملت فيما قبل مع فرق سمفونيّة عالمية متعوّدة على تقديم حفلات من أعلى طراز، في حين أنّ الأركستر السمفوني التونسي لا يقيم إلا حفلا كلّ شهر بالمسرح البلدي وبعض التظاهرات الأخرى. غير أنّ الفرقة التونسية كانت في المستوى وأكثر، وأكيد أنّ حرفية الماجدة العالية وقدومها قبل شهر من الحفل للتدرّب مع الأركستر كان لها الأثر الكبير في حسن الأداء. تميّز الأركستر في عزف الأغاني الّتي تنحدر من الموسيقى الكلاسيكيّة كـ”غمّض عينك” و”حبيبي” وأضفى رونقا خاصا على بقيّة الأغاني، فـ”العزف السمفوني” يضفي دائما شيئا من المهابة الاستثنائية الّتي ترتفع بالأغنية إلى عوالم أخرى. كما أبدع الأركستر في عزف النشيد الوطني في بداية الحفل وفي أداء المقدمة الموسيقيّة لـ”بني وطني”.
ورغم كلّ شيء، أبت السياسة إلا أن تحضر. ففي كلمة ماجدة الافتتاحيّة (وماجدة بليغة في خطاباتها بلاغتها في غنائها)، قام الحاضرون بالتصفير لمّا شكرت وزير الثقافة (وكأنّهم يريدون منها أن تتخذ منه موقف العداء !) وقبيل نهاية الحفل، سمعت بعض الأصوات التّي تجرّم أحد السياسيين. غير أنّ ذلك لم يؤثّر على سير الحفل، عكس ما تداولته بعض وسائل الإعلام وتمّ الترويج له في الشبكات الاجتماعيّة.
وهكذا كان حفل ماجدة الرومي بقرطاج هذه السنة برزخا لجأنا إليه لنأخذ ذخيرة من السكينة والجمال نتزوّد منها حتّى حفلها القادم. أتتنا الماجدة لتغسل عنّا همومنا وتردّنا إلى شيء من أنفسنا وتهدينا أنوار عيد أشعّت قبل هلاله…عيد عساه يمدّ جناحه ليُظلّ بلادنا العائشة على ضفاف النار.
مقال رائع عن حفل ماجدة الرومي يا حمزة و كم راق لي وصفك لها بالماجدة فهي فعلا كذلك. ليت بلادنا تتألق كما تألقت الماجدة على ركح قرطاج …
Mejda ara9i9a ajamila 7athartou allhafla wakenat akthar min ra2i3a