الثورة وقيم التقحيف
| “قحّف (بثلاث نقاط فوق القاف) يقحّف تقحيفا فهو قحاف وجمعها قحّافة”. غفل إبن منظور، رغم كونه تونسيّا، عن إدراج هذا اللفظ في لسان العرب لأنّ التقحيف كان بعيدا آنذاك عن عصره الذهبي. هذا المصطلح عرف رواجا بعد فوز الوثائقي التونسي “قحافة” بجائزة في مهرجان أقيم بدبي منذ حوالي عامين. ويطرح هذا المصطلح جدلا فقهيّا بين أنصار المدرسة التقليديّة وأنصار الاتجاه الحديث الذين يمثلهم أصحاب الوثائقي المذكور. حسب الاتّجاه الحديث، يمكن تعريف التقحيف بكونه “فنّ إضاعة الوقت”، و شكله الكلاسيكي هو قطعا التسكّع في المقاهي. أمّا الاتجاه التقليدي فيعرّف التقحيف بكونه “فنّ الاستعطاء”. هذان الاتجاهان لم يكن يجمع بينهما سوى اعتبار التقحيف فنّا. ولكنّ ثورتنا المجيدة تمكّنت من الجمع بين التعريفين، وأصبحت عند الكثيرين ثورة تقحيف بتعريفيه، ليصبح التقحيف “فنّ إضاعة الوقت في الاستعطاء”.
من السهل ملاحظة هيمنة القحافة على الثورة التونسيّة…يكفي أن تمرّ بإدارة أو مؤسّسة عامة أو خاصة لتجد الموظفين والعملة يقضون أطيب الأوقات في التقحيف: إذ يعتصمون، إلى أجل غير مسمّى، مطالبين ومطالبين ومطالبين… هؤلاء يحققون التقحيف الجديد بأنّهم يستثمرون وقتهم ووقت مؤسستهم الثمين بطريقة “ثوريّة” وفي نفس الوقت يقحفون بطريقة تقليديّة بما أنّ النتيجة المنتظرة هي زيادة الرواتب أو الترسيم أو غيرها من المنافع…(والشكل الآخر للتقحيف هو الاعتصام أو التظاهر لمطالب “سياسيّة بحتة” وهو ما يستجيب فقط للتعريف الحديث للتقحيف، إذا ما غضضنا النظر عن وجود أشياء “تحت الحيط”)… وطلب هذه المنفعة الماديّة ليس استعطاء كما يقتضيه تعريف التقحيف، إذ أنّ الثورة أدّت إلى انزياح في مفهوم الاستعطاء وحوّلته إلى حقّ ثوري…من غير الممكن أن تسألهم لم لا يمكنهم أن يصبروا بضعة أشهر لتحقيق ما يطلبون، وهم الذين صبروا سنين، إذا كانوا يعتبرون مطالبهم مشروعة…لا يوجد ما يسمّى انتظار الوقت المناسب في فلسفة التقحيف…القحافة يؤمنون إيمانا لا تساوره ذرّة من شكّ أو ارتياب بمقولة Carpe diem . كلّ الأوقات مناسبة، والمستحسن أن “تضرب ضربتك توّة” لا سيما إذا لم يلحق منها أيّ ضرر على ممارس التقحيف، بل على العكس من ذلك، التقحيف الآن بطولة…التقحيف الآن نضال ثوري…القحافة الآن لم يعودوا ينعتون بالبطّالة والكسالى، بل أنّ نضالهم التقحيفي يمنحهم الآن وصف “الأحرار”، ومن يستطيع التشكيك في ذلك إلا عدوّ للثورة أو مندسّ من أذيال النظام السابق؟ الحكومة نفسها اضطرّت إلى الانحناء إجلالا واحتراما للقحّافة، فحتّى لمّا تجرّأت قليلا وأثارت حكاية “هيبة الدولة” الموجّهة أساسا ضدّ نضالهم العتيد، قامت الدنيا ولم تقعد واتّهم عمّ الباجي بالسعي إلى القمع والعودة إلى ممارسات النظام البائد ووو…حتّى رضخت الحكومة، وأصبح شعارها الدائم “دعه يقحّف، دعه يمرّ”. بل أنّ عدم المبادرة إلى الدخول في اعتصام أصبح عند البعض علامة على الجبن، كيف لا وكلّ المطالب تقريبا يستجاب لها. بل أنّ الدولة عجزت عن حرمان القحافة حتّى ممّا ليس لهم فيه حقّ، فمنحة البطالة أصبحت حقّا مكتسبا باسم الثورة، يطلبها البطّال وغير البطّال (أحدهم قال أنّ الناس أصبحوا يعتبرونها منحة ثورة لا منحة بطالة).
من ثورة للكرامة والحريّة إلى ثورة للقحافة، هكذا هو مسار الثورة. لكن حذار من اتهام القحّافة بالركوب على الثورة، فهم أكثر تقحيفا من أن يخطّطوا لشيء مماثل. هم فقط يقحّفون كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. فلنقضّ الوقت في المقاهي، ولنعتصم لسبب ولغير سبب…بذلك نكون “قحافة صحاح”، أي ثوريين باللغة السائدة الآن.
من ثورة للكرامة والحريّة إلى ثورة للقحافة، هكذا هو مسار الثورة. لكن حذار من اتهام القحّافة بالركوب على الثورة، فهم أكثر تقحيفا من أن يخطّطوا لشيء مماثل. هم فقط يقحّفون كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. فلنقضّ الوقت في المقاهي، ولنعتصم لسبب ولغير سبب…بذلك نكون “قحافة صحاح”، أي ثوريين باللغة السائدة الآن
ويالها من مفاهيم ثورية جديدة كرّست مبدأ جديدا يخدم مصالح شخصية جدا بعيدا عن مصلحة الجماعة وبعيدا عن مفهوممطالب الثورة كالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية وازدهار البلاد…
مقال واقعي جميل يا حمزة يجمع بين الحقيقة وما بين احلام كل فرد يعي ماهي الثورة بكل مسؤولية…دمتَ