صدق السجين، كذب السّجّان:قراءة في كتاب “الحبس كذّاب والحيّ يروّح” لفتحي بن الحاج يحيى

^{المصدر: ceresbookshop.com}

بقلم: خلود الخمّاسي

صودر تاريخ البلاد في مدارسها وتلفاز الزعيم والجنرال وإذاعتهما وصودرت الأقلام والدفاتر والمطابع وأصبح تاريخ الجمهورية التونسية الحديثة أقرب إلى كسكاس يعد فيها كسكسي قليل “السقاء” سوء مذاقه من سوء إعداده. أصبح المخيال الشعبي متشبعا أو شبه متشبع بفكرة سطحية عن تاريخ البلاد وعبادها. ولكن كمارد مصباح علاء الدين تخرج لنا من رحم ثورة 2011 سير ذاتية لمناضلين أفنوا العمر أو كادوا حبا في الوطن وتوقا للحرية والانعتاق وتحقيقا لدرجات أعلى وأكبر من الإنسانية.

ما عسى الحبس يخبرنا؟ فتحي بن الحاج يحيى يجيب “الحبس كذاّب والحي يروّح” ويخطّ تحت العنوان “ورقات من دفاتر اليسار في الزمن البورقيبي” وينشرها عز الدين الحزقي في إطار منشورات جمعية نشاز ضمن سلسلة كلمات عابرة. كتاب في 192 صفحة قدّم له المسرحي توفيق الجبالي وحاول فيها الكاتب تكثيف الحديث عن سنوات طوال من السجن السياسي.

يستكين الكاتب إلي بسيط المفردات وعميق المعاني فمثلا يعرف اليسار التونسي في المقدمة بأنه “حكاية أجيال متعاقبة، أحلى ما فيها عناد على رفع التحدي، ورفض أن يختزل الوطن في الشخص الواحد (…)” (ص 8). أصرّ بن الحاج يحيى أن يكون كتابه وفيا لهذا التعريف فنرى عدة اختلافات في الشرائح الاجتماعية بين محافظ نراه عموما في الأولياء من الأمهات وآباء المساجين وهم كذلك بإرادة أو بغيرها مطبعون مع دولة الحاكم الواحد مثل أغلب أعوان المنظومة السجنية وبين أقلية جنسية يجسدها حضور المثليين في شخصية زينوبة وهي بيولوجيا ذكر يرى في ذاته امرأة ولذلك آثر الكاتب إلا أن يصفها كما تحب، بتاء التأنيث. ربما يتساءل القارئ عما إذا كانت هناك علاقة بين هؤلاء الشخوص: الكاتب ووالداه وزينوبة. الإجابة، نعم. العلاقة هي تونس مختلفة ومتعددة. تحتاج زينوبة تبانا أحمر في السجن فتجلبه لها والدة فتحي نزولا عند طلبه ولا تعلق الكثير وهل يستحق الأمر إسرافا في الكلام؟ يواصل الحاج يحيى إكرام زينوبة فيكون لها صوتها الخاص في الكتاب تنقد به جيل اليسار الجديد فتصفه بالـ”تڨوعير” (الغلاظة والفظاظة في التصرفات) مقارنة بجيل اليسار الأول شديد اللطف في فرنسيته!

مرح الكتابة: الكتابة بحب دون مرارة، رؤية نقدية

تعاطف بن الحاج يحي يمتد إلى سجّانيه وكأني به لا يضيق بسجنه الصغير بقدر ما يضيق بتونس سجنا كبيرا وكأني به يعتبر سجنه طقس عبور نحو وطن أرحب وأكثر ألوانا. لا نجده في ورقاته غاضبا متشفيا لا في زعيم الأمة وحبيبها ولا في سجانيه، بل مرحا في طرح الأحداث، متواضعا دون الوقوع في التواضع الكاذب أو الابتذال. بل إنه حتى لا ينفخ في صورة اليسار فتراه يتحدث عن سجينات سجن الكاف وكيف كن يستثرن المساجين الرجال رغم الحيطان والحديد المرفوع بينهم وكيف أن البعض مسه حضور الجنس اللطيف ولكنه كبح عاطفته التزاما بالقضية أمام الرفاق. بل يضحك بن الحاج يحيى من الكي (محمد الكيلاني) في حادثة ساذجة يشهر فيها سلاحا على شرطي وقد طلب هذا منه أوراقه الثبوتية ظنا منه أنه على موعد غرامي مع إحدى الرفيقات.

بل يغدو “مدير الحبس في الكاف” في منزلة الأب ويستخدمهم هذا الأخير لفرز الجرائد قبل أن يسلمهم إياها فهو لا يفقه في “كلام الروم” (الفرنسية كما تسمّى في العامية التونسية) وعلى “أولاده” تفسير عناوينها حتى يقرر ما يمكن قراءته وما يجب منعه عن مساجين الرأي. تغدو تلك اللقاءات مداولات حامية بغرض الافتكاك من هذا والمنع عن ذاك. مدير السجن غدا صديقا للعائلة متى زارت ابنها السجين من تونس: الأب يجالس مدير الحبس والأم تجالس زوجة مدير السجن بل ويتبادلون واجب الضيافة من طعام وشاي وحديث لين. هذا سجّان بورقيبة وهذا سجين بورقيبة وهذه أم السجين تبرّر حكم بورقيبة في ابنها وتبقى على إكبارها للزعيم فالمعادلة سهلة: بورقيبة يرى أمرا وولدها ورفاقه يرون أمرا آخر والسجن نتيجة طبيعية للصدام.

ربما أطنبت هذه المراجعة في الحديث عن الانساني في التجربة السجنية وهل أبحث، كقارئة، عن غير هذا في أدب السجون؟ وفتحي بن الحاج يحيى لا ينفك يدغدغ الانساني فيك. وهل السياسة في جوهرها غير هذا. أليست الذهاب نحو الآخر والتشارك في الفضاء العام للصالح العام بما فيه من تعدد واختلاف؟ أليست أيضا الوقوف على الأخطاء والمراجعات العميقة للمواقف من بعض القضايا مثل اللغة والهوية أو مدى تداخل القضايا الإقليمية مع الشأن الوطني وغلبة تلك على ذاك؟

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد السابع، سبتمبر 2021، ص.20

للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf7

Please follow and like us: