لماذا نجح قيس سعيّد بهذه الفصحى؟

بقلم: حمزة عمر
عادة ما ينصح خبراء الاتّصال السياسي المترشّحين إلى أيّ انتخابات باجتناب التعقيد في خطاباتهم واعتماد لغة سهلة يمكن للجميع فهمها، ذلك أنّ عدم الفهم يعني وجود فجوة بين السياسي والناخب، ولِمَ يصوّت المرء لصالح شخص لا يفهمه؟

غير أنّ قيس سعيّد لم يكتف بأن يشذّ عن هذه القاعدة، بل ذهب في مخالفتها إلى أقصى ما يُمكن، فهو لا يكتفي بتجنّب الحديث بالدارجة التونسية، بل أنّه يصرّ على اعتماد لغة فصحى عتيقة يلوّنها بأمثلة مأخوذة من المعجم القرآني والكتب التراثية، وهو ما يواصل القيام به حتّى بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019.

لا يبدو أنّ اعتماد هذا اللون من الفصحى قد أثّر على شعبيّة قيس سعيّد، بل بالعكس. بعد أن شهدنا كيف “اكتسح“ الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، نجده الآن يتصدّر جميع استطلاعات الرأي بفارق كبير عن أقرب منافسيه. وبصرف النظر عن تقييم مواقفه ومنجزه بعد مضيّ أكثر من عام على تولّيه رئاسة الجمهوريّة، لا يبدو أنّ اللغة التي ينطق ويكتب بها أثّرت سلبا على صورته لدى التونسيين، بل لعلّها تمثّل الآن أحد عوامل جاذبيته.

قد يُربك ذلك أنصار البساطة في الخطاب السياسي، ولكن يبدو أنّنا أمام ظاهرة استثنائية حقّا. فكيف يمكّن استعمال لغة شديدة التنائي عن اليومي من اكتساب مثل هذه الحظوة الّتي لقيس سعيّد الآن؟

ربّما يمكن تفسير ذلك بعاملين: فلغة قيس سعيّد توحي في نفس الآن بالأصالة والتعالي، وكلاهما لعب دورا هاما فيما يبدو في بناء صورته على النحو الذي هي عليه.

لغة توحي بالأصالة

يُستعمل مصطلح الأصالة لوصف شيئين: فقد يحيل إلى معنى التجذّر في الأصول (authenticité) كما قد يحيل إلى معنى التفرّد والطرافة (originalité). ونرى أنّ للغة قيس سعيّد نصيبا من المعنيين.

لغة تحيل إلى التجذّر

الصراع في تونس بين العربية والفرنسية قديم، يتجاوز تاريخ الدولة الوطنية ذاته. ومن الأفكار السائدة لدى قطاع هام من التونسيين ولدى جزء من الطبقة السياسية في البلاد- بعضها تحوّل الآن من نصرة قيس سعيّد إلى معاداته- أنّ هناك نخبة فرنكوفونية تهيمن على الشأن العام وتسيّره وفق مصالحها. صاحبت فعلَ الثورة، لدى الكثيرين، رغبة في التحرّر من هيمنة هذه النخبة وتجسّد ذلك في التركيز الكبير على الصراعات الهووية، خصوصا في الفترة السابقة لصدور دستور 2014، ممّا لعب دورا كبيرا في توجيه الحياة السياسية.

دون أن يحتاج إلى بيان ذلك في مضمون خطابه (وإن يكن قد فعل)، تأتي لغة قيس سعيّد لتؤكّد بشكل لا لبس فيه على موقفه من هذه القضيّة. باعتباره مدرّسا جامعيا، فهو ينتمي إلى النخبة ولكنّه من أولئك الأفراد الّذين حسموا في قضيّة الهويّة لصالح الانتماء العربي الإسلامي. هذا الانتماء الّذي يرى أنصاره انّه كان مغيّبا في العهد السابق يعود لفرض حضوره بقوّة رمزيا من خلال انتخاب رئيس متمسّك باستعمال الفصحى بعد سلسلة من الرؤساء “المتفرنسين“ الّذين استمرّوا حتّى بعد الثورة.  ويمعن قيس سعيّد في التأكيد على معنى التجذّر من خلال الأمثلة الّتي يضربها في خطابها والتّي يعود بعضها إلى التراث العربي القديم (الإخشيدي، زقفونة…).

لغة تحيل إلى الطرافة

جرت العادة في تونس أنّ جميع الخطابات الرسميّة تؤدّى بالفصحى. لكن فيما عدا ذلك، تستعمل الدارجة التونسية في اللقاءات الإعلامية. قد تختلف درجات استعمالها، فنجدها مطعّمة بالفرنسية لدى البعض، أو تحاول الاقتراب من الفصحى لدى البعض الآخر.

لكنّنا لم نشهد في تونس سياسيّا يستعمل الفصحى في تواصله العادي اليومي، مثلما يفعل قيس سعيّد. فلئن كان المجتمع استبطن هذه الازدواجية بين الفصحى والدارجة إذ حصر الأولى في الرسميّات دون التواصل العادي، نجد أنّ قيس سعيّد يرفض هذه الازدواجية ويتحدّث في جميع أموره بلغة واحدة فصيحة قد تلحق بها في أحيان قليلة ألفاظ عاميّة لا تؤثّر عادة على فصاحتها.

ينفرد سعيّد بذلك عن جميع السياسيين، وكأنّنا به يعلن أنّه، عكس ما يرمون به جميعا، ينفر من كلّ ازدواجيّة في الخطاب ويصرّ على أن يكون نفسه دائما، في سريرته كما في علانيته. ولعلّه يذكّرنا في ذلك بنماذج طريفة، لعلّ بعضنا عرفها، عن مربّين كانوا يصرّون على التحدّث بالفصحى حتّى خارج الدروس. هو يُرجعنا كذلك إلى سؤال “آش بيك تحكي بالفقهي؟“ الّذي يحيل، فضلا عن طرافة الحديث اليومي بالفصحى في مجتمعنا، إلى استبطان لتعاليها عن الدارجة.

لغة توحي بالتعالي

عادة ما ينفر الجمهور من أيّ خطاب يتعالى عليه، لكن في حالة قيس سعيّد يبدو أنّ العكس هو الّذي حصل. ذلك أنّ اللغة المستعملة تحيل إلى الصلابة في المواقف والسموّ الأخلاقي.

لغة تحيل إلى الصلابة في المواقف

يعمد قيس سعيّد في مختلف أحاديثه إلى الضغط بشكل واضح على مخارج الحروف. هو لا يحاول انتقاء الألفاظ التي تتسّم بالسلاسة والتي تكون أخفّ وقعا على أذن المستمع، بل أنّه لا يبالي بما يستعمله من ألفاظ وتعابير، حتّى إن كانت حوشيّة أو مهجورة، ما دامت هي الأقرب للتعبير عمّا يريد قوله، كما أنّه من المألوف عنده أن يسترسل في الحديث لمدّة طويلة، حتّى وإن كرّر نفس الأفكار بل ونفس الألفاظ أحيانا.

حتّى قبل ترشّحه للرئاسية، تولّد انطباع لدى المستمعين إليه أنّ طريقة حديثه ليست طبيعية. شبّهه بعض الساخرين بالإنسان الآلي وبالقطار الّذي إذا انطلق فهو لا يتوقّف ورموه بالجمود وحتّى بالتوحّد. ولكنّ تقبّل غالبية الجمهور لهذه الطريقة كان مختلفا. تضحي طريقة الكلام الثقيلة علامة على عمق ما تحمله من دلالات، ويصبح الاسترسال المطوّل آية الوثوق التام في صواب الرأي، ويصير التكرار الدائم دليل التمسّك الشديد بالمواقف. إنّ “إهمال“ المتلقّي يتحوّل لدى قيس سعيّد إلى ميزة له على سائر السياسيين فهو على عكسهم لا يساير ما يريده الجمهور، بل يمضي فيما يريده دون أن يبالي بشيء، مترفّعا عن صغائر السياسة كما يراها.

لغة تحيل إلى السموّ الأخلاقي

تؤكّد مختلف استطلاعات الآراء على ضعف ثقة التونسيين في السياسيين عموما وفي الأحزاب على وجه الخصوص. ولئن كان الرأي الشائع يميل إلى الإجماع حول فساد الطبقة السياسية، فقد ظلّ الجميع يبحث عن استثناء.

جاء قيس سعيّد ليتحدّث إلى الجمهور بلغة فصحى معتّقة ربّما يعسر فهمها على البعض ولكنّهم مع ذلك انبهروا بها، فما دام يتحدّث بهذه اللغة المتعالية عن حديثنا اليومي، فلا شكّ أنّه يتسامى عمّا يشوب حياتنا من انحطاط. كأنّه إذ يتحدّث هذه اللغة يعلن أنّه أرقى من الجميع: أرقى من السياسيين الفاسدين الّذين ينهشون لحم البلاد وأرقى كذلك من عموم الشعب. صحيح أنّه يزعم أنّه فقط ينطق عمّا يريده الشعب، ولكنّ “الشعب“ إذ يبحث عن مخلّص من الوضع المتردّي الذي تعيشه البلاد فهو ينتظر لا مثيلا لنفسه بل إنسانا أعلى منه لا يزال متشبّعا بالمُثُل التي نفتقدها اليوم. أتى قيس سعيّد بفصحاه، وكأنّه ذلك النبيّ القادم برسالة فوقيّة يبشّر بها هذا المجتمع الغارق في الظلمات. كانت هذه الفصحى أحد المعالم في بناء سرديّة الإنسان المستقيم النزيه الّذي يرتقي فوق كلّ الشبهات.

باعتماده لهذا اللون من الفصحى، يبدو أنّ قيس سعيّد نجح في قلب ما كان يبدو نقاط ضعف في خطابه إلى ميزات يتقدّم بها على منافسيه في الساحة السياسية بأشواط. لعلّه استفاد في ذلك من النمطيّة السائدة لدى سائر السياسيين والّتي تجعل من الصعب التمييز بين خطاب وآخر. لقد نجح لأنّه بإصراره على الحديث بالفصحى، كما كان قبل دخوله إلى مضمار السياسة، كان نفسه ولم يرتد جبّة غيره، وذلك بغضّ النظر عن بقيّة معالم خطابه السياسي، وخاصة مضمونه الّذي يبدو أنّه لم يتطوّر حتّى بعد دخوله إلى قصر قرطاج. غياب الانتقال من القول (الغارق في التعميم والتعويم) إلى الفعل (المتعالي عن مجرّد الامتناع) يضفي نوعا من النمطيّة التي تجعل بمرور الوقت شعبيّة الرئيس مهدّدة بالتآكل شيئا فشيئا.

 

ورد هذا المقال ضمن مجلّة حروف حرّة، العدد الأوّل، صص. 6-7

 كامل العدد متاح للتحميل على الرابط التالي: 
https://tounesaf.org/wp-content/uploads/2021/03/Hourouf-Horra-01.pdf

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights