البذور المهجنة والسيادة الوطنية
|بقلم: اسكندر بن عمر
تعد السيادة الوطنية قيمة تضمن استقلال الدول، ومطلق حريتها في ادارة مجالها واختيار نموذجها التنموي ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، فتصون بذلك حرية المجتمعات وتؤسس لشروط ازدهارها وتقدمها. إلا أن هذه القيمة تبقى مهددة على الدوام سواء عبر تدخل الدول الأقوى فيها أو عبر سياسات تهددها ضمنيا. من جملة هذه السياسات المهددة نجد برنامج الإصلاح الهيكلي الذي تمت ترجمته عبر جملة من البرامج اهمها برنامج الاصلاح الهيكلي الزراعي.
لذلك نهتم في هذا المقال برصد بعض المخاطر التي تتهدد السيادة الوطنية من خلال تقنين[1] اعتماد البذور والمشاتل المهجنة في القطاع الفلاحي على حساب البذور والمشاتل المحلية.
فما الذي نقصده بالسيادة الوطنية؟ وما هو واقع تغلغل البذور والمشاتل المهجنة في الواقع الفلاحي التونسي؟ وإلى اي مدى يمكن الحديث عن بديل مجتمعي؟
في مفهوم السيادة الوطنية
إن المتأمل للواقع التونسي على مختلف مستوياته الرسمية يلاحظ تناقضا بين المعلن رسميا من اعتبار لمفهوم السيادة الوطنية كمحدد للسياسات بشكل عام وبين الممارس عمليا في رسم السياسات وعلى رأسها السياسات الفلاحية. ومما ينجر عن ذلك أننا نجد أنفسنا أمام تناقض أعمق وأشمل بين جهة أولى تنتج ولا تستفيد من إنتاجها، بل أنها كذلك تستنزف مواردها الطبيعية والبشرية اضافة إلى الاقتصادية منها وبين جهة ثانية تتحكم في إنتاج الجهة الاولى وتستفيد منه دونها مما يمكنها من حفظ مواردها واستثمارها على الوجه الامثل.
نقصد بالسيادة الوطنية «أن تمتلك الدولة السلطة العليا والهيمنة المطلقة والحكم الكامل على/وفي أرضها ورعاياها ومؤسساتها وخياراتها ومواقفها˓ وأن تكون مستقلة عن أي سلطان آخر سواء كان داخليا أو خارجيا˓ وان تكون لها الكلمة العليا والوحيدة في جميع ما تقوم به من أعمال˓ وأن لا تعلو عليها أية سلطة أو أي هيكل أو كيان اخر. السيادة هي كذلك ووجوبا أن تكون السلطة نابعة من الشعب» [2].
تشتمل السيادة على سبع خصائص يجمع عليها أغلب الباحثين في العلوم السياسية وهي[3]:
ا/ دستورية وقانونية ويعني ذلك أن يتم الإعلان عنها في الدستور كمبدأ عام وان يتم تفصيلها في قوانين.
ب/ سامية وشاملة اي أنها لا تستثني أحدا أو مجموعة أو طائفة من السكان والمقيمين من غير رعاياها وهي تستوجب الطاعة واحترام القوانين من الجميع.
ج/ مطلقة وعامة بمعنى أن لا سلطة ولا هيئة أعلى منها داخليا وخارجيا. ومن هذه الصفة تتفرع السيادات الاخرى.
د/ دائمة ومستمرة أي انها تدوم بدوام الدولة وتزول بزوالها. وبهذا المعنى فالدولة شرط إمكان السيادة.
ه/ غير قابلة للتصرف والاجتهاد بمعنى أنها وحدة صماء غير قابلة للتقسيم أو التجزيء أو التنسيب وذلك يعني أنه لا توجد في الدولة الواحدة المستقلة سوى سيادة واحدة متعددة الاشكال فالسيادة الوطنية يمكن أن تتخذ اشكالا مختلفة كالسيادة الغذائية والسيادة على الثروات والسيادة على القرار الوطني…
و/ مهيكلة ومراقبة إذ أنها تخضع لضوابط وحدود يفرضها القانون ويسهر على احترامها ممثل الشعب تشريعا وتنفيذا وقضاء.
ز/ لا تتناقض مع استقلاليتها وحيادها أي أنها غير قابلة للتلاعب بها داخليا أو خارجيا ولا يمكن اعتمادها في أغراض خاصة أو فئوية.
يمكن تصنيف أركان السيادة إلى صنفين :
الصنف الاول: أركان إجرائية تتعلق بتفعيلها (دستورية وقانونية/مهيكلة ومراقبة)
الصنف الثاني: أركان جوهرية ينبني عليها مفهوم السيادة ومعناها (سامية وشاملة / مطلقة وعامة / دائمة ومستمرة / غير قابلة للتصرف والاجتهاد لا تتناقض مع استقلاليتها وحيادها )
الصنف الاول هو كما أشرنا إجرائي، في حين أن الصنف الثاني اي الجوهري فهو ما نهتم بقياس تأثير اعتماد البذور والمشاتل المهجنة عليه ويمكن اعتبار هذه الاركان بنى مكونة لنسق اي تغيير فيه يغير معنى هذا النسق بمعنى انه في حال ضبط تغير في اي ركن فان السيادة في واقع الحال تفقد معناها.
يمثل الصنف الثاني لأركان السيادة نموذجا مثاليا[4] نقيس عليه وبه ما يمكن أن يسببه اعتماد البذور والمشاتل المهجنة في المس أو التغيير أو التحويل لهذا النموذج.
واقع البذور والمشاتل المهجنة في تونس
لم تطرح هذه الظاهرة في البلاد التونسية فقط وإنّما هي ظاهرة كونية عابرة للمجتمعات فقد اندثر خلال القرن الماضي 75% من التنوع الجيني في العالم[5] ومن تداعيات ذلك فقد تراجع معدل استعمال البذور التونسية من 65% سنة 1975 إلى 25% في سنة 2004 حسب تصريح للسيد عمر الباهي كاتب الدولة المكلف بالإنتاج الفلاحي.
رغم أنّ هذا التراجع في اعتماد البذور والمشاتل المحلية متعدد الأسباب -كما أشرنا سابقا إلى الظرف العالمي لتراجع التنوع الجيني إلى الربع- فإن اسباب بنيوية اخرى تعود إلى خيارات سياسية كان لها يد في تعميق هذه الهوة ونقصد بذلك توقيع الحكومة التونسية على خطة الاصلاح الهيكلي سنة 1986 بضغط من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والتي تم على إثرها وضع برنامج تعديل هيكلي زراعي يتم بموجبه تحرير الاقتصاد التونسي والقطاع الفلاحي على مراحل بما يعني تخلي الدولة عن السياسة الحمائية للقطاع الفلاحي تدريجيا وترك المجال بالمقابل للقطاع الخاص الذي يمثل في واقع الحال امتدادا للشركات عبر القطرية. فبدل أن يمثل القطاع الخاص قاطرة للاستثمار ومراكمة الثروة على الشاكلة الاوروبية أو الامريكية، فإنه يتحول إلى وسيلة لنقل الثروة من الاطراف إلى المركز أي من دول الانتاج إلى الدول المصدرة للبذور والمتحكمة في انتاجها وتسويقها فيتحول بذلك القطاع الفلاحي من قطاع ضامن للسيادة الغذائية إلى قطاع مفرط فيها.
من نتائج هذا البرنامج ايضا انتصاب 42 شركة تبيع البذور والمشاتل المهجنة وتشتمل على 600 نقطة بيع بمعدل 25 نقطة في كل ولاية˓ تتولى استيراد هذه البذور من عدة دول أهمها الولايات المتحدة الامريكية/ الصين/ ايطاليا/ فرنسا/ جنوب افريقيا/ هولندا حسب جدول الاستيراد لدى مصالح وزارة الفلاحة. هذا الانتشار اللامركزي والمكثف لنقاط توزيع البذور والمشاتل المهجنة يكشف عن استراتيجية تهدف إلى تعميمها مما يجعلها قريبة من الفلاح وفي متناوله خاصة أنها في البداية كانت توزع مجانا ثم بأسعار رمزية إلى أن بلغ سعر الكلغ الواحد من بذور الدلاع او البطيخ على سبيل المثال 1342دولارفألف بذرة من بذور البطيخ المهجنة تباع بحوالي 100دت اي بسعر 100مي للبذرة الواحدة˓ هذه الكلفة الزائدة إضافة إلى التسميد الكيميائي المكثف (5كلغ في الهكتار سنة 1975 إلى 25 كلغ في الهكتار سنة 2004) والري المكثف باعتبار أن البذور المهجنة سقوية على خلاف البذور البعلية المحلية من شانها أن تساهم في ارتفاع الكلفة الانتاجية ما يمثل خطرا على القدرة التسويقية للمنتوج التونسي محليا وفي الاسواق الخارجية اضافة إلى استنزاف الموارد المائية وتلويث التربة والاغذية كيميائيا ما يمثل خطرا على الصحة العامة للأفراد.
إيجابيات وسلبيات البذور والمشاتل المهجنة
على الرغم من اننا نتتبع في هذا المقال الاخطار المهددة للسيادة الوطنية الناجمة عن التخلي عن البذور والمشاتل المحلية لصالح المهجنة منها إلا أن الامانة العلمية تحتم ابراز الايجابيات والسلبيات المتعلقة بها على حد السواء وفيما يلي جدول مقارنة يبرز أهم هذه الخصائص:
|
البذور والمشاتل المحلية |
البذور والمشاتل المهجنة |
الري |
متحملة ومقاومة للجفاف باعتبار تأقلمها مع الظروف المناخية المحلية وهي بعلية أو تحتاج إلى ري خفيف ومتقطع |
شديدة الحساسية تجاه الجفاف والحرارة المرتفعة وتحتاج إلى ري مكثف ومستمر |
مقاومة الامراض |
مقاومة للأمراض وتتميز بمناعة جيدة للأمراض المحلية وبقدرة على التأقلم مع الامراض الوافدة وغير متطلبة للأدوية والعقاقير الكيميائية |
شديدة الحساسية تجاه الامراض بأنواعها وتتطلب عدة ادوية كيميائية مثال يتطلب تفاح ﴿انا كريستنا ﴾ 21 عملية مداواة في دورة الانتاج الواحدة |
التربة |
غير ملوثة للتربة ومتأقلمة مع مختلف انواع التربة الرملية والطمي والطينية |
ملوثة للتربة ومتأقلمة مع مختلف انواعها |
الإنتاج |
انتاج متأخر نسبيا مثلا بالنسبة للزيتون تحتاج الشجرة من 5 إلى 7 سنوات لتبدأ عملية الانتاج غير أن الاشجار تعمر لمئات والاف السنين وكلما زاد سن الشجرة ارتفع معه الانتاج ما يعني امكانية تأقلم اكثر مع الظروف الطبيعية |
انتاج مبكر من السنة الثانية تبدا الشجرة في الانتاج وفي بعض الانواع منذ السنة الاولى لكن بمعدل انتاج 12 كلغ للشجرة والاشجار ليست معمرة بل يجب التفكير في تعويضها منذ سن 15 عام |
كلفة الإنتاج |
عادية |
مرتفعة نسبيا نظرا لمتطلبات الشجرة أو النبتة للأدوية والسقي المكثف |
التسويق |
منتوج بيولوجي مرتفع الثمن والمردودية الاقتصادية مطلوب في الاسواق المحلية والعالمية نظرا لندرته |
منتوج منخفض الثمن والمردودية الاقتصادية متوفر في الاسواق العالمية |
الاستتباعات العملية |
تساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي والسيادة الغذائية كما تساهم في دعم الاحتياطي الوطني من العملات الاجنبية والابقاء على الارباح داخل السوق المحلية
|
تكرس التبعية الغذائية والزراعية وبالتالي تهدد السيادة الوطنية وهي تمثل وسيلة لنهب الاقتصاد الوطني |
بالنظر إلى هذا الجدول فان البذور والمشاتل المحلية هي الافضل على المستوى الاستراتيجي للقطاع الفلاحي وبالتالي للاقتصاد ككل الذي ينعكس بدوره على المجتمع وهي تستجيب للأركان المكونة للنموذج التحليلي المعتمد في هذا المقال. في حين أن البذور والمشاتل المهجنة تستهدف السيادة في :
ا- الشمولية : اذا ما كانت السيادة في جوهرها نقيضا للتبعية فإن السيادة التابعة ليست سيادة اي أن السيادة غير قابلة للتنسيب وقد بيننا كيف أن هذه البذور المستوردة هي الية تخلق الارتباط الهيكلي بالأخر وتمثل كذلك احدى ميكانيزمات التفريط في الاستقلالية والثروة ما ينفي على كل من الدولة والفلاح التونسيين شرط امكان التحكم في القطاع ومن وراءه التخلي عن السيادة الغذائية .
ب- الاطلاقية : اذا كانت السيادة الغذائية مرتبطة بشكل عضوي بالسيادة الوطنية بمعنى أنها إحدى أشكالها المتكثرة فإن انعدام شكل من هذه الاشكال يضع الكل محل تساءل.
ج- الاستمرارية: اعتماد البذور والمشاتل المهجنة في الفلاحة التونسية يشكل خطرا محدقا باستمرارية السيادة نظرا لما تمثله من أسلحة موجهة ضد المجتمع على المستوى الصحي وللموارد الطبيعية على المستوى الاقتصادي ولحق الانسان في المياه على المستوى الحقوقي لا سيما وأن البلاد التونسية ترزح تحت خط الشح المائي
د- عدم القابلية للتصرف : قد يبرر البعض اعتماد القطاع الفلاحي على هذا النوع من البذور والمشاتل باي تبرير ممكن لكن مبدا عدم القابلية للتصرف في السيادة يقف حائلا دون ذلك وما نستنتجه هنا هو أن مفهوم السيادة لا يحتمل التنسيب فإمّا أن تكون السيادة مطلقة أو لا تكون.
نحو بديل مجتمعي
على الرغم من دعم الدولة
للمؤسسات التي توزع هذه البذور والمشاتل وذلك عن طريق سن القوانين والتشريعات الملائمة فإن تداعيات هذه السياسة الاقتصادية والتشريعية مثلت تهديدا لمصالح الفئات الاوسع من المجتمع التونسي لما فيها من استهداف للمنتج والمستهلك على السواء للمواد الفلاحية التي يتحمل نتائجها فعليا وبصفة مباشرة الفلاح والمستهلك عبر ارتفاع الاسعار في الانتاج والتسويق وما ينعكس على جودة الحياة للأفراد اضافة إلى علاقة الارتباط والتبعية القائمة بين الفلاح وشركات البذور والادوية التي تلتهم الجزء الاكبر من انتاجه. هذا الوضع كان سلاحا ذو حدين اذ أن انخفاض مردودية هذا القطاع دفعت العديد من الفلاحين الصغار والمتوسطين إلى التخلي عن هذه المهنة وتوجيه ابنائهم إلى مهن اخرى في حين أن جزء مهما من هذه الفئة من الفلاحين اختار نهج المقاومة عبر آلية تجميع البذور المحلية وإكثارها وتوزيعها عبر مبادرات فردية على وسائل التواصل الاجتماعي تحولت في فترة وجيزة إلى حملات موسعة وعمليات منظمة لتبادل البذور التي ادت إلى تبادل اشياء اخرى مع البذور كالأفكار والخبرات التي من شانها مقاومة الوضع الذي قمنا بتوصيفه ومن وراء ذلك مقاومة حقبة وبرنامج متكاملين من سياسة الدولة ما يجعل رد الفعل الشعبي المهيكل افتراضيا والنشط ميدانيا يستجيب لما عرفه سيرج موسكفيتشي بالأقلية النشطة[6] (التي يولد فعلها تأثيرا وتغييرا اجتماعيا ) وهذا ما تمت ملاحظته ميدانيا اذ مكنت هذه المبادرة إلى تجميع اكثر من ثلاثين الف فرد من الفلاحين الصغار والمتوسطين والباحثين في مختلف الاختصاصات والمهتمين بالشأن البيئي ايضا هذا التجمع الافتراضي الحر افرز قيادات لهذه المجموعة دون مهمات اسمية لكن بمهمات فعلية ميدانية فالسيد زياد زيدون (حسب التسمية الواردة بالمجموعة الافتراضية الفلاحة السليمة والغذاء الصحي) هو أول من قام بخلق المجموعة افتراضيا وهو مديرها وقد سوّق لحملة التضامن مع السيد حافظ كرباعة النشط ميدانيا عبر إنتاج وتوزيع البذور والمشاتل المحلية على اختلاف اصنافها. أما كل من السيدين سعيد بن ناصر وحسن الشتيوي فيمثلان مرجعين في المعارف والخبرات الزراعية التقليدية الناجعة مثل أوقات وطرق السقي والغرس والزراعة وإعداد انواع السماد العضوي…الخ وقد تمكنا من حيازة قيمة اعتبارية مستمدة من معارفهما وخبراتهما. فهذا الرباعي يمثل القيادة الفعلية لهذه الأقلية النشطة التي تمكنت من احداث تغيير في العلاقات بين الفلاحين اساسا اذ عمقت قيمتي التضامن والتعاون بين المنتمين إلى القطاع كما انها مكنت من احياء جزء من التراث التونسي وتثمينه.
هذه التجربة إضافة إلى عدة تجارب اخرى مثل تجربة واحات جمنة هي محطات تعكس معارضة الفاعلين الاجتماعيين في القطاع للنظام في شكله الحالي مما يجعلنا نتساءل عن مدى فاعلية هذه المعارضة في اصلاح القطاع فهل أن هذه الأقلية النشطة تمثل معارضة عقلانية ام أنها مجرد مغامرة يسعى الفاعلون فيها إلى التموقع وانتزاع الاعتراف من المنظومة الحالية ؟
مثل هذه الأسئلة لا يمكننا الإجابة عليها في هذا الصدد لعدة أسباب أهمها ضيق المجال وتفرع الظاهرة وتعقدها مما يجعلها بحاجة إلى بحث نفرده لها غير أن الملاحظات الاولية تطرح إمكانية تثبيت الفرضية الثانية فبعد أن تمكنت المجموعة من توزيع مئات الالاف من البذور والمشاتل المحلية وادارة حملة للتعريف بهذه القضية الوطنية باقتدار.
بالعودة لما سبق فإن مفهوم السيادة الوطنية في ضوء نتائج هذه الدراسة يخضع لتحوير جوهري يتعارض مع مقومات السيادة واهمها الإطلاقية وعدم قابليتها للتجزئة مما ينفي امكان الحديث عن سيادة وطنية في ظل تبعية غذائية واقتصادية وعلمية فالقانون المتعلق بالبذور والشتلات والمستنبطات النباتية في فصله الخامس يمكن ”العناصر الاصلية للنباتات الهجينة والاصناف التركيبية تبقى سرية اذا ما طلب مستنبطوها ذلك”[7] وهذا بحد ذاته يمثل خطرا إذا ما تعلق الأمر بتأثيرات سيئة للبذرة أو النبتة المهجنة إذ تبقى عناصرها الاصلية سرية في حال طلب المستنبط ذلك. أما في ما يخص الفصل الرابع من نفس القانون فإنه لا يسمح إلا بتسجيل البذور الحاملة للصفات التالية ” متميزة وثابتة ومتجانسة وذات قيمة زراعية هامة ” فرغم غموض هذا الفصل واشكالية تحديد المقاييس المعتمدة لهذه الصفات أو مبررات ادراجها فان هذا الفصل يعطي ” حق التسجيل الحصري لصالح البذور الهجينة. وبذلك يحضر القانون التونسي بيع وتسويق البذور المحلية. حيث انه لا يمكن بيع نوع من البذور بخلاف تلك المدرجة في السجل. وبذلك فقدت البذور المحلية تدريجيا واخذت مكانها البذور الهجينة “[8]
من الممكن أن نتفهم مثل هذا الفصل المريب إذا ما علمنا أن البلاد التونسية تستورد سنويا حسب جدول الاستيراد بوزارة الفلاحة بذورا بقيمة 97 مليون دينار فإضافة إلى التبعية الزراعية والغذائية فإن استيراد البذور والمشاتل المهجنة يمثل استنزافا لموارد الدولة من العملة الصعبة وتعميق التبعية الغذائية ويساهم في مزيد عجز الميزان التجاري.
الخاتمة
فيما يلي نلخص اهم ما جاء في هذا المقال إذ وجب أن نذكّر بأنّ السيادة الوطنية كلّ لا يتجزأ وأن أي عملية استثناء أو تجزئة تفقد المفهوم معناه وتفرغه من محتواه.
كما أننا كنا قد قابلنا بين البذور والمشاتل المهجنة مع نظيرتها المحلية ولم نقل الطبيعية أو الاصلية وذلك يعود إلى أنه لا توجد بذور ومشاتل محلية مهجنة أو مستوردة واصيلة في نفس الوقت.
إضافة إلى البذور المهجنة لم تتفوق إلا في كم الانتاج على البذور والمشاتل المحلية لكن بحساب الجدوى والمردودية فأن البذور المحلية هي الأجدى على المدى المتوسط والبعيد خاصة في حفظ الموارد وتثمينها كالمياه والتربة والتنوع الايكولوجي إضافة إلى الأخطار الصحية الكامنة في النباتات الهجينة وذلك يعود لحاجتها المفرطة للأسمدة الكيميائية والادوية.
لا ننسى كذلك التذكير بأن مجتمع الفلاحين والمهتمين بالقطاع الفلاحي يمثلون أقلية نشطة حسب التعريف الذي قدمه سارج موسكفيتشي إذ أن لهذه المجموعة تأثيرا ومساهمة في تغيير اجتماعي : يتمثل التأثير في التعريف بهذه القضية وإعطاءها صدى مهمّا إذ كتبت العديد من المقالات في الصحف المحلية والعربية اضافة لإنجاز تلفزيون دويتشفيله الألماني لتقرير حول هذه الظاهرة. زد على ذلك أنها لفتت نظر الباحثين في مختلف الاختصاصات وبعض الجمعيات للمساهمة في النقاش القائم.
أما على صعيد التغيير الاجتماعي فإننا نلمس تغيرا في العلاقات بين الفلاحين الصغار والمتوسطين يسير نحو امكانية بعث هيكل قانوني على غرار اتحاد الفلاحين أو احداث كتلة ضمن هذه النقابة.
يتمثل الاشكال الاول الذي على الفلاحين حله هو انقاذ ما تبقى من بذور محلية عن طريق الآلية التي استنبطوها والمتمثلة في الاكثار والتوزيع أو التبادل.
كما أن التشريعات التي تكرس هذا الوضع تقف أمام أيّ محاولة جدية لتغيير هذا الواقع وإحداث نقلة فلاحية ترسخ مبدأ السيادة الوطنية.
الهوامش
- الفصل عدد4 من القانون عدد 42 لسنة 1999المورخ في 10 ماي 1999
- عبد الوهاب الجمل˓ “السيادة مقوماتها وأركانها”˓ في www.lediplomate.tn
- نفس المرجع
- بالمعنى الفيبري للكلمة نسبة الى عالم السوسيولوجيا ماكس فيبار
- ˓ ايمن عميد˓ “البذور المحلية :تاريخ من النهب” في http://www.siyada.org/ar/siyada-board/
- http://psychaanalyse.com/pdf/psycho_minorites_actives.pdf
- الفصل 5 من القانون عدد 42 لسنة 1999 المؤرخ في 10 ماي 1999
- مرجع مذكور
- http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA_58_4_-1_5_16_2015_2017_%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%88%D9%85%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B0%D9%88%D8%B1%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%AA%D9%84%D8%A7%D8%AA__232
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 21، أكتوبر 2022
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf21