نحو مجلس تأسيسي لا يؤسّس

 مع اقتراب موعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي، بدأ عدد كبير من الأحزاب السياسيّة يعرض برامجه السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. بعض هذه البرامج بعيد كلّ البعد عن الواقع ويبدو أشبه باصطياد ساذج لأصوات الناخبين: نسبة نموّ بـ 15%  (ولا الصين في أوجه نموّها !)، تشغيل 300 ألف عاطل عن العمل في ظرف سنتين (وعد المخلوع !)، خبزة بـ 150 مليم (لأنّ المواطن همّه الخبزة قبل كلّ شيء !)…في المقابل، مازالت بقيّة الأحزاب تصوغ برامجها ووعد بعضها بالكشف عنها قريبا بعد الانتهاء من استشارة الخبراء. وبصفة عامة، فإنّ طرح هذه البرامج أو البحث عنها يثير الاستغراب من وجهين:
– وجود أحزاب لا برامج لها أو تشقى لإيجاد برامجها يعني أنّ “الحصيرة تسبق الجامع” !  فمن المفروض أنّ لكلّ حزب خلفيّة فكريّة واضحة تتمّ صياغتها في ظرف معيّن في شكل برنامج. أمّا الجري وراء البرامج واستقدام الخبراء من خارج الحزب لإعداده فيعني أنّ الأحزاب تبحث عن نفسها، ولا يجمع بين أعضاءها فكر واحد، ولا تقوم على غير العلاقات الشخصيّة.
– طرح برامج اقتصاديّة واجتماعيّة مفصّلة لا يستقيم والغاية من المجلس التأسيسي. إذ من المفروض أن يقتصر الأمر على طرح مختلف الرؤى حول الدستور وتقديم اقتراحات لنظام الحكم و كيفيّة تحقيق التوازن بين السلط والحقوق والحريّات الّتي سيتكفّل الدستور بحمايتها وآليات هذه الحماية.
هذه الرؤى تكاد تغيب تماما عن برامج الأحزاب إلا فيما ندر (جزء صغير من برنامج التكتّل الديمقراطي تعلّق بالدستور، وثيقة ضئيلة الحجم قدّمها القطب الديمقراطي الحداثي، ويبقى أكبر حيّز مخصّص للدستور موجودا في برنامج الديمقراطي التقدّمي). وبصفة عامة، لا تتجاوز الإشارات إلى الدستور، إن وجدت، حدود العموميات (ضمان الحقوق والحريات، ضرورة الفصل بين السلط، إنشاء محكمة دستوريّة عليا…) ولا تأخذ حيّزا كبيرا من برامج الأحزاب.  وأكثر المشاريع جدّية لم يأت من الأحزاب، بل قدّمه العميد الصادق بلعيد الذي كتب مسودّة لدستور في 175 فصل.
هذا الغياب يترجم النظرة التي تحملها الأحزاب لانتخابات المجلس التأسيسي. فهي بالنسبة إليهم ليست انتخابات للتأسيس، بل هي انتخابات للوصول إلى سدّة الحكم. ويتأكّد ذلك من خلال الحديث الّذي يسود عن التحالفات (سواء ما قام منها قبل الانتخابات أو ما يدعى إلى تشكيله بعدها). ماذا يعني التحالف بين أحزاب سوى الرغبة في الحصول على الأغلبيّة اللازمة لتشكيل حكومة ولتمرير مشاريع القوانين؟ قد يكون الأمر مقبولا لو تعلّق بأحزاب تحمل مشاريع مجتمعيّة متقاربة سيتمّ الدفاع عنها صلب المجلس التأسيسي، لكن أن نسمع بتحالف بين أقصى اليمين والقوميين والاشتراكيين، فهذا لا يمكن أن يعني تقاربا في المشاريع!
والغريب أنّ بعض الأطراف رمت عرض الحائط بمشاريع جادة كانت يمكن أن تكون أساسا لنقاشات  المجلس التأسيسي. فحركة 18 أكتوبر الّتي جمعت اتجاهات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والّتي استمرّ النقاش في إطارها عدّة سنوات خرجت بوثائق هامّة، خصوصا فيما يتعلّق بمسألة الهويّة، ولكن لا حديث عن مكتسباتها الآن إلا لماما. كما أنّ الديمقراطي التقدّمي سبق أن قدّم في أواخر عهد الرئيس المخلوع مشروعا لدستور على أعمدة جريدة الموقف، ولكن لم أسمع كلمة عنه بعد الثورة، في حين أنّه كان من المفترض أن يكون الخروج من الدكتاتوريّة هو الفرصة المثلى لترجمته إلى أرض الواقع.
والحقيقة أنّ هناك إغراءات كثيرة تبرّر هذا النزوع إلى اقتناص فرصة المجلس التأسيسي للوصول إلى الحكم. فهذا المجلس سيجمع بين يديه جميع السلطات وسيكون نظام الحكم (المؤقّت) في عهده نظام مجلسيّا Régime d’assemblée  بمعنى أنّ الحكومة ستنبثق عن المجلس وتكون خاضعة له، وهو ما يعني أنّ الأغلبيّة الموجودة في المجلس ستمسك مقاليد جميع الأمور بأيديها. كما أنّه لا حدّ زمنياّ لهذا المجلس، وهو ما يعني أنّه بإمكانه، نظريّا، أن يبقى ما يشاء. ونظام التصويت (على القوائم باعتماد النسبيّة حسب أكبر البقايا) يهمّش دور المستقلّين ويقلّص الفوارق بين الأحزاب “الكبرى” و”الصغرى”، ممّا يجعل من جميعها يطمع (بشيء من الحظّ !) أن يكون جواد السبق، لاسيّما مع وجود نسبة تفوق الـ60%  في بعض استطلاعات الرأي من الناخبين لم يقرّروا بعد لمن سيصوّتون، ممّا يجعل كلّ الأحزاب تسعى لاستقطابهم لإحداث الفارق.
كلّ هذه العوامل تجعل من الصعب تصوّر أن يكرّس المجلس التأسيسي نفسه لوظيفته الأساسيّة، وظيفة التأسيس. وهذه الوظيفة تعني أن تضع الوثيقة النهائيّة الّتي ستتمخّض عن نقاشات المجلس (الدستور) أسس المجتمع الّذي يحلم التونسيون، جميع التونسيين، بالعيش في إطاره. والاضطلاع بهذه الوظيفة يتطلّب نظرة عميقة بعيدة عن الأهواء والأغراض تستشرف المستقبل وتؤسّس له. ولا يمكن تحقيق ذلك إذا كان الآنيّ الضيّق (الوصول إلى الحكم) هو ما يطغى على تفكير “آباءنا” المؤسسين المستقبليين. وفي غياب هذه النظرة، لا يمكن أن ننتظر من المجلس أن يكون إلا نسخة مكرّرة بسلطات واسعة من هيئة تحقيق أهداف الثورة الّتي احتدّت فيها النقاشات وكثرت الصراعات وبلغت حدود الاتهامات والسباب على أدقّ التفاصيل، فكيف إذا تعلّق الأمر بوظيفة خطيرة كوظيفة التأسيس؟ وإذا كان المجلس الوطني التأسيسي المنتخب سنة 1956 قضّى أكثر من ثلاث سنوات لإنجاز وظيفته رغم أنّه كان ذا لون واحد، فكم ينبغي علينا أن ننتظر مجلسا قزحيّ الألوان ترنو عيون جميع أعضاءه إلى الكرسيّ؟ أ لا يمكن أن يقودنا غياب الرؤية إلى دستور لا يحمل مشروعا لمجتمع بل إلى خليط هجين من الفصول الّتي يكون اعتمادها نتيجة حسابات ومساومات وبيوع وشراءات غرضها ذلك الكرسيّ…دستور لا نلبث أن نطالب بغيره؟

Please follow and like us:
One Comment

اترك رد

Verified by MonsterInsights