رسالة موجزة إلى كاتب كبير
|بقلم: خالد جبّور
سيدي الكريم الطاهر بن جلون،
تحية سلام ومحبّة، وبعد:
قرأت باهتمام كبير _ وهذه عادتي مع كـل ما تكتبون_ مقالكم الذي عنونتموه “في السابع من أكتوبر ماتت القضية الفلسطينية مُغتالة.” ولا أخفيكم أيها الكـاتب الفذ كم خاب ظنـي فيكم وكم كان إحباطي شديدا إثر موقفكم الذي لا مسوغ له إلاّ ما سماه سارتر سوءَ النيــة Mauvaise foi، وأدعوكم والقارئَ الكريم إلــى تمحيص هذا المفهوم وبيان دلالاته في ارتباطه بموقفكم هذا.
نعم، إنها سوء النية بالمعنـى السارتري للمفهوم، وليس معنـى هذا عدمُ اصطفافكم جنب المقاومة الفلسطينية اصطفافا قَـبَـلِـيّـا، وإنما انزلاقكم انزلاقا فادحا أدى بكم إلى المسّ بأسمـى قيمة من القيم التـي ناضل ويناضل من أجلها كبار المثقفين، من فلاسفة وروائيين وفنانين وغيرهم، ألا وهي الحقيقة. وسوء النية، سيدي المحترم، أخطر من الكذب بما فيها من تشويه للوقائع وتحريف للواقع، تغطيةً للممارسات الأكثر خسة وفظاعة. وإليكم بيانُ ذلك:
لقد شبّهتم الفلسطينيين بـ” الحيوانات” وهذا التشبيه ليس وليد إلهام ولا نتاج خيالكم، بل هو نفسه الذي استعمله رئيسُ وزراء الاحتلال. وفـي ذلك انحياز بيّن وتبنٍّ جليّ لموقف هذا الأخير. لكن ما معنـى أن يُشبّه المُستعمِرُ الشعبَ المُحتَلَّ بالحيوانات؟ يعني ذلك بكـل بساطة نزع طابع الإنسانية عن أفراد هذا الشعب، وبالتالـي جواز ارتكـاب أخطر الجرائم في حقهم، وهذا ما كـان عمليا، وتشهد عليه الصور التـي لا شك أنك شاهدتها على القنوات التلفزيونية كلّها والتـي لا شك أنها صدمتك كما صدمت العالم أجمع.
هذا وقد ردّدتم فـي أكثر من موضع في مقالكم لفظ ” الإرهابيين” قاصدين به المقاومين الفلسطينيين. وا حسرتاه على كاتب يروض قلمه كي لا يخط إلا جزءا من واقع الحصار والاغتيال والتعذيب الجماعي والتجويع والتجهيل والتنكيل والمس بكرامة شعب بأكمله طيلة ما يزيد على سبعة عقود! وهذا القهر، هذه الإبادة، هذا الهدر للكرامة وكل الانتهاكات التي تشهد عليها تقارير المنظمات الحكومية وغير الحكومية لا سبيل إلى الحيلولة دون تحوّلها إلا استلاب مطلق يفقد معه الفلسطينيّ إنسانيته إلا بالمقاومة، وأدعوكم، سيدي الكريم، إلى مراجعة ما كتبه فرانز فانون بهذا الصدد في كتابه الموسوم بــ ” معذّبو الأرض.”
إن الإرهاب الذي يمارسه الكيان الصهيوني على أبناء الشعب الفلسطينـي إرهابٌ مدججٌ بأحدث الأجهزة التكنولوجية الحربية: من طائرات وقبب حديدية وبوارج بحرية وقنابل فسفورية ( مُحرَّمٌ استعمالُها دوليا)، فإنْ نحن عددنا ضحايا هذا الإرهاب، ليس فقط من الفلسطينيين ولكن في مختلف المناطق المجاورة بل والبعيدة، لما وجدنا غير البكاء والتّأسـي والإدانة والاستنكار تعبيرا عن هول نتائج هذا الإرهاب المدعوم من طرف كبرى الجيوش العالمية.
سيدي الطاهر، أنسيتم الطفل الصغير محمد الدرة، وهل تذكرون واقعة صبرا وشاتيلا؟ وفرقة غزة التي استهدفتها المقاومة، ألا تعلمون أنها من نفّذ واحدة من أبشع الجرائم الإرهابية في حق مدنيين يحتجون، إبان مسيرات العودة الكبرى، لا أسلحة لهم سوى أيديهم يصفقون وحناجرهم يصدحون بها نصرة للحق، فانهالت عليهم الفرقة العسكرية بوابل من الرصاص الحي الذي استهدف الرؤوس، رؤوس الأطفال والنساء مباشرة ؟
وأخيرا، وتعضيدا لما تقدم، فإن أكثر ألوان الإرهاب وحشية، إنما هو ما حدث في 17 أكتوبر 2023، حيث استهدفت طائرات الاحتلال مستشفى يضم الآلاف من الأرواح البشرية من معطوبين يتوسلون تضميد جراحهم ونازحين لا يسعون إلا إلى الأمان، فرجمتهم قوى الظلم الغاشم بالصواريخ حتى تهدّم المستشفى على رؤوس من فيه مخلفة أكثر من 500 ضحية حسب التقديرات الأولية. فهل هناك إرهاب أشد إرهابية من هذا؟ أليس جعل الضحية جان والجاني ضحية بأبشع ضروب سوء النية؟
وفي الأخير، نقول إننا من قرائك الأوفياء، وكم أحببنا كتاباتكم وخصوصا منها التنويرية ككتاب ” الإرهاب كما نشرحه لأطفالنا” لكن تلك الأسطر القليلة التــي نشرتموها مؤخرا جعلتنا نتساءل والحيرة تعمنا: أليس مِنَ المهم فضح هذا الإرهاب المستمرّ المدجّج بأخطر الأسلحة، وبيان أخطاره ومساسه بالقيم الإنسانية كلّها، من تآخ وعيش مشترك وعدل وحرية وكرامة ونحو ذلك؟ ولم لا التفكير في شرحه وتفكيكه حتـى يفهم أبناؤنا إلى أي طريق يؤدي، وأي عالم ينشد، منددين ” تربويا ” و”فكريا” بشريعة الغاب حيث القوي يلتهم الضعيف، وحيث الأقلام لا تجد بدا من الاصطفاف ضد هذا الأخير معضّدةً بذلك منطق إرادة القوة وهو المنطق المناقض لإرادة الأقلام التوّاقة إلى العدل والحرية والكرامة ؟
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 32، نوفمبر 2023.
للاطّلاع على العدد كاملا: http://tiny.cc/hourouf32