نيتشه: محطّم الأصنام أم محطّم الفلسفة؟
|بقلم: مريم مقعدي
في مستهل كتابهما ” لماذا لست نيتشاويا “، يشير اندريه كانت سبونفيل ولوك فيري إلى أن ” نيتشه ليس إنسانا، بل هو عبوة ديناميت “. ذلك لأنه عمل بكل شراسة على تحطيم الأوهام الميتافيزيقية القديمة التي روّجت لها الفلسفة اليونانية وعلى تحطيم ذلك الفصل الميتافيزيقي القائم بين الروح والجسد وفي المقابل سعى إلى الرفع من قيمة هذا الأخير. فعلى الرغم من النقد المزدوج الذي يوجهه نيتشه للفلسفة الإغريقية، فهو من جهة يعترف صراحة بكونه ” ابن الحضارات الأكثر قدما” ومن جهة أخرى نجده يصف فلاسفة الإغريق بأبشع النعوت، إذ نجده يصف سقراط في كتابه ” أفول الأصنام” بـ”سقراط العجوز ” وبـ”سقراط اللعين”…، لأنّ هذا الأخير أنهى زمن التراجيديا اليونانية وقضى على تلك الاحتفالات بالحياة التي تعلي من قيمة الجسد وتثمّن الصراع.
لم يكتف نيتشه فقط بتفجير كل الأصنام التي قام عليها الإرث الميتافيزيقي القديم، بل إنّ مطرقته أيضا قد طالت الفلسفة الحديثة، ولا سيما الأخلاق الكانطية التي تقوم أساسا على الواجب الأخلاقي. لقد اعتبر نيتشه هذا النوع من الأخلاق ” أخلاق العبيد والضعفاء” الذين لم يتدربوا بعد على تجاوز ذلك “الإنسان الأخير” الذي هتف به زرادشت في خطبته للجماهير قائلا ” الإنسان الأخير شيء لابد من تجاوزه “، وذلك نحو الإنسان الأعلى الذي بإمكانه أن يخلق أشكال اقتدار جديدة في الحياة، نحو الإنسان الأعلى الذي يكون قادرا على خلق ألواح جديدة كي يخط عليها قيما جديدة، نحو الإنسان الأعلى الذي يعلي من قيمة جسده بوصفه معنى الحياة. على هذا النحو إذن ينقد نيتشه أخلاق كانط التي تطلّبها الذوق الديمقراطي الحديث، إذ من غير المشروع بالنسبة إلى نيتشه أن نخضع كل الناس إلى قانون أخلاقي واحد وذلك يعود لاختلاف طبائعهم واختلاف تمثلهم للأخلاق ومحاولة إخضاعهم إلى قانون أخلاقي واحد هي في حقيقة الأمر محاولة تدجين لهم.
كما أنّ نيتشه باعتباره متفلسفا ضمن أفق الديانة المسيحية كان على وعي بأنّه ما إن دخل الدين أفق الفلسفة حتّى صار الفيلسوف غير ممكن، ولعل هذا ما يبرّر مسارعته بتحطيم كل الأصنام التي قام عليها الدين، بل أكثر من ذلك لعل هذا أيضا ما يبرر قوله “إن الإله قد مات وذهبنا في جنازته”. وبهذا المعنى إذن غادر الله مملكة الفلسفة بالنسبة إلى نيتشه.
لم تنج إذن الفلسفة الإغريقية ولا حتى الفلسفة الحديثة من “لعنة” النقد الذي وجّهه نيتشه للفلسفة خاصة وللمعرفة على وجه العموم، فإن ما أدى إليه تفكيره هو ” إدخال المرض للفلسفة “، ذلك انه قد وسع كثيرا في نطاق التنسيب لا فقط في مجال القيم وإنما تجاوز ذلك نحو تنسيب الحقيقة ذاتها “، بل أكثر من ذلك يشير إلى إن هذه الأخيرة لا معنى لها وفي المقابل دعا إلى الكف عن هذا الفعل الميتافيزيقي لأنّ المفاهيم لا هوية لها وإنما هي مجرد أوهام نسينا أنها كذلك.
إن هذا التنسيب الذي طال الحقيقة ذاتها لدى نيتشه هو الذي حكم تفكيره بالسفسطائية في ظل عدم وجود حقيقة ولعل هذا ما دفع باندريه كانت سبونفيل إلى اعتبار نيتشه أعظم سفسطائي عرفته البشرية إلى جانب بروتاغوراس. وإذا كان ” كل شيء خاطئا ” مثلما قال نيتشه ففي أي شيء يمكن أن نفكر إذن؟ يبدو أن هذه الإطلاقية في مفهمة الحقيقة لدى نيتشه وتلك الرغبة في العيش ما وراء الحقيقة وما وراء الخير والشر ( اللااخلاقية ) وما وراء الخطأ والصواب جعلت من الفن المفرّ الوحيد لمقاومة العدمية، ونعني هنا بمقاومة العدمية أن يعيش المرء حياته وكأنها أثر في الفن، أي أن يصدّق الفن ويكذّب حياته وهو ما دفع بنيتشه أن يقول ” لنا الفن كي لا تميتنا الحياة “.