من يعدنا بالدماء والدموع والعرق ؟
|منذ الأيّام الأولى الّتي تلت 14 جانفي، صاحب طوفان الأحزاب المتكوّنة حديثا طوفان مماثل للوعود…وعود أصبحت بمثابة الخبز اليومي لمّا اقترب موعد الانتخابات: الخبزة بـمائة مليم، نسب نموّ قياسيّة، تشغيل مئات الآلاف من العاطلين، المداواة المجانية للجميع…وبرز في خضمّ ذلك الشعار العجيب “توّة”: كلّ شيء يجب أن يتحقّق الآن وفورا. والحقيقة أنّ “توّة” هذه لم تكن مجرّد شعار لحملة انتخابيّة يقوم بها أحد الأحزاب، بل هي تكريس لثقافة متغلغلة في المجتمع انفجرت في ظلّ الأوضاع الّتي عرفتها البلاد في الفترة الأخيرة. لم يعد من المهمّ كثيرا أن تكدّ وتعمل وتكدح وتزرع حتّى تحصد، بل يكفي أن تصيح وتعتصم كي تجد مطالبك ملبّاة حالا (انظر مقالنا: الثورة وقيم التقحيف)
والبحث عن الحلول السحريّة الّتي تحقّق الأماني في ثوان، كمصباح علاء الدين، ليس بالشيء الجديد. وظاهرة “الحرقان” إلى الجنّة الموعودة للعودة بثروة خياليّة في وقت قصير لم تكن خافية. ولعلّ نجاح الثورة في الإطاحة برأس النظام في أمد قصير، وبطريقة تكاد تكون عجائبيّة (فرار مفاجئ لم تفهم دواعيه الصحيحة إلى اليوم) زاد في تعميق مثل هذه الأفكار الّتي سعت عدّة أطراف سياسيّة إلى توظيفها: البطالة حلّها في ليبيا الّتي أصبحت تحتاج بقدرة قادر إلى مئات الآلاف من العَمَلة، الاستثمارات سيتكفّل بها أشقّاءنا في الخليج وفي قطر خاصة، ثروات كانت مجهولة من النفط والغاز ترقد تحت تراب ولاية القيروان…وجاء أحدهم ليغازل بوقاحة فجّة أحلام الغرائز المكبوتة في الجميلات الحسان ممّن ملكت الأيمان. كلّ هذا والوضع الاقتصادي والاجتماعي على الهشاشة الّتي يعلمها الجميع وهو ما يذكّر بعبارة هربرت هوفر (رئيس الولايات المتّحدة بين 1929 و1933) الّذي كان يردّد أنّ “الرخاء ينتظرنا عند المنعطف الأوّل للطريق” فكان أن غرقت بلاده، بعد أشهر معدودة من انتخابه، في أكبر أزمة اقتصادية في تاريخها وما لبثت أن امتدّت آثارها إلى العالم بأسره.
كان من المفروض أن يكون تخلّصنا من القيود الّتي كبّلتنا طيلة عقود فرصة تاريخيّة لكي نرسم معا وطننا كما نحلم به، وطنا ناهضا متقدّما لا يجوع فيه أحد ولا يعرى. وكنّا ننتظر أن يضع من انتخبناهم للتأسيس اللبنة الأولى لحلمنا، ولكنّهم تاهوا وتوّهونا في نقاشات بيزنطيّة حول السلفيّة والعلمانيّة، والشريعة والدولة المدنيّة، والمصالحة والعدالة الانتقاليّة، والشرعيّة والمشروعيّة، والصفر فاصل والأغلبيّة…(انظر مقالنا: نحو مجلس تأسيسي لا يؤسّس) وكلّهم يسترضي جمهور الناخبين ويداهنه ويتملّقه ترقّبا لموعد جديد يوصل/يبقي في كرسيّ الحكم السعيد. ولم يحفل أحدهم بأن يقدّم مشروعا جادا يلتفّ حوله عموم التونسيين واثقين أنّ عليهم أن يقدّموا الجليل من التضحيات وأن يسموا فوق نفوسهم كي يروه في يوم، ربّما قد يبعد كثيرا، واقعا تطاله اليدان.
لسنا في حاجة إلى من يعدنا أن تمطر السماء ذهبا وفضّة، وأن يبيعنا سهل الريح. كلّ دقيقة من الخمول في هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا ستكون نتيجتها سنين من المعاناة للأجيال القادمة. نحن في حاجة إلى من يعدنا، كما فعل ونستون تشرشل في أول خطبه بعد توليه رئاسة الوزراء في بريطانيا، بالدماء والدموع والعرق.