في ذكراه الرابعة: من قتل شكري بلعيد ؟…الجريمة الثانية
|بقلم: وليد جعفر
لقد تبيّن اليوم بكل وضوح أنه لا توجد إرادة لكشف الحقيقة في ملف اغتيال شكري بلعيد. والحقيقة في عدم كشف الحقيقة أن الأطراف الحاكمة، والمرجح الطبقة السياسية بكل أطيافها لا تريد، بدرجات متفاوتة، أن تتم إماطة اللثام عن حقيقة الجريمة، وتلك هي الجريمة الثانية التي سأحدثكم عنها اليوم.
عندما نتصفح أوراق ملف هذه الجريمة الثانية، والفقرة المتعلقة بدوافعها نجد ما يلي :
- توجيه رسالة إلى شعب تونس مفادها أن هذا الوطن لا يستحق أن تبذل من أجله الدماء… فبحيث هي في نهاية الأمر، رخيصة، رخيصة جدا…
- بما أنه توجد حيتان كبيرة وراء الجريمة الأولى، وبحكم “مانا إلا توانسة في بعضنا” ( أقوال مأثورة – كلام الليل)؛ فإنه من باب “البرغماتية الحكيمة” ارتكاب هذه الجريمة الثانية.
ولقد تشكلت قناعة لدى قاضي التحقيق المتعهد بالملف في “العالم الموازي”، أنه من العوامل التي ساهمت في تمكين المجرمين من تحقيق مبتغاهم الدنيء، هو تعدد مسارح هذه الجريمة.
أولاً، المنظومة الأمنية المخترقة قامت بكل ما يجب القيام به لعدم تفادي حصول الجريمة الأولى، فالقاصي والداني كان يعلم أن شكري بلعيد مهدد بصفة جدية. فالرجل لم يكن يتحدث عن عموميات، بل كان يذكر تفاصيلَ عن تواطؤ مسؤولين كبار في الدولة وعن مساهمة أيادٍ خارجية بعينها في دعم الإرهاب في وطننا العزيز. والرجل كانت له منهجية، في وطن يفتقد ساسته للمنهجية، والرجل كان صادقاً في وطن يفتقد ساسته للصدق، والرجل كان رجلاً في وطن يفتقد ساسته للرجولة. لذلك، أن يكون شكري بلعيد مستهدفاً هو أمر أكثر من بديهي. وبالله عليكم دعوني من تلك الترهات الخبيثة التي مفادها أن الرجل كان يرفض رفضا باتاً أي حماية شخصية: فالحماية أنواع، والحماية الذكية والخفية ليست بغريبة عن القاموس الأمني.
ثم ما حصل، وما كان يجب أن يحصل ولم يحصل في الساعات الأولى التي تلت الجريمة الأولى…نقاط استفهام عديدة متعددة تحمل في طياتها نسيج الخيوط الأولى للجريمة الثانية.
تأسيساً على ما سبق، من البديهي أن تكون هذه المنظومة الأمنية المخترقة ضالعةً -بتهاونها على الأقل- في الجريمة الثانية؛ وهي المسرح الأول لها.
أما المسرح الثاني، فهو بهو قصر العدالة. هذا المسرح مفصلي في ارتكاب الجريمة الثانية؛ ومن خطّط أو تستّر على الجريمة الأولى كان على وعيٍ بأن بقصر العدالة ومقاصره سوف يثبّت النجاح القذر لأن التمهيد للجريمة الثانية في المسرح الأول ليس بضامن لهذا النجاح. فبعد أن تم العبث بمرفق القضاء على نار هادئة، أصبحت الطريق سالكة لتتم هذه المرة ترجمة العبث من خلال منهجية وأسلوب التعاطي مع ملف شكري بلعيد.
في الأيام الأولى من سنة 1992، وبعد اكتساح جبهة الإنقاذ الإسلامية للانتخابات التشريعية بالجزائر وقبل أن يأخذ العسكر بزمام الأمور، أرادت الجبهة تقديم تطمينات مفادها أنها لا تريد السيطرة على دواليب الحكم والتغول. ثلاث حقائب فقط كانت تهم الإسلاميين: التربية؛ الشؤون الاجتماعية والعدل. وزارة العدل هي صمام الأمان في ظل غياب تكريس فعلي لقضاء فاعل.
في المسرح الثاني لعبت الأدوار الأساسية في الجريمة الثانية، وحتى إن تسربت حجج أو بدايات حجج من المسرح الأول، فإن إعادة الصياغة والمراجعة في المسرح الثاني كفيلتان بطمس ما يجب طمسه وتعديل ما يجب تعديله. وتبقى آلية التفكيك كفيلة هي الأخرى بإضعاف أي مسار من شأنه أن يكشف خيوط الجريمة الأولى؛ فالمسرح الثاني تتفرع عنه مسارح جديدة في إطار مهرجان من التفتيت والتعطيل.
يبقى المسرح الثالث، الذي وقعت فيه أكبر المغالطات وتمت فيه إدارة المناورات الدنيئة التي مكنت في النهاية من توفير مظلة حماية للجريمة الثانية أنجع من مظلة صواريخ باتريوت. هذه المظلة تساهم يومياً في حماية كل من لعب وما زال يلعب دوراً في الجريمة الثانية، مظلة متطورة جداً من ناحية الألاعيب والانتهازية السياسية، مظلة دونها كان يصبح بالإمكان إحباط مخطط الجريمة الثانية وكشف حقيقة الجريمة الأولى : مظلة ذات هندسة غريبة خطط لها اختصاصي يشهد له في ميدان تصميم المظلات وفي فنون المواربة والمواراة وباركها في السر ثم في العلن من كان في الماضي القريب يتهم مصمّمها بالتآمر على الوطن. كنا نخال من كان يتحدث عن إنقاذ البلاد وعن كشف الحقيقة في الجريمة الأولى سيفي بوعوده، فإذا بها عملية توظيف شبيهة بما فعل معاوية بقميص عثمان.
في هذا المسرح الثالث، لم يفعل رفاق الأمس شيئا لتمزيق المظلة؛ بعض الخدوش لا غير، وضجيج احتجاجي لم ولن يغير شيئا. رفاق الأمس ألفوا دعة العيش وحفلات الاستقبال والندوات. قد لا تصدقني يا شكري العزيز وأنا أحدثك عن رفاق قبروا مشروعك الكبير وأصبحت القضية بالنسبة لهم تتمثل في كلمات جوفاء لا غير… ولكن تلك هي الحقيقة !
أربع سنوات مرت بالكاد، وحادثة اغتيال الغالي أصبحت ذكرى تستحضر في المسرح الكبير، مسرح النفاق والكذب والبهتان.
لقد قتلوك يا شكري مرة ثانية بجريمتهم الثانية. أنت اليوم يا شكري في العالم الأخر تعيش محنةً أخرى، كمحنة شهيد المحراب كرّم الله وجهه. لكن محنتك أقسى وأمر لأن سيف ابن ملجم يطعنك كل يوم، ليذكرك بكيد المجرمين وبخيانة من كنت تخالهم رفاقا… أنت اليوم في العالم الأخر؛ ترى الأقنعة تتساقط الواحد تلو الآخر…فتصرخ “يا أشباه الرجال ولا رجال”…
ماتت الضمائر وانطفأت القلوب وغرقت الشمس ومازال الوطن يبكي….