ما الأساليب التي انتهجتها السلطة للحفاظ على ”وهم“ السيادة؟
|بقلم: عماد قيدة
نستهل هذه المداخلة بالإشارة إلى أن كلمة “وهم” في العنوان نوردها بين ظفرين، ذلك أننا لا نسعى هنا إلى إبداء رأي سياسي أو موقف من حالة السيادة اليوم، بقدر ما نحاول تبيان مدى زئبقية المفهوم وخضوعه المستمر للتحديث والتحوير، استنادا على الاحداث السياسية الكبرى والحروب وتمركز نطاقات القوة والهيمنة، كما على تطور النظرية السياسية واشتغالها على مفهوم السيادة بصفة أكثر عمقا.
ما الأهمية الحقيقة للسيادة، وما أهمية أن يدفع الفرد أو الطبقة أو الهيكل الحاكم لأن يسعى إلى تعزيز الإحساس العام بالسيادة، حتى خلال أكثر فتراتها انحسارا وضعفا. وهل بإمكان الشعب أو المجموعة الخاضعة لسيادة ما أن تطمح إلى آليات ومقاييس واضحة تمكنه من معرفة مدى تمكن بلده بالسيادة الكاملة، التي تزعم سلطته أو حكومته أنها تملكها؟
السيادة: مفهوم فتي بين مد وجزر النظريات
يتفق أغلب علماء السياسة أن مصطلح السيادة يرتبط بمفكر واحد طوّره وأفرد له قسما كبيرا في مؤلفاته، هو الفرنسي جان بودان.
ولد بودان في زمن الانشقاق الديني في أوروبا وطور نظريته عن السيادة انطلاقا مما شهده من تناحر بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت المسيحيتين لذلك فإن مفهوم السيادة عنده جاء بمثابة التلبية لنداء اللحظة، حيث اعتبر من الضروري وجود قوة بإمكانها أن ترتفع فوق الفصائل المتحاربة وإجبارها على الخضوع لنظام علماني يسمح لأشكال الإيمان المتعارضة بالوجود جنبا إلى جنب وذلك من خلال تحويل الإيمان إلى شأن شخصي خاص.
من منظور تاريخي، لم يكن بإمكان أحد أن يضطلع بتلك المهمة غير الملك الذي يتربع على قمة الهرم الإقطاعي. ومن أجل إلغاء القوانين التي تجاوزها الزمن، احتاج هذا الأخير إلى دمج حقوق السيادة التي كانت متناثرة (من بينها سيادات اللوردات على أقاليم معينة) كما أن سن القوانين للنظام الجديد كان ضرورة ملحة في سبيل إنهاء الحرب وانشاء مجتمع سلمي جديد. صارت الإرادة الحرة للملك إذن مصدر التشريعات عوضا عن القانون الإلهي للكون.
بعد خمسة وسبعين سنة من موقف بودان من السيادة، جاء لويثان توماس هوبز لينسج على منواله في إعطاء الملك صلاحيات وسلطة كبيرة على الأفراد وعلى حريتهم. كان ذلك في زمن حرب دينية أخرى، حيث رأى هوبز أن السلم الداخلي لا يمكن أن يستعاد إلى عبر سلطة عليا قاهرة. ورغم أنه اعتقد أن السلطة تنبثق بالضرورة من الشعب، إلا أنه تمسك بكون أمن الأفراد هو مصلحة كبرى على الجميع أن يتنازلوا عن حريتهم الخاصة للملك حتى ينعموا بالأمن.
كانت السيادة إذن في مفهومها الأوّلي الفتي، تحيل أساسا إلى عملية تجريد تاريخية للسلطة والامتيازات عن أطراف معينة، وتجميعها من ثم في قبضة طرف واحد، رأت المرحلة أنه الأكثر أهلية وقدرة على توفير مصلحة عليا، هي الأمن وتفادي الانقسام.
من خلال نموذجي بودان وهوبز، الذين كانا ملكيي الهوى والتوجه، أي من مناصري الحكم الملكي، فإن سلطة العرش سعت من خلالهما إلى تغليب كفتها على حساب المتناحرين حول من سيحكم تلك المرحلة الحساسة.، ثم أنه سوف يستمر ارتباط مفهوم السيادة بالأمن الفردي والجماعي لمجموعة ما إلى يومنا هذا، لكن بتنويعات كثيرة.
يختلف مفهوم الأمن الذي انبثقت منه الحاجة الملحة للسيادة عشية أفول العصور الوسطى والانقسام الديني عن مفهوم الأمن اليوم، إذ لم يعد يحيل فقط على سلامة الحرمة الجسدية للأفراد وتماسك بنية المجموعة، بل صار يميل أكثر للأخذ بعين الاعتبار الأمن الاقتصادي، وهو ما كان على الأرجح شبه مغيب في زمن نشوء المفهوم.
بعد الثورتين الكبيرتين، الفرنسية والأمريكية، برزت فكرة السيادة الدستورية، حيث لم تعد السيادة المطلقة لفرد واحد تخدم المصلحة العامة، أكثر مما تضر بها عبر الزياحات عديدة من الاستبداد والاثراء وخوض الحروب بلا مبرر.
وجدت هذه السيادة أرضا خصبة لها خاصة في المستعمرات الانجليزية في أمريكا، فقد ظهرت مطالبات ببرلمانات محلية للمستعمرين الانجليز بمعزل عن البلد الأم انجلترا توقا إلى تمثيلية أفضل ونظام ضرائب أكثر عدلا، وانتهت بإعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية التي يحكمها دستور، بما أن الملكية لم تكن ممكنة، فضلا على أن الإقطاعية لم توجد هناك يوما.
في هذا الصدد نلاحظ إذن ظهور دور العامل الضريبي الاقتصادي، جنبا إلى جنب مع العوامل الاخرى، في إعادة تعريف مفهوم سيادة الأمة في هذه الحقبة التأسيسية للدولة الحديثة.
بالمرور إلى دولة أخرى، هي ألمانيا، نجد أن التفاعل التاريخي مع عصر الثورات الشعبية ذاك كان مغايرا، إذ أن المقاطعات والمدن الحرة والإمارات التي كونت فيما بينها، بعد سقوط حماية نابوليون عليها، ما سمي بالكونفدرالية الالمانية والتي كان الغرض منها حسب مؤتمر فيينا لسنة 1820: “اتحادا دوليا للأمراء الالمان والمدن الحرة ذات السيادة . غرضه الحفاظ على استقلالية وحرمة الدول المنضمة الى الكونفدرالية”.
سمح الامراء في هذه الكونفدرالية بإنشاء دساتير محلية تقيّد بعض الشيء الحكم المطلق، لكنها كانت بالأساس تقوم بمهمة عكسية، في علاقة مع النزعة الدستورية التي سادت أوروبا في ذلك الوقت، فقد رأى حكام المقاطعات الالمانية أن السماح بظهور هذه الدساتير أقل الخيارات مرارة، في مواجهة خطر الثورات والدساتير الشعبية.
بدأت أول محاولات تنسيب السيادة في الظهور في ألمانيا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1865) في أعمال المدافعين عن المذهب الدستوري الليبرالي من أمثال يوهان كاسبار بلونشلي الذي رأى أن “الإطلاقية ليست سمة ضرورية للسيادة، بل على العكس من ذلك، أن سيادة محدودة ينظمها الدستور تعكس الفكرة الحديثة للدولة، ومن ثم فإن كمال الدولة إنما يقود من السيادة المطلقة الى السيادة النسبية”.
لكن بعد ثورة 1848 زال التأثير الذي أحدثته النظرية الدستورية الليبرالية، وجعل الثورة الجامحة والفوضى المترتبة عنها هنا وهناك من فكرة السيادة المطلقة أمرا مقبولا أكثر من ذي قبل.
نلاحظ مرة أخرى إذن أن المفهوم خضع مجددا إلى تحويرات فرضتها مرحلة ما، كما وجدت نفسها تتأثر بروح العصر الذي تناقش فيه، سواء من جهة مفكرين محسوبين على جهات حاكمة أو معارضين لها.
السيادة في زمن العولمة
يرى الكثير من المختصين أن أكبر تحول شهده مفهوم السيادة منذ ظهوره في فجر الدولة الحديثة الأوروبية، كان انطلاقا من سبعينات القرن العشرين على يد مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغن في الولايات المتحدة.
كانت الحرب الضروس التي أعلنها هذا الثنائي على كل أنواع التضامن الاجتماعي والاقتصاد الليبرالي المطوق والرأس المال الوطني، بمثابة رصاصة الرحمة على كل مكتسبات دولة الرفاه في القرن العشرين والتي كانت تتعامل مع الشركات والمؤسسات الوطنية كشريك في البناء والنمو ورفاه المجموعة الأفراد، قبل أن يتم إطلاق العنان لما نسميه اليوم الليبرالية الجديدة، والاقتصاد المعولم والشركات عبر القطرية.
لاقت الليبرالية الجديدة مقاومة باسلة من رأس المال الوطني ومن اتحادات العمال على حد سواء، معتبرين أن فتح الموانئ البريطانية والامريكية أمام جميع أنواع السلع اليابانية وغيرها، إنما يتعارض مع مبدأ السيادة الاقتصادية.
إلا أن المشروع الذي دشنته بريطانيا والولايات المتحدة سرعان ما سحق خصومه حول العالم وصار اليوم أمرا واقعا تعترف به تسعون بالمائة من دول المعمورة وتكرّس قوانينها وسياساتها باستمرار حتى تتلاءم مع هذا الواقع.
لم تقم النيوليبرالية بمفهومها الاقتصادي، بمفردها بالدفع نحو مراجعة معنى السيادة في أيامنا، بل إن تنامي نفوذ المنظمات غير الحكومية والهيئات الرقابية والحقوقية والجهات المالية المانحة العابرة للبلدان أخذت هي الأخرى نصيبها على طاولة النقاش، إذ صار من غير الممكن اليوم الحديث عن قرارات وتشريعات كبرى تتخذها أي دولة ما بمعزل عن إطارها القانوني والأخلاقي والاقتصادي الدولي.
كل هذه الهزائم، ان صح التعبير، للسيادة الوطنية بمفهومها الكلاسيكي، جعلت شقا من المختصين يتحدثون عن كوننا نعيش حقبة ما بعد السيادة. إلا أنه بالرجوع إلى التاريخ، سنجد كما أشرنا سابقا أن كل فترة كان لها منكرو السيادة الخاصين بها، ذلك أن سقف تنازلاتهم أو قدرتهم على تطويع المفهوم كانت محدودة أو عصية على التكييف. يقول الباحث الألماني ديتر غريم ردا على إعلانات موت السيادة:
“لقد شهدنا ادعاءات سابقة تقول أنه لا يمكن التوفيق بين المفهوم والافكار الراهنة عن الحكم السياسي المتمتع بالشرعية، أو إن الشيء الذي يصفه قد اختفى، ومن ثم وجب حذف المفهوم نفسه من قائمة المفردات القانونية والسياسية، ولقد ثبت عموما عند الفحص الدقيق ان ذلك ينطوي على اختفاء الشروط التي تخص مفهوما محددا للسيادة … على منكري السيادة أن يفكروا في احتمال قدرة المفهوم على التكيف مع الظروف أو القيم المتغيرة دون فقدان جوهره أو وظيفته.
ويبدو هذا الخيار أقرب إلى الصحة، إذ تستمر السيادة في القيام بدور مهم في الوثائق القانونية الداخلية والدولية وكذلك في العلاقات الدولية. فالدول ترفع وترفض مطالب باسم السيادة، والمنظمات الدولية تتجنب حرمان الدول من سيادتها. وتضفي حالة القانون الدولي الوضعي والممارسة السياسية على السيادة مطواعية كبيرة لا ينبغي تجاهلها.”
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، كتعقيب على كلام ديتر غريم هو:
ما نوع السيادة، وبدرجة أهم، ما فائدة سيادة يتم تطويعها لتتناسب مع القيم الدولية المستجدة أو القضية الخارجية المفروضة على دولة ما بواسطة قوة الهيمنة الاقتصادية/العسكرية، مثلا بقوة البروباغندا والأموال التي تضخ للتأثر على الرأي العام داخلها؟ وماذا بقي من السيادة الداخلية والخارجية لدولة تجد نفسها مجبرة على إعادة تعريفها لسيادتها على نفسها من أجل اعتبارات نفعية بحتة؟ في هذه الحال ألا يجب فعلا إنزال السيادة من علياء شموخها كمبدأ فوق المبادئ، ووضعها في صف ثان أو ثالث في ترتيب القيم العليا التي تجعل من الدولة دولة مستقلة؟
هي أسئلة حارقة تستوجب منا بحثا تاريخيا ونقاشا اقتصاديا وقانونيا متجددا خاصة في ضوء ظهور ما لا يحصى من مظاهر خرق السيادة الوطنية والتعدي عليها من جانب عديد الأطراف، لعل أهمها السيادة البيئية وفقدان سيطرتنا غير المسبوق على قسم كبير من شريطنا الساحلي الذي يستعمل كمكب لنفايات سامة لدول من الشمال. كما تتطلّب إعادة النظر في المعاهدات التي تقدم عليها حكومات ضعيفة وتابعة، مع بلدان اوروبية كفرنسا وايطاليا حول التعاون والتنسيق لاحتواء الهجرة غير الشرعية، ببنود كثيرة تمس السيادة الوطنية وتجعل من خفر السواحل الذي ندفع له من أموال ضرائبنا، يعمل خادما وساهرا على أمن دول أوروبية غنية.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 19، سبتمبر 2022، ص. ص. 16-17.
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf19