إلى أي مدى يمكن أن نفكر اليوم في الفراغ ؟

 

بقلم: مريم مقعدي

لما كنا نعيش في عالم يخترقه الفراغ من كل جانب، إذ ليس هذا الأخير سوى فقر هذا العالم الحالي من كل مشاعر الفرح وكل المشاعر الخلاقة القادرة على خلق كينونتنا في هذا العالم  مثلما عبّر عن ذلك انطونيو نغري نفسه في كتابه الذي خطه في السجن ” الفن والجموع”، فان نغري يقترح علينا أن نعيد النظر بشكل آخر للعالم، بحيث نضمن للإنسانية الحالية سردية أخرى تدفع بنا إلى المستقبل وليس إلى الماضي.

و لكن هل بوسعنا اليوم أن نفكر حقا في سردية جديدة في عالم بات يشهد ”نهاية السرديات الكبرى“ مثلما وقّع ذلك فيلسوف ما بعد الحداثة جون فرنسوا ليوتار ؟

يبدو أن هذا الرهان يخفي في ظاهره عدة تحديات، في عالم بات فيه كل شيء ينذرنا “باللاعالم” في كل مكان… في عالم سقط في الخرائط وارتطم بخريطة سلبية، أين وجدنا أنفسنا في نوع من العطالة أمام كل الحقائق التقليدية. ماذا علينا أن نفعل إذن؟ أو مثلما سال نغري ” كيف عبور هذه الصحراء ؟ كيف لنا أن نتخيل من جديد انفتاح العالم الحالي على الفرح؟”.

يبدو أنه ” لا بديل لنا عن هذا العالم ولكننا نملك بديلا في صلب العالم نفسه، لذلك كان  الفن بمثابة هدية الفلسفة اليوم ضد كل القوى الارتكاسية والظلامية التي حولت هذه الحياة إلى مسرح من الآلام والفظاعات. وبهذا المعنى يخرج الفن من بعده الاستطيقي، إلى بعد آخر انطولوجي، يكون فيه قادرا على اختراق الفراغ وبالتالي صنع كينونتنا في العالم.

إن الفن نفسه في عصر ما بعد الحداثة، انخرط في مسار سياسي اكتسب فيه بعدا ثوريا تحرريا. لذلك يشدد نغري على دور الفن في خلق الجموع الحرة، باعتبارها جموعا خارجة عن كل أشكال الضبط والقيس والتحديد. فوحدها الجموع الحرة المقاومة لكل أشكال الرأسمالية التي شيئت الإنسان تعزينا إذن، وتعطينا إمكانية جديدة للخلق ولاختراق كل أشكال الفراغ. ولعل ما يزيد الأمر طرافة هو أن نغري قد حرر الفن ذاته من من تلك الذات المتعالية “الطاهرة” التي خلقته، ورمى به إلى الجموع مؤكدا على أن الفن ليس ملكا لذات واحدة ابتكرته هي ذات الفنان أو الرسام أو النحات، وإنما هو ملك للجموع الحرة.

إن الفن بهذا المعنى ليكتسب بعدا ثوريا ومقاوما، يجعل من فعل الوجود إمكانية جديدة للتفلسف وللخلق راهنا. إذ ليس الفن هنا مجالا للفرار من الحقيقة مثلما اعتبر ذلك نيتشه (“لنا الفن كي لا تقتلنا الحقيقة”)، وإنما هو مجال كي نحتمل هذه الحياة بكل فظاعتها وآلامها وانكساراتها.

نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 33، ديسمبر 2023.
للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf33

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights