الفلسفة بين تهمة الإلحاد وفكرة الإيمان

بقلم: محمّد حدّاد

في المنتصف تقف الفلسفة مدافعة عن نفسها من كل ما يقال عنها، ومن جهة أخرى تحمل هم عصرها على اكتافها. فلكل جيل قضاياه الخاصة، التي لا يمكن للفلسفة ان تتجاهلها. فكما قال هيغل؛ “الفلسفة بنت عصرها”. فرغم تعدد فروعها، إلا أنّ محاولة فهم الوجود الانساني انطلاقا من فهم الوجود بعامة، يبقى الشغل الشاغل لمختلف الأنساق الفلسفية. فقد حاول الإنسان منذ بداية تشكل وعيه ان يجد تفسيرا لكل ما يدور حوله، مما جعله يعتقد في القوى الغيبية التي تتحكم في العالم ومنه إلى الله. لينقسم بعدها الناس إلى فئتين. الاولى تقر بوجوده استنادا إلى التجارب الدينية المختلفة، والشق الثاني يقر بعدم وجوده.

فهل يمكن للفلسفة أن تجيبنا على كل ما يدور في خلدنا من غموض ميتافيزيقي؟ وهل أنّ مهمتها أن تساعدنا على الوقوف على أرض الإيمان؟ أو أن نعبر جسرا لبلوغ مملكة الإلحاد؟

بداية لا يمكن ان نغلق باب النقاش في المسألة بمجرد ان نردد ما قاله فرنسيس بيكون من أن القليل من الفلسفة تؤدي بنا إلى الإلحاد والكثير منها يأخذنا إلى الإيمان، او كقول ابن خلدون حول من يقرأ القليل في الفلسفة سيتجه بأغلب الاحوال إلى الالحاد ومن يقرأ الكثير منها يتجه للإيمان. وكأن الفلسفة بهذين القولتين لأخذت على عاتقها اقتياد الناس إلى الإيمان. وما الذي يبرر هذا القول إذا وجدنا في الجهة المقابلة كبار الفلاسفة الملحدين فهل يمكن القول أن سارتر لم يكن يوما متعمقا أو هل أن الأعمال الفلسفية الكبرى لهايدغر أتت على وجه الصدفة ولم تكن إثر دراسات وقراءات معمقة؟

لا يمكن ان نختزل الإيمان أو الإلحاد في البعد الكمي للمخزون الفلسفي لشخص ما. ولكن إذا تعمقنا أكثر في تاريخ الفلسفة، فيمكن أن نجد لها عدة مهام، فالكل يفرد لها تعريفها الخاصة المصبوغ بتجربته الشخصية بعد طول تأمل. لكن قيمة الفلسفة لا تتأتّى من مهمّة مفترضة لها أن تقود إلى الإيمان أو إلى الإلحاد. لكن تتأتّى من السؤال: الايمان بماذا أو الالحاد بماذا؟

فعل الايمان وفعل التفكير هما شيئان مختلفان. الايمان بالله شيء والتفكير في الله شيء. والإيمان يأخذنا الى التفكير في الله. أما التفكير في الله فلا يأخذنا ضرورة إلى الإيمان به، إذ يمكن له ان يأخذنا إلى الجهة المقابلة، حيث اللا-إيمان، استنادا إلى كون ان الله فكرة تم اختراعها عن طريق الذي يؤمنون به. هذا التضاد بين الايمان والالحاد يأخذنا مباشرة الى صميم السؤال الجوهري والذي أرهق الفلاسفة خاصة والبشرية عامة سؤال هل الله موجود أم لا؟ هو سؤال خاطئ، فالإجابة عن هذا السؤال بالنفي أو بالتأكيد تستوجب منا معرفة عينية بالله. فالإقرار بوجود الشيء يستوجب منا معاينته معاينة مباشرة، وهذا السؤال عجز عن الإجابة عنه كل الفلاسفة تقريبا. وهو عجز، يأخذنا إلى إعادة صياغة السؤال، والانتقال من مستوى وجود الله الى مستوى الإيمان من عدمه بالله، أي ان القضية تنزع من فكرة وجود الله إلى فكرة الايمان والالحاد، أي من الشيء الثابت ومحور التساؤل الفلسفي الى تعداد رأينا في ذلك الشيء.

الإلحاد هو من الناحية البديهة مقابل للا-إلحاد. وإذا حاولنا تطبيق المنطق الأرسطي على قضية الإيمان والالحاد، يمكن أن ننطلق من لأن قيمة كل من الالحاد واللا-إلحاد هما قيمتان متنافرتان لكن يشتركان في فعل الاعتقاد، أي ان الالحاد هو الاعتقاد بعدم وجود الله أما الايمان هو الاعتقاد بوجود الله أو وجود قوة أكبر من تصور الانسان يرجعها التيار الماركسي الى الطبيعة. حتى وإن كان هناك اختلاف في نقطة وجود الله من عدمه فإن الاشتراك يبقى ثابتا في اعتقاد إلى درجة الجزم او الحقيقة الثابتة لكل الفريقين. هذا الجزم لا ينتمي إلى حقل الفلسفة، فالفلسفة لا تصل الى حقائق ثابتة، فمتى وصلنا الى الجزم بقضية ما تكون محل خلاف فإنها بنا من مرحلة الفكر الحر الى مرحلة تتجسد في شكل ايديولوجيا أو في شكل طقوس دينية.

بما أن الفلسفة تعتمد اساسا في وجودها على حرية الفكر فهي لا تبحث عن إجابات للأسئلة وانما هي سلسلة متلاحقة من الاسئلة الوجودية والجوهرية. ليس دور الفلسفة أن تأخذنا الى الايمان أو الالحاد. هي تجعلنا نقف بين الجانبين في عملية فكر متواصلة نبحث عن أجوبة للأسئلة نظن انه تم الإجابة عنها في انساق فلسفية متعددة لكنها تسقط في اول عملية اكتشاف الجانب اللا-مفكر فيه. مثل البنايات الشاهقة التي نشيدها لكنها تسقط مع أول اختبار لقوة خفية، هي الله بالنسبة المؤمن والطبيعة بالنسبة للملحد.

فالفلسفة هي بناء فكري ينتجه العقل. أما الايمان هو محله القلب. لكن ما يؤصّل العداوة بين الدين والفلسفة لا يكمن في الإيمان والإلحاد، بل في كون الدين يحمل إجابات جاهزة من خلال النصوص الدينية والتي تستمد مشروعيتها من الوحي الإلهي. يمكن ان نلخص بأن محل الفلسفة هو العقل أما الدين فمحله القلب. وبين هذا وذاك يصبح العلم نتيجة نهائية لعمل الفلسفة. بمعنى ن الإجابة النهائية لا تعني موت الفلسفة لكن تعني ولادة علم جديد مستقل بذاته عن مجال الفلسفة على غرار علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الفلك …

وفي النهاية يمكن ان نختم بما قاله برتراند راسل على “إن الفلسفة تستحق ان تدرس ليس من أجل ان نجد فيها أجوبة دقيقة عن الأسئلة التي تطرحها… بل بالأحرى بسبب قيمة الأسئلة ذاتها”

 

نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 25، أفريل 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf25

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights