رواية “ظلالي التي تعرج” لكلثوم عياشية: هدرة تخلع أبواب الذكرى وتهتك سحر الفكرة
|بقلم: رجاء عمّار
لعل أهم ما يطلبه القراء عند الاطلاع على نص هو عدم الشعور بالملل، وذاك الإحساس أنهم بصدد هدر الوقت والجهد إذ تتحول العملية التي تتمثل غاياتها الجوهرية الاستمتاع تفكرا وتساؤلا إلى اضطرار لمواصلة الإنصات إلى بوح يدعي تشعب المسالك إمعانا في الحث على الاستمرار في اكتشاف خفايا المغامرة السردية ومراميها.
عرج الظلال... بين التخييل والاختلال
يصرح عنوان الرواية بشكل ما أن التركيز سينصب على اعتلال جلي مع رصده بتنويعاته المختلفة، بما أن الظل ورد في صيغة الجمع، وهو إنباء أن العرج الذي قد يعتبره البعض واحدا، غير أن القريحة المبدعة تكفلت بعرض تدرجاته متحكمة في درجة الكشف في كل مرة، لتعكس رؤية مغايرة، وتلتقط صورة تجتمع فيها ظلال بسمات تميزها وإن منحها القدر فروقا، ليتخذ كل ظل وجهة، وقد تلتقي في مفترق الطرق ويتقاطع الخطو، وقد لا يحصل اللقاء وهو اختيار سردي عسير، غير أنه ضمانة إثراء.
فهل تجسد هذا السعي إلى التنويع والكشف عن خبايا غرف الذاكرة أم توقف عند حدود “النية” وتبقى حجة العاجز عن بلوغ المراد ” إنما الأعمال بالنيات” التي تؤخذ على غير معناها المرتبط بالبداية، لتغدو شكلا من أشكال التبرير لنهاية لا يعترف فيها المرء بمسؤوليته ويكتفي بإقناع نفسه أن النية صادقة “أما الله غالب..”، غير أن هذه الذريعة مرفوضة، باعتبار أن هذا المرء مبدع ومطالب أن يثمر مجهوده عملا مقنعا يثبت اجتهاد المخيلة وعدم الاكتفاء بتكديس الأفكار وإيجاد صلة بينها.
قد لا تمتلك مفاتيح غرف الذاكرة وتجبر على الخلع، فهل استحق الأمر هذا العناء، وهل توقف الأمر عند حد عرض ما تم تخزينه في كل واحدة دون استثمار حقيقي لتشكيل لوحة تم تعمد تشتيت عناصرها، فهل تمت المحافظة على العفوية التي تثبت أصالة النسج أم يمكن ملاحظة التدخل السافر للكاتبة التي تكاد تحتكر النص في بعض المواطن مستحوذة عليه برصف التفاصيل التي لا يمكن الجزم أنها وردت فيما سجلته الساردة، باعتبار التأكيد على أن هذا البوح ليس أصلا وإنما نسخة “حسنة” أو “معدلة”، وهو فعل لا يخلو من تكبر حرم النص من فرادة تنبع من بوح لا يشبه سوى صاحبه فيضمن تميزا وليس وجبة سردية بمكونات ضبطتها الكاتبة وأعدت السفرة وتعمدت تشتيت الأحداث والتزويق بالمقاطع،
فهل بلغت التجربة مرحلة النضج والاستواء أم هناك تسرع يشي برغبة في التخلص قبل أن تطيب الهدرة وتغدو مستساغة؟
هل خدمت إعادة الكتابة النص أم أعلنت عن تدخل يشي بنزعة من القسوة ومواصلة التعامل مع رملة وقضيتها بعدم مراعاة إلا مصلحة الذات، ولا بد من التأكيد أن الحديث في هذا السياق، يرتبط بالأستاذة التي وجهت إليها رملة الأشرطة التي حملتها بوحها. تبقى نقطة الأشرطة علامة استفهام عن زمن كتابة الرواية، فلا بد أنها تعود إلى تاريخ سابق للتكنولوجيا مع وثوق أن من سيرسل إليه ما زال محتفظا بمسجلة صالحة لتقديم خدماتها وليست مجرد ديكور تم الاحتفاظ به ذكرى عن مرحلة زمنية سالفة-
فالأستاذة حسب ما ذكرت رملة بادرت لحل مشكلة التأتاة التي تعاني منها بالتشجيع على القراءة غير أنها متى استشعرت أن الأزمة أعمق، نأت ولم تتح للفتاة حتى فرصة التعبير والتوضيح والاكتفاء بالترديد: “هذا خطير… خطير جدا”، رغم أن الحديث حينها واستجلاء الأمر ومناقشته كان كفيلا بحله، وهو ما دعمه قول رملة: “لو سألتني لماذا عوض التجاهل.,. لو أنصت إلي ربما قذفت ما في الصدر وارتحت، أنت أطلت مدد اغترابي وصمتي. تكرر انتظاري لك في نهاية الحصة وتجاهلت وقفتي”، وفي ذلك نقد لتخلي المربي عن دوره الذي لن يتطلب منه سوى بعض الوقت الذي قد ينجح من خلاله في إنقاذ ذات عوض تخبطها في حاضرها ومستقبلها.
يستمر هذا التجاهل بتدخل في صياغة البوح، حتى يوشك المطلع على الاستفهام: هل هذا بوح رملة أم هو بناء سردي من اجتهاد الكاتبة التي تعمدت اختيار المقاطع من غناء وقرآن تتناسب مع الفكرة، وهو انسجام غيب سمة الصدق تغييبا تاما، فرملة التي تبوح وهي تسجّل لن تختار شريطا معينا ولن توقف بوحها لإفساح المجال لمقطع يدعم ما قالت وتعود بعد الفاصل، كما أن هذه المقاطع تكاد تكون مغيبة في البداية، ولا يلحظ وجودها إلا في مرحلة متقدمة، رغم أهمية الدور الذي تلعبه، فهي مكون أساسي وحضوره كعامل تشويش يزيد التشويق، ويمنح لمسة الفرادة المطلوبة التي تبعد النص عن كونه رواية عادية تضم فصولا بعناوين اختيرت لها أمثال شعبية تتماشى بدورها مع ما سيرد.
هل صب هذا التنسيق في صالح التخييل أم كبح جماحه بل وبتره عمدا ليكسبه أجنحة اصطناعية مفرودة غير أنها لا تسمح بالتحليق، ليغدو عرج الظلال الذي هو اعتلال من المنتظر الاعتراف به كعلامة فارقة إلى تكلف لم يحترم جمالية الاختلال؟
هل تجرأت المخيلة على الولوج إلى داخل كل غرفة من غرف الذكرى أم أنها بقيت على العتبة تخشى متى دخلت أنها لن تخرج متجاهلة أن الإبداع في جانب منه شجاعة للخوض في المجهول لتصوير الواقع بشكل فريد عوض الإصرار على توثيقه في المعهود من أسواقه وأنهجه وملابس أهله وعاداتهم حتى ترجح هذه الكفة على حساب أخرى تغدو ثانوية ومجرد تعلة لا غير لإيجاد سبيل للمحافظة على التراث اللامادي في كتاب؟
بين الجوع والإشباع… مرايا عديدة وانعكاس بالإجماع
هل هناك غرف عديدة تم خلع أبوابها فعلا أم هناك توجه مباشر للغرفة السابعة التي تتعدد فيها المرايا التي تعكس صورة المرأة، فهل تحقق التنويع المنشود بتقديم انعكاسات مختلفة أم هي صورة تكاد تكون واحدة لا تخرج عن نطاق الكبت والجوع والعلاقات التي لا يعترف بها الشرع ولا القانون ولا حتى جمالية الفعل الجنسي ذاته عند محاولة النظر إلى المسألة دون تقييدها بضوابط، ما حول الغرفة السابعة شبيهة بمعرض للوحات دعارة مجانية، لم تستثنى فيها رملة الساردة ولا أمها بحرية التي تخون زوجها النوري قارو مع الهادي هاها ولا فاطمة الحنانة التي تذهب إلى دكان الصحبي في سوق النحاسين ليضاجعها، ولا نبيهة التي تعيش بمفردها ولم ينتبه أحد إلى حملها الذي وأدته ولا الأخت هويدة ذات العلاقات العديدة دون حسيب سوى نصيحة عابرة من الأم “رد بالك على الماعون” ولا الصديقة أحلام بـ”شبقها المقيم” وحديثها الذي لا يخلو من إيحاءات جنسية، ولا حمدية التي تعاني جوعا حاولت إخراسه بالسحر لعل الزوج يهتم بها ويسكت لهفة الجسد.
روايتان.. أسلوب واحد ومقبرتان
هل تعتبر هذه الرواية وهي التجربة الثانية في رصيد الكاتبة إضافة تمكنت من خلالها من تقديم تجربة مختلفة والتقدم كيفا لا كما فحسب، وإن أكدت على الخيط الرابط بين العملين، فهل هذا الخيط تم تأثيثه سرديا أم الاكتفاء بتعليقه في مناسبتين للتذكير بوجوده دون استغلاله خدمة لأحداث الرواية ما بجعله نوعا من الحشو ليس إلا؟
الأسلوب هو ذاك التعثر المتعمد، ويتخذ حجة على أن الساردة ليست ضليعة بفن الرواية، فمنية صاحبة مدن ولا سراويل، حاولت كتابة مخطوطها أي أنها تجربة أولى، فهل هذه الذريعة مقنعة للتسامح والتجاوز أم أن المطلع لا يعنيه سوى الحصول على نص مقنع وممتع، تماما مثلما هو الشأن بالنسبة لرملة التي قد يرد ما شاب نصها من زلل- لعل أبرزه قدرة شخصية كمال على جلد نفسه بحزام جلدي باقتدار حد كشط جلدة الكتفين وترك آثار جلية على الظهر وهو فعل لا بد من الاعتراف بأنه خارق ويتطلب أذرعا طويلة بقوة عجيبة، لأن الإنسان العادي يجد صعوبة حتى في حك ظهره ويستعين ب”طياب”-، وغير ذلك من تكرار لنفس الفقرة تقريبا في مواطن عدة وربط ذلك بأنه بوح عفوي قد يعيد المرء ما قاله عمدا أو عن لاوعي، لكنه احتمال مرفوض باعتبار أنه تم التأكيد في النهاية أن هذا البوح تمت إعادة صياغته.
قد يكون أسلوب التشتيت في الرواية الأولى حمالا لقيمة مضافة تخدم النص باعتباره يراوح بين سيرة منية ومخطوطها الذي تحاول كتابته، أما في هدرة فالتشتيت لم يبلغ الدرجة المطلوبة فأبقاه “ضيفا متطفلا” على العملية السردية، يحضر باحتشام ويكاد يغيب ليزج به عنوة، وليس الأسلوب فقط هو المتشابه بل صورة الأم مع اختلاف السياقات بين قسوة تؤثر بها بنتا دون البقية ونوعا من اللامبالاة وإلقاء مسؤولية التربية والاعتناء على آخرين، وإن تم السعي إلى استنبات هذا الاختلاف فلا تورع في التوجه إلى نهاية متطابقة، فبعد القوة التي تتمتع بها الأم في مواجهة الدنيا، تهوي دون سابق إنذار إلى الضعف الجسدي، وهو ما اشتركت فيه حربية مع يزة، كما سارعت المخيلة في كلا النصين إلى الحل السردي الأسهل والتشبث بالتحكم في مصير الشخصيات، دون تنويع ودون الإبقاء على فسحة تتناسل فيها الاحتمالات بل لا بد من حفر كثيرة لدفن التساؤلات ومعها الفرضيات، وحين لا يجد لأزمات الشخصيات مخرجا -وهو غير مطالب بذلك- لكنه، لا يرضى إلا إذا لقوا أغلبيتهم حتفهم موتا، وهذا التشبث باختيار هذا الحل فيه مواراة للحياة التي ما زالت تتردد في صدر الحكاية، فإذا جنى الكاتب على روايته، فهل يترقب أن تحافظ على قدرتها على طرح الجنى في المواسم القادمة؟
نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 33، ديسمبر 2023.
للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf33