الفلسفة ووعود اختراع المستقبل
|بقلم: مريم مقعدي
هل ثمة علاقة ضرورية تجمع بين الفلسفة والمستقبل؟
هل تعدنا الفلسفة بمستقبل ما في عصر التقنية؟ أم أنها “انسحبت” منذ سيطرة التقنية، فأصبحت مجرد “طمأنة للأطفال” مثلما عبّر عن ذلك دريدا بطرافة؟
بمعنى آخر، هل بإمكان الفلسفة أن تنقذنا اليوم؟ وممّ ستنقذنا؟ هل بإمكانها أن تنقذنا من سياسات الحرب والتجويع والسمسرة بالإنسان؟
هل بإمكانها أن تنقذنا من ثقافة الاستسلام والإحباط التي باتت تخترق الإنسان الحديث من كل جانب؟ أم أنها يمكن أن تضطلع بكل ذلك، أي أنها يمكن أن تخلّصنا من كل المشاعر الارتكاسية على المستوى النظري، وأن تهدينا آليات لاختراع مستقبل ممكن على المستوى العملي .
يبدو أن الفلسفة اليوم، أي في عصر التقنية التي مارست عنفها على الطبيعة حد الاستنزاف، بات عليها أن تفارق أسئلتها الميتافيزيقية التي سطّرت كامل تاريخ الفلسفة القديمة، وحتى الوسيطة منها، وأن تنخرط في المقابل في التحديات الجديدة التي تطرحها علينا الحياة الحديثة. لعل أهم تلك التحديات تتمثل في المشاكل الايكولولوجية في علاقتها بالتقنية من جهة، وفي علاقتها بمسؤولية الإنسان تجاه الطبيعة من جهة ثانية.
إن كتاب “مبدأ المسؤولية” للفيلسوف الألماني هانس جوناس، يمثل تعبيرا جيدا عن هذا الرهان الجديد الذي ستضطلع به الفلسفة، ألا وهو السؤال عن “المستقبل”. ذلك أن هذا الأخير، لا يعد بشارة كرونولوجية سعيدة، وإنما هو” عصر جديد” بامتياز، كنس لكلّ العوالم الميتافيزيقية القديمة، واستبدالها بأسئلة وعوالم جديدة، أو حديثة بمعنى ما. وعندئذ علينا أن نسال بكل براءة: هل يمكن أن نواصل اليوم -أي في عصر التقنية- اتهام الفلسفة بالكفر وبالتجديف على الدين؟ وبالتالي، أن نعامل الفيلسوف على انه ذاك “الغريب” الذي يهتم بمشاكل ميتافيزيقية لا تنتمي إلى عالمه الحديث؟
في كتابه الذي يحمل عنوان “فلسفة الأشياء الصغيرة”، يجيبنا فتحي المسكيني أنّ “عصر التقنية قد أعاد إلى الفلسفة براءتها”، ذلك أنه” لم يعد الفلاسفة معنيين بأسئلة “الأصل” و”العلة الأولى” و”ماهية الموجود”…الخ، بقدر ما صاروا مدعوين إلى تهيئة نوع جديد من الكينونة في العالم يتصالح مع الكون ولا يتّهمه بأي شكل من الإشكال.”
لقد بات على الفلسفة إذن أن تجدد أسئلتها وتغادر سكونها الميتافيزيقي، أين يكون السؤال على المستقبل ممكنا: مستقبل الحياة على سطح الأرض، في ظل التغيرات المناخية التي يشهدها عالمنا الحالي، في علاقة باستعمال الإنسان المفرط واللاأخلاقي” للتقنية. فهل يمكن للفلسفة أن تسائل التكنولوجيا أخلاقيا، في عصر أصبحت فيه الآلة هي شكل الحياة الوحيد الممكن على سطح الأرض ؟
يبدو أن استبصار أسئلة جديدة للفلسفة اليوم في علاقتها بالتقنية يعدّ أمرا ملحا، لا من جهة كون هذا السؤال يعد ترفا نظريا راهنا، وإنما من جهة ما يحمله من إمكانيات لاختراع مستقبل ممكن خاصة للشعوب العربية، التي مازالت لليوم تعاني من كل أشكال التبعية العلمية والتقنية في أغلب المجالات. هل هذا يعني أن بإمكاننا -نحن الشعوب العربية- أن نؤسس لفلسفة ممكنة في لغتنا وفي انتمائنا، فلسفة نستعيد من خلالها قدرتنا على “التوحش” وعلى “الانجاز”، أي قدرتنا على أن نبني عالما خلاقا، قابلا للعيش-و ليس فقط لمجرد الحياة- ضمن سؤال جديد رسمته لنا الحداثة، ألا وهو سؤال التقدم التقني. ربما هذا هو الرهان الحقيقي!
ذلك أن الفلاسفة منذ ديكارت، وإن عبروا بحماس عن فكرة “الكوني”، فإنّ نصوصهم الفلسفية ومحاوراتهم لا تخلو من استعارات مسكونة بانتماءاتهم الجغرافية. نيتشه نفسه، الذي قلب بشكل ما الإحداثيات والمعايير الحديثة، لا يتوانى أبدا في عديد المواضع بتذكيرنا بأنه”مواطن أوروبي جيد” .
يبدو انه علينا اليوم أن نعيد “تنشيط” قدرة الفلسفة في الانخراط في أسئلة المستقبل، باعتباره الأفق الوحيد الممكن للتواجد. ولكن السؤال الذي يستفزنا هنا بقوة هو التالي: هل ثمة مستقبل ممكن، في عصر يباد فيه الإنسان كما تباد آلاف الحشرات في الطبيعة؟ هل ثمة أفق ينتظرنا في عالم تخترقه سياسيات التوحش من كل جانب؟
من هنا علينا أن نراهن اليوم من جديد على قدرة الفلسفة على اختراق كل سياسات النفي والإقصاء والتجويع، من اجل التأسيس لرؤية مستقبلية جديدة، تؤمن بتعدد الكونيات الثقافية، ولا تقوم بالضرورة على عداوة أي أحد باعتبار أن” العداوة هي العدو اللدود للفلسفة وللفكر معا”.
إن الأزمة المزدوجة التي يعيشها عالمنا الحالي: في مجال التطور العلمي والتقني من جهة، وجراء الحرب اليومية التي تشن ضد أهالي غزة وفلسطين من جهة ثانية، فرضت على الفلسفة أن تعيد مراجعة انشغالاتها القديمة، كوعد لاختراع مستقبل ممكن، وكمغامرة تحثنا من جديد على “الدهشة”، التي لا احد بإمكانه أن يجد جوابا نهائيا لها.
نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 36، خريف 2024.
للاطّلاع على كامل العدد: tiny.cc/hourouf36