تمثّلات الفترة الاستعمارية في فيلم “ما يدين به الليل للنهار”
|بقلم: فهمي رمضاني
يُعيد فيلم المخرج الفرنسي ألكسندر أركادي “ما يدين به الليل للنهار” والمقتبس من رواية تحمل نفس العنوان للروائي الجزائري ياسمينة خضرا بناء الذاكرة الجمعية الجزائرية من خلال استحضار حقبة تاريخية مهمة في تاريخ الجزائر المعاصر، تداخلت فيها عدّة عناصر وهي فترة الحضور الاستعماري الفرنسي التي أحدثت تحوّلات في كل المجالات، كما أنها لا تزال إلى اليوم محلّ اهتمام واسع من لدن المؤرخين. في هذا الإطار، يعود بنا الفيلم إلى هذه الفترة ليسلط الضوء على قضايا متعددة من خلال قصة حب حزينة بين يونس أو جوناس الجزائري العربي وإيميلي اليهودية الفرنسية.
يخضع الفيلم إلى نسق استرجاعي، حيث يشرع يونس في استحضار الماضي الذي يقول عنه منذ البداية أنه قد أصبح أمامه في حين أن المستقبل ظلّ من خلفه، ويكشف ذلك عن غربة يونس في علاقته بالزمن، إذ يقول: “عندما أخذ العُمر مكان الزمن، كل آفاق العالم صارت ذاكرة لنا”. ولا ريب أن تداخل الأزمنة وتشابكها يعكس التراجيديا التي يعيشها البطل والتي سيكشف عنها الفيلم طوال ساعتين وأربعين دقيقة.
أول ما يشُدّ انتباهنا في الفيلم هو التصوّرات والتمثّلات التي يقدمها المخرج ومن خلاله الروائي حول حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر، إذ يُضيء جوانب أخرى من هذه الفترة بعيدا عن المواقف السياسية والايديولوجية وبعيدا كذلك عن الصورة النمطية للكفاح السياسي والمسلّح ضد الاستعمار، فقد أثار هذا العمل قيما تجاهلتها الرواية الرسمية للتاريخ مثل قوة الصداقة والحب والتعايش بين الأجناس المختلفة ونوستالجيا المعمرين الذين غادروا الجزائر بعد اندلاع معركة التحرير. في هذا الإطار كذلك، يعرض الفيلم التداخل بين تصورات الأهالي ومواقف المُعمرّين وتمثّلهم لحقبة الاستعمار، ففي حين يرى فيها “الأقدام السود” فترة مليئة بالذكريات الجميلة في وطنهم الذي ولدوا فيه وترعرعوا فيه، فإن الجزائريين يعتبرونها حقبة مليئة بالآلام والاستغلال والقسوة والبؤس والفقر.
وقد عبّرت الشخصيات في الفيلم عن هذه التصورات المُتداخلة، إذ جسّد عم يونس (محمد محيي الدين) وزوجته الكاثوليكية الفرنسية مادلين الحب والتعايش بين مسلم جزائري ومسيحية فرنسية، أما جون كريستوف صديق يونس فيمثل حنين “الكولون” للجزائر الوطن، فقد أصر على أن الجزائر موطنه الوحيد إذ يقول بعيد اندلاع الثورة الجزائرية المُسلّحة” نحن بموطننا لن نرحل أبدا”. وعند نهاية الفيلم، حينما التقى يونس بصديقه جون كريستوف في فرنسا سنة 2010 بعد عقود طويلة يستحضر هذا الأخير مشهد رحيله عن الجزائر في ستينات القرن الماضي قائلا “لقد أجبرونا على المغادرة… حقائبنا لا تزال مترعة بالأشباح… أنا لن أنسى أبدا الجزائر فهي قطعة من جسدي… أفضّل ان أحتفظ بها كما كانت… ولكن لن أعود إليها أبدا “.
نجد كذلك في ثنايا الفيلم إثارة لنفس المسألة لكن من جانب آخر، ففي حوار بين يونس والمُعمّر الإسباني جون روسيليو، يتحسر هذا الأخير على اقتراب موعد تهجيره من الجزائر وخسارته بالتالي لحقله ولأرضه، إذ ينظر مليا إلى حقول العنب قائلا ” حينما جاء جدنا إلى هنا لم يكن هناك شيء سوى الحصى… هاته البلاد تدين لنا بكل شيء…كانت مجرد حصى بائس وجعلنا منها جنات عدن… هل تعلم لماذا هاته الأرض على درجة كبيرة من الخصوبة؟ لأنها تعلم بأننا نحبها… ولن يبقى في الجزائر بعد رحيلنا سوى الحصى”. أما يونس الذي ينظر إلى أحد الرعاة في الجبال، فقد أجابه قائلا ” هذا الحصى لا ينتمي إليكم… هاته الأرض ليست لكم… إنها لهذا الراعي…”
يكشف هذا الحوار القصير عن اختلاف تمثل كل من الجزائري والمعمر للوطن، فإذا اعتبر المعمّرون أنهم أحقّ بهذه الأرض لأنهم أدخلوا الرأسمالية والصناعة و”الحضارة” وفق سرديات رجال الاستعمار، فإن الأهالي يعتبرون أن الجزائر ملك أجدادهم الذين تعاقبوا على هذه الأرض منذ القدم. وهنا اعتبر أحد النقاد أن الفيلم مواساة للفرنسيين فيما فقدوه من ذكريات جميلة بوطنهم الجزائر وهو كذلك دفاع عن حق الجزائريين في تقرير مصيرهم.
الإشكالية المركزية ربما التي يتناولها الفيلم هي شخصية البطل يونس ذلك الفتى الفقير الذي سيربيه عمه الصيدلي وزوجته مادلين الفرنسية ليتحول بسرعة من يونس إلى جوناس وهو الاسم الفرنسي الذي اختارته له مادلين التي جعلته يتعرف على فرنسا ويعيش حياة أقرب إلى الفرنسيين منها للعرب. يقول يونس معلقا عن ذلك “كان ذلك مع مادلين عندما اكتشفت عالما لا يزال مجهولا …فرنسا …بوداعة أخذتني إلى كون آخر…”. ويؤشر هذا التحول على ولادة أزمة الهوية عند يونس فقد كان يشعر بنوع من التمزق الهووي الذي يكشف عن حضور شخصية مركّبة، فهو جزائري عربي لم ينس أصوله وجذوره لكنه كذلك جوناس الذي تجمعه بالفرنسيين رابطة وثيقة. لذلك يمكننا أن نتبيّن بأنّ مأساته الحقيقية تكمن في كونه عجز عن العيش بهوية مزدوجة، ففي بعض الأحيان يهرب من ماضيه وهويته العربية لكنه لا يجد ملاذا في هويته الغربية الفرنسية، الأمر الذي جعله منبوذا من قبل بعض الأهالي لأنه صديق الفرنسيين كما تأزمت علاقته بالفرنسيين أنفسهم حينما اندلعت ثورة التحرير المسلحة. ويمكن القول بأن هذه المأساة قد تجسدت في كل لحظة من لحظات حياته: فقد فقَد بعض الأصدقاء، ثم تخلى عن إيميلي فيما بعد، ليفقد عائلته في النهاية ويقرر العيش وحيدا.
المأساة الأخرى التي عاشها يونس تكمن أساسا في قصة حبه لإيميلي. هما يحبان بعضهما البعض منذ الطفولة حينما كانت إيميلي تأتي لتعلم دروس الموسيقى عند مادلين ويلتقيان مرة أخرى في مرحلة الشباب ذات ليلة في حفل راقص لكن يونس يرفض مبادلة إيميلي الحب بسبب علاقته بوالدتها. هكذا يعيش يونس آخر فصول مأساته إلى أن تقرر إيميلي الزواج من صديقه ثم الرحيل فيما بعد والعودة إلى فرنسا.
تطرح قصة الحب بين إيميلي ويونس أسئلة من قبيل علاقة العاطفة بالعقل وهل يمكننا تجاوز أخطائنا وماذا سيكون مصيرنا لو أننا بقينا أسرى لأخطاء اقترفناها في مرحلة معينة من حياتنا؟ ألا يصبح آنذاك الماضي أمامنا والمستقبل من خلفنا؟ يجيبنا الروائي الجزائري في نهاية الفيلم عن هذه الأسئلة في مقولة رائعة “من يفوّت على نفسه أفضل قصة في حياته لن يعيش سوى سنين ندمه وكل آهات العالم لن تشفي روحه”.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 14، مارس 2022، ص. ص. 9-10.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf14.tounesaf.org