أي حريّة مع الإعلام؟
|نحن حقا نعيش في محيط المعلومة فيه هي القوة، وهو ما يعني أن المعلومة هي أيضا المال. عدد كبير جدا من الشركات الآن هي مكرَّسة بصفة محضة إلى تكديس ومعالجة وبيع المعلومات، وهذا الوضع يتزايد باطراد بل وبأضعاف مضاعفة. كلّما ازداد عدد القنوات المتوفّرة لتوزيع المعلومات (التلفزيونات الأرضية، الفضائيات، الفيديو، قنوات الراديو اف ام الجديدة… الخ. الخ.) كلّما كثر عدد الشركات التي تستغل رغبة الجماهير الغنمية في كل هذه المعلومات. تجمعها هذه الشركات، ثم تبيعها إلى الجماهير الغنمية. الأمر هو بهذه البساطة. وأنا لا أتحدث حول الإعلانات هنا.
و لكن من هي هذه الجماهير الغنمية؟ إنها تتكوّن مما يُسمّى الأشخاص “العاديين”. الشخص “العادي” يقرأ الصحف، يشاهد النشرات التلفزيونية الإخبارية والشؤون الجارية، يستمع إلى نشرات الأخبار الإذاعية ويصدّق في الواقع العديد من المواضيع التي يسمعها.
الأهم من ذلك أنه ينفق قدرا كبيرا من وقته في مناقشة هذه القضايا مع الأصدقاء، ويُكثر من الحديث عن الصائب / الخاطئ في مسألة معينة. بهذه الطريقة، يتم التحكم في مشاعره بأي خبر تقرر وسائل الإعلام أنها ستنشره في ذلك اليوم. هو يحمل مجموعة ضخمة من الآراء ووجهات النظر حول كل موضوع يمكن أن تتصوره من الطاقة النووية إلى الإجهاض، وينفق قدرا كبيرا من وقته للشرح والدفاع عن هذه الآراء.
الشخص “العادي” يقوم بهذا رغم أنه في كثير من الأحيان لا يمتلك تقريبا أي معرفة على الإطلاق في تلك المواضيع، وهو يكرّر فقط مجرد ‘قطع من المعلومات’ صادرة عن وسائل الإعلام. وعلاوة على ذلك فإن اعتقاداته هي مختلطة ومتناقضة مع بعضها. سيكون عاجزا تماما على الدفاع عنها في أي جدال عقلاني.
هو يشاهد مناظرات تلفزيونية حول مسألة معينة في موضوع ما، ويصطفّ ببساطة إلى جانب أحد ما أو آخر! – بل يصبح غاضبا عندما يتم الإعراب عن الرأي المعارض والمخالف. بهذه الطريقة، فإن آرائه ووجهات نظره هي مستقطَبة كلّيا نحو معسكر أو آخر، وبعيدة بشكل قاطع عن أي خيارات / قرارات / نقاشات حقيقية.
ومع ذلك، يزعم هذا الشخص “العادي” أنه حر!
القائمون بالاحتيال الإعلامي يحاولون تحويل قيمك منك بتعلات واهية. القيم التي يسعون إليها هي في المقام الأول المال، وثانيا النفوذ (أي السلطة) على الجماهير. هم فنّانو خدعة لأنهم في الغالب غير واضحين بشأن دوافعهم. بدلا من ذلك، تتخفّى وسائل الإعلام في زي أبطال غيريّين وغيورين على الشعب، يحاربون إلى جانب قرائهم / مشاهديهم ويواجهون كل خطر بتفان لتقديم أحدث الأخبار الهامة من زوايا قصيّة من العالم.
المكافأة بالنسبة لوسائل الإعلام هي المال والسلطة والنفوذ. والمكافأة بالنسبة للجماهير الغنمية هي الاعتقاد الحزين والبائس بأنهم يعرفون فعلا ما يجري في جميع أنحاء العالم – في حين أنهم لا يعرفون؛ والشعور بأنهم ، بسبب أنهم يفهمون ‘أحدث القضايا’، فإن لديهم قوة شخصية – وهو ما لا يمتلكونه في الواقع.
تعمل وسائل الإعلام بشكل انتقائي من خلال تقديم مقتطفات منقّحة من أخبار العالم. هذه المقتطفات هي الأجزاء التي يعتقدون أنها ستثير اهتمامك أكثر. وفي معظم الوقت، يتم اختيارها فقط لدرجة الإثارة التي تسبّبها.
مثلا انظر في هذه العناوين . ثم انظر إلى “الحقيقة” بين قوسين بعد ذلك:
“الجبهاويون” أكملوا 500 مشروع مستشفى أكثر من العام الماضي.
( لأنهم غيّروا تعريف ‘المشروع’. ‘المشروع’ عادة هو مستشفى كامل. الآن أصبح مقسّما إلى العديد من المشاريع الأصغر حجما. موقف سيارات للمستشفى هو مشروع، ومطعم المستشفى هو مشروع آخر، الخ.)
سياسي ينفي مشاركته في جلسة مثلية جنسية.
(ببساطة لأنه لم يشارك في أي جلسة مثلية على الإطلاق وليس لديه أدنى فكرة عما تتحدّث عنه الصحف!)
عار: النهضاوي الأكثر غيابا في تاريخ المجالس البلدية.
((لأنه قد توفي فعلا قبل عشرة أشهر ولكن الجريدة لا تأخذ عناء التحقق.
معدّل الجريمة في تونس ضعف بقيّة بلدان المغرب العربي.
(لأنه، مثلا، نحن نعرّف ‘ الجريمة ‘ بطريقة أكثر صرامة من الدول الأخرى. قد يُحسب انتشال المحفظة كجريمة هنا، ولكن ليس في موريتانيا على سبيل المثال.)
واحد من كل ثلاثة أشخاص سيموتون من النوبات القلبية – التقرير الصدمة
(هذا يتجاهل حقيقة أن الناس عليهم أن يموتوا بسبب ما، ويجب أن يتم تحديد سبب الوفاة على شهادة الوفاة. حتى لو مات الشخص أثناء نومه في سن متقدّمة تقارب 99، فإن سبب الوفاة الذي يمكن تدوينه قد يكون ‘قصور القلب’.)
عليك أن تعلم أن وسائل الإعلام على استعداد لاستخدام التضليل والإبلاغ بانتقائية بل حتى الكذب بصراحة من أجل بيع منشوراتها.
لقد وُجدت الصحف لتحصيل الكثير والكثير من المال لأصحابها. وهذا هو السبب الوحيد لوجودها. انتزع من ذهنك أي فكرة بأن الصحف قد وُجدت لتقديم خدمة المعلومة ولتحفظ المواطنين مطّلعين على آخر الأحداث العالمية بكل إيثار.
إذن كيف تجني الصحف الأموال؟ من خلال بيع المساحات الإعلانية في الصحيفة. كما أنها تجني المال من ‘سعر الغلاف’ للجريدة أو المجلة. التلفزيون يجني المال عن طريق بيع المساحات الإعلانية. هذا هو انشغالهم الرئيسي – كيفية يبيعون أكثر ما يمكن من الدعايات ذات التسعيرة الأعلى.
بالتالي، فإنه كلّما كبر تداول الصحيفة / المجلة ، أو ازداد عدد الناس الذين يشاهدون البرنامج التلفزيوني (و بالتالي الإعلانات خلال فواصل إعلانية)، كلّما كان بإمكانك أن تزيد من تكلفة الدعاية أو الإعلان. في الواقع ، هذا هو الحال بالضبط. المبلغ الذي تدفعه للدعاية والإعلان يرتبط مباشرة بعدد المشاهدين المحتمل أن تبلغهم. وهذا يعني أن المنشورات تسعى دائما وأبدا إلى زيادة تداولها بين الناس.
تستخدم وسائل الإعلام بشراسة أسلحة كالخوف، الشعور بالذنب، الكذب، الواجب، النزاهة، الإيثار والتلاعب بالصورة حتى تبيع منتجها. وهي ستستخدم أيا من هذه الأسلحة مرّة بعد الأخرى من أجل التأثير على مشاعرك وأفكارك. إنها ليست “شرّا” حسب نيتهم ، هم يريدون فقط كسب المال بواسطتك والتحكّم في أفكارك ومشاعرك لأن هذا يجعلهم يشعرون بالقوّة.
أحد الأسباب التي تجعل الناس يسمحون لأنفسهم بملء حياتهم بكل هذه الأشياء هو لأنه ليس لديهم فعلا شيء مهمّ أكثر للقيام به. لقد أدركتُ هذا منذ وقت طويل. هم حقا لا يمتلكون أي شيء يريدون القيام به في حياتهم. وإلا لما شاهدوا التلفزيون لمدة خمس عشرة ساعة أو أكثر في الأسبوع لو كانت لديهم أمور يرغبون في فعلها حقا.
هذه الحقيقة وحدها هي ما يميز الإنسان المتيقظ عن الناس العاديين. ماذا لو أُعطيت ستة أشهر فقط لتعيشها؟ هل تنفق أكثرها في مشاهدة “نشرة الأخبار”؟! بالطبع لا!
هل جرّبت مرّة الذهاب بعيدا عن البلاد، في عطلة مثلا، لبضعة أسابيع أو أكثر؟ ثم عدتَ إلى المنزل وأدركت فجأة أنك لم تسمع أي خبر لمدة أسبوعين. كل تلك الحكايات التي وُلدت، نالت الاهتمام البارز، ثم ماتت مرة أخرى. تمّت مناقشتها عبر التدخّلات الهاتفية- ولكن فاتك الكثير! هل أصبحتَ شخص أكثر فقرا لأنك ضيّعت كل تلك الأشياء؟ هل تشعر بأن هناك فجوة ضخمة في معرفتك؟ هل تقلق بشأن أي من هذه الحكايات التي فاتتك؟
بالطبع لا! لماذا ؟ لأنك كنت تلهو وتُمتّع نفسك. كنت جد مستمتع بوقتك حتى تقلق بشأن كل هذا الهراء الذي يحدث بعيدا عنك.
لكل جريمة وحشية ( قتل، اغتصاب وما إلى ذلك)، هناك آلاف لا تحصى من الجرائم المماثلة، أو ما هو أسوأ منها، في جميع أنحاء العالم، والتي لم تبلغ اهتمامنا أبدا. ربما تدرك الآن لماذا يجب أن لا تعير اهتماما للحكاية التي أفردتها وسائل الإعلام للاستهلاك. إنها ليست أكثر أو أقل أهمية من الآلاف غيرها التي لا نسمع كلمة واحدة بشأنها.
معظم الصحف لديها تحيز سياسي في اتجاه معين (غالبا إلى اليمين). أصحاب هذه المنشورات لا يجنون فقط مبالغ كبيرة من المال من بيع الإعلانات، لكنهم أيضا ينالون السلطة، لأن الملايين من الناس تتأثر بما ينشرونه. تذكّر أن القوة هي حول الحصول على نفوذ على الآخرين. وهذا ما تسعى إليه وسائل الإعلام: التحكّم في مشاعر وأفكار الجماهير.
فعن أي حريّة تتحدّثون؟