ألتوسير والفلسفة

قراءة في كتاب “الفلسفة والفلسفة العفوية للعلماء”

بقلم: عبد الرزّاق أيت بابا

سنتطلع بالنظر، في هاته المقالة المقتضبة، إلى أحد أهم جوانب الاسهامات النظرية للفيلسوف الفرنسي المعاصر لويس بيير ألتوسير، خصوصا تلك المتعلقة بالإيديولوجيا، وتحديدا بأطروحاته الفلسفية حول الإيديولوجيا العفوية للعلماء philosophie spontanée des savants. من المعلوم ان ألتوسير، عرف بإسهامات نظرية عديدة في حقول نظرية متباينة، خصوصا تلك المتعلقة بالعلاقة بين العلم والإيديلوجيا، والفلسفة والسياسة، والقراءة الأعراضية، ومحاولة إعادة قراءة ماركس على ضوء القطائع الابستمولوجية داخل النصوص الماركسية، وقراءة مؤلف الرأسمال عبر الموضوع الجديد لعلم الاقتصاد السياسي: نمط الإنتاج.

 نميل منذ البدء، إلى القول ان المقالة لن تتناول بالنظر كل هذه الجوانب المترامية الأطراف من عمل ألتوسير، إذ أنّ هذا المطلب يعز على مقالة واحدة. لذلك سنتناول بالذات كتابه”الفلسفة و فلسفة العلماء العفوية” الصادر عن دار البراق بتونس سنة 1986 بترجمة رضا الزواري. ومن جهة ثانية، تجدر الإشارة الى أنّه إن كانت الفلسفة” ممارسة تدخلية”، ممارسة تخرج عن تلك الدائرة المغلقة للنظر التأملي البحت، فهذا النص نفسه الذي كتب سنة 1967 يدخل في سياق اجتماعي محدد، سياق أزمة الماركسية التي اعقبت نتائج ابحاث المهندس الزراعي السوفييتي تروفيم ليسنكو Trofim Lysenko حول”البيولوجيا البرجوازية”، والحركات الشبابية والطلابية التي ستتوج، سنة بعد نص ألتوسير، بحركة ماي الطلابية 1968. يؤكد ألتوسير أن هذا العمل موجه منذ البدء الى غير الفلاسفة les non-philosophes، سواء من العلماء (الرياضيين أو الفيزيائيين أو الفلكيين)، او الأدبيين (سنرى في متن القراءة أن ألتوسير يعد هذا التقسيم نتاج تقسيم سابق عليه في التاريخ، هو التقسيم بين العمل الذهني والعمل اليدوي). ذلك أنّ السؤال الثاوي فيه، هو ”ماذا عن الفلسفة ؟”.

 

سنحاول تقديم الكتاب من خلال ثلاث اشكالات رئيسية :

1 / كيف تكون الفلسفة ممارسة ترسم خطوط تمايز ؟

2 / ما هي مجالات تدخل الفلسفة ؟ ما هي العلاقة بين الفلسفة والعلوم ؟

3 / بأي معنى تكون الفلسفة”الصراع الطبقي على مستوى النظرية”؟

 

1 / الفلسفة ورسم خطوط تمايز

حاول ألتوسير، بمنهجية ديداكتيكية وعبر شكل وثوقي (بالمعنى الإيجابي للوثوقية)- اذ حاول في المحاضرات التمهيدية تقديم أطروحات أولية من طبيعة ديماغوجية (تتكون من 21 أطروحة) دون وقوع برهنة أولية عليها- إعطاء تصور جديد للممارسة الفلسفية، تصور أصيل للفلسفة يمتح من علاقة الفلسفة بغيرها من الإيديولوجيات النظرية والعملية (العلم، القانون، الأخلاق). الفلسفة تتطلب بالدرجة الأولى بالنسبة له، أخذ موقف prise de décision. هذا التصور الجديد للفلسفة، ينفصل عن التصورات الكلاسيكية التي تجعل من الفلسفة نظرياتية فحسب، الفلسفة لا توجد خارج عالم الإنسان. بتعبير برغسون : الوعي الفلسفي هو ما يوجد داخل العالم، وليس العكس. إن الفلسفة تتحدد بوضع خطوط تمايز lignes de démarcation  عبر تدخلها في الممارسة النظرية والعملية، البرهانية منها والإيديولوجية.  هذا ما يمنح المعنى للقول أن الفلسفة هي صراع طبقي في النظرية lutte de classes dans la théorie . الفلسفة في المقام الاول، ليست بذلك الخطاب النظري التأملي spéculatif، يكتب ألتوسير (ص 76)،”أن الفلسفة لا تبني علاقة خارجية تأملية بحتة مع عالم الممارسات”، بل هي تبني ”علاقات توافق عملي”.

يبتدئ ألتوسير في الدرس الأول بالتأكيد على أن القضايا الفلسفية هي أطروحات thèses. وهاته القضية التي تقول أن القضايا الفلسفية هي نفسها أطروحات، هي في حد ذاتها قضية: الطابع الدائري المغلق في أي تعريف للفلسفة. إن كل تعريف للفلسفة انما يتأتى بالنهاية داخل الفلسفة نفسها. كل تعريف هنا هو دور منطقي. لا يمكن تعريف الفلسفة خارج الفلسفة. خارج التموقع داخل الفلسفة. وهي أطروحة وثوقية لأنها لا تتأسس على أي ضرب من البرهنة الصورية او التثبت الامبريقي. فهل يمكن لأحد التأكد من” صحة” أطروحات الكمالات (ارسطو) أو الطبيعة الطابعة (سبينوزا) او الذات المتعالية (كانط)، عن طريق التحقق العلمي.

الفلسفة لا تنتج إذن معرفة بصدد مواضيع، كأن نقول أنّ الجبر ينتج معرفة حول العلاقة بين الأعداد والمقادير quantités، بل هي تنتج أطروحات محددة في سياق نظري محدد (ص 34)، ولا يمكن إذن، القول أن أطروحة فلسفية هي صحيحة/خاطئة، لأن هذا يستلزم وجود مقياس خارجي موضوعي، أي مقياس مرتبط بما فوق-سردية النظرية. المحمول في العلم له علاقة بالنظرية، فالعلم يصنف، يصف، يجمع المواد المتناظرة لإثبات” صحة” فرضية ما. أما المحمول في الفلسفة فله علاقة بالممارسة، الفلسفة تتدخل، تقسم، من أجل الهيمنة على فلسفة أخرى، لإثبات” صوابية” ممارسة ما، في العلم أو السياسة. إن مهمة الفلسفة الأساسية اذن، هي رسم خطوط تباين بين الطابع الإيديلوجي، من جهة، والطابع العلمي للعلوم من جهة اخرى (ص 42). الكشف عن ماضي العلوم بوصفها ايديولوجية ثاوية في الممارسة العلمية.

 يستعيد ألتوسير هنا التصور الكانطي عن الفلسفة بما هي حقل صراع kampfplatz التدخل فيها لا ينتج عن مرجع قبلي، أي أنه لا يتعرف على معقوليته إلا من خلال الممارسة نفسه. في الممارسة تردّ كل فلسفة كلمة الفلسفة الاخرى الى نحرها، وتوظفها ضدها، وتشتغل جوانيا داخل إشكاليتها بالذات. إن هاته الممارسة هي النظام العام الانطولوجي المحايث immanence  لعلائق القوة النظرية rapports du force . لكن، في هذا النظام العام الانطولوجي المحايث، لا يحدث شيء حقيقة، فالفلسفة أبدية : فكل الفلسفات هي فلسفات معاصرة، والفلسفات القديمة تنتظرنا في المستقبل. فهكذا تظهر ”فلسفات جديدة مضادة للفلسفات القديمة، واستطاعت ان تنتصر عليها، لكن ما نلاحظه، وهو ما يختص به تاريخ الفلسفة، هو ان هيمنة فلسفة جديدة على فلسفة قديمة، بعد صراع طويل، لا يؤدي إلى تحطيم هذه الأخيرة، فهي تستمر في الحياة من تحت” (ص 102). كل فلسفة تنبعث إن وجدت ظروفا موائمة لهذا البعث (فأزمة الفيزياء الحديثة تسمح بإعادة بعث الكانطية). فإن كانت الأنساق الايديولوجية هي ماضي العلم، فالفلسفة بدون ماض، لأنّها بدون تاريخ، إنها تكرار خلاق. مسار العلم هو مسار تجاوز الأخطاء المطلقة(النفي)، أو تعديل بعض جوانبها (الاثبات النسبي). إن أطروحة كروية الأرض تنفي القول بالأرض المسطحة، لكن النظرة الاهليليجية تعدل جوانب النظرية الأولى. الخطأ في الاولى خطأ مطلق، الحقيقة في الثانية حقيقة نسبية. وكنتيجة، فمسار العلم هو مسار (طرح/احتواء). أما مسار الفلسفة فهو مسار صراع من أجل هيمنة الأشكال الفلسفية الجديدة على الأشكال الفلسفية القديمة على هذا اللاشيء الذي يحدث فيه كل شيء (لا شيء يحدث داخل الفلسفة لأن الفلسفة ابدية). الفلسفة تغير في مستوى الكلمات. إن الفلسفة صراع كلمة ضد كلمة اخرى، و”الكلمة الجديدة تدفع الكلمات القديمة وتصنع بياضا vide  من أجل طرح سؤال جديد”(ص 49).

إنّ كل تعريف هو نفي (سبينوزا)، أي هو رسم خطوط تباين (لينين)، وسنعطي مثالا دالا على هذين التعريفين. لقد ولدت الفلسفة مع أفلاطون، عند افتتاح قارة الرياضيات الإغريقية مع طاليس وفيثاغورس. فالأشياء” أعداد”، والواقع الجوهري النهائي لكل الأشياء في العالم في الرياضيات الاغريقية يمكن التعبير عنه تعبيرا عدديا، وهذا ما نتج عنه القول ان الأشياء تترقى عن الواحد و”تنقســــــم عنه”. الرمز الرياضي يعبّر عما تعجز عنه المناهج الاستدلالية، والانتقال في الرياضيات يتم أساسا عبر سلسلة قفزات حدسية ارتقائية. لهذا، فالفلسفة لا يمكن أن تكون سوى المعرفة التي تميّز وتقسّم (أفلاطون)، بين الصورة والهيولى، بين الحسّ والعقل، بين التجربة والنظر، بين المادة والروح … ففي نظرية المعرفة الأفلاطونية على سبيل المثال، هاته النظرية التي حاولت البحث عن المعاييــر الأبدية الكلية الموضوعية لجميع الأشياء الزائلة، من حيث أن الفلسفة هي النظر في” الثابت” داخل مجرى” التحول الهيراقليطي”، تكون الفلسفة هي”تذكــر” النفس لما كانت عليه في عالم المثال ”الإيـــدوس” الخالد، قبل أن تنحدر لسجــن الجسد. وهذا الضرب من التقسيم يعتمد حركتين ديالكتيكيتين: الأولى هو الديالكتيك النازل، أي تلك السيرورة التي تنزل فيها الروح إلى سجن الجسد، ويكون الديالكتيك الصاعد، هو لحظة التأمل الإنعكاسي، أي تلك اللحظة التي تكون فيها الفلسفة تدربا على الموت”، ومحاولة لتأمل عالم المثل الخالدة. عبر سلسلة تترقى عن الواحد (كما في الرياضيات). وحتى في الممارسات الفلسفية السابقة على أفلاطون، ظل التقسيم حاضرا، ففي الممارسات الأورفية المقترنة تاريخيــا بالفيثاغوريين، كانت الفلسفة هي التدريب الروحي الذي يحاول تحرير العنصر الإلهي (العنصر أ) عن الجسد الزائل (العنصر ب)، فالإلهي هو وحده الذي يشير إلى الأبدي، والأبدي هو مطلب الفلسفة وموضوعها، والتطهر الأورفي هو وسيلة تحرير العنصر الإلهي في الإنسان. مع حفظ الفارق، يشير ألتوسير، أنّ هذا التصور، والذي ينتهي ضرورة الى القول أن الفلسفة هي”علم الكل”، علم”الحق”، علم”الثابت” هو تصوّر الفلسفة بما هي رسم خطوط تمايز. إن العلم (بما في ذلك علم الكل) عندما يحدد موضوعه، فهو يحدد في نفس اللحظة، المنهج والإبدال، اللازمين لتناول الموضوع. أما الممارسة الفلسفية فهي ليست بصدد” تناول” الكل، إنها بالأحرى”ممارسة إبصار” و”كشف”. إنها الممارسة النظرية التي تساعد في ”الكشف عن الطريق من أجل طرح صحيح للمسائل”(ص 40).

1.2/ الفلسفة والعلوم

ينطلق ألتوسير من نموذج تحليل حسي للعلاقة الخصوصية بين الفلسفة وبقية الإيديولوجيات النظرية، وهي ”ازمة” الفيزياء كمعطى تاريخي حسي يدل على هاته الخصوصية. ففي لحظات الأزمة ينكشف ما ظل غير منطوق به، إذ تنكشف الإيديولوجيا العفوية للعلماء. كما أن هاته الأزمات تكشف عن التناقض بين الشكل الجديد، والوسائل النظرية الموجودة ”فتؤدي لزعزعة البناء النظري بأكمله”(ص 85). لقد نتج عن هاته الازمات ثلاث مواقف متباينة:

1 / إنّ مشاكل العلم تحل في نطاق العلم نفسه (التصور الوضعي).

2 / ان مشاكل العلم تتاتى من طبيعة العلم نفسه، اي من زعم العلم القدرة على تفسير كل الظواهر (التصور الريبي).

3 / ان مشاكل العلم ليست مشاكل تطورية، فالقضية بالنهاية هي قضية ابستمولوجية/نقدية.

في المواقف المذكورة سلفا، الواضح أن ازمات العلوم، وللمفارقة، لا تحل بالعودة إلى نظرية ما في تاريخ العلوم، بل إلى أطروحات في تاريخ الفلسفة. إن العلماء يكتشفون في لحظات الأزمة ”أنهم يحملون داخل أنفسهم فلاسفة”(ص 92). هكذا ينتج الاستغلال الفلسفي للعلوم، وهي الممارسة التي يوظف عبرها الفلاسفة نتائج العلوم أو حدودها، من أجل خدمة أغراض خارج الممارسة العلمية. وهاته الأغراض تنتمي لحقول غائية أخرى: القانون، الدين، السياسة، الروحانية، الجمال…الخ مثل ذلك استغلال أزمة نظرية الدماغ العصبية (انتاج برغسون مؤلفه عن المادة والذاكرة). أو خدمة فلسفية للعلوم (الموقف الثالث)، والتي تعبر عنها المادية. الإيديولوجيا العلمية العفوية هنا تشكل عائقا ابستمولوجيا، في تصور العلماء لعلاقتهم بممارستهم.

2.2/ العمل المشترك داخل”العلوم الانسانية”كنموذج لتدخل فلسفي

“فعلى النقيض مما يجري في علوم الطبيعة، حيث تكون العلاقة عفوية اكثر، فإن هذا النوع من التطبيق-في العلوم الانسانية- يبقى خارجيا، آليا، أداتيا، تقنيا، وبالتالي، مشكوكا فيه” (ص 63).”العلوم الإنسانية”، هي علوم الدوائر المستديرة، حيث يكون ”العمل المشترك المتعدد المواد ينقل ممارسة سحرية تخدم إيديولوجيا معينة يكون في إطارها العلماء فكرة خيالية عن ظروف الاكتشاف”(ص 65). هكذا يكون رفض ”العلوم الانسانية”، للفلسفة، هو رفضا فلسفيا للفلسفة، وهو موقف وضعاني.

إن ”العلوم الانسانية” هي علوم بدون موضوع حاليا، إي إن مواضيعها اصطناعية (سوء التفاهم الذي يربطها بمواضيعها). يدل على سوء التفاهم هذا، أن هاته”العلوم” توظف بعض المقولات الفلسفية (الذهن، القصد)، كبديل إيديولوجي للقاعدة النظرية التي تفتقدها (ص 54).

كما أن الأدبيات، وهي معارف وسطى بين العلوم الطبيعية و”العلوم الانسانية” هي معارف كيفيات، فهي المعارف التي تحاول النظر في علاقة الثقافة بالمجتمع الذي توجد فيه. فهي تربط علاقات ثقافية من جهة (لأنها نتاج تراكم عملي سابق عليها)، وعلاقات استهلاكية (لأنّ الثقافة ذات طابع نظري هيمني hégémonique). في الشرط الاولي تتأسس الأدبيات على علاقتها بالإيديولوجيات العملية (الميتافيزيقا والايتيقا والاستيتيقا)، فيما الشرط الثانوي يتأسس على علاقة بالوظيفة الاجتماعية (الناتجة عن تقسيم العمل الفكري اليدوي).

لكن ما الإيديولوجيا؟ الإيديولوجيا هي الطريقة/الإطار الذي يعيش عبره الناس علاقاتهم الحية. يبتدأ الوعي بإشكالية الإيديلوجيا، بالتمييز بين ما يقوله الناس (العلماء في حالتنا) عن اأفسهم، وما يعيشونه فعلا. إن المصالح الإنسانية ساقطة في شباك الإيديولوجيا. وهي بهذا المعنى عفوية. العمل المشترك المتعدد المواد (نشير هنا نحو نموذج للإيديولوجيا داخل العلوم)، لا يمكن فصله عن الواقع الإجتماعي الذي تشير إليه الإيديولوجيا (على عكس ما يدعي) والذي تتحدد في إطاره التاريخي. إنه عمل خاضع للطلب الإجتماعي والسياسي، من هنا يظهر مفعول تقسيم العمل الاجتماعي، وضرورة الكشف عن الإيديولوجيا النظرية للعلماء والاشكال الايديولوجية الهيمنية التي تقف خلفها، من حيث هي علاقة خارجية بالاساس. فانقسام المجتمع الانساني-كما نجد في الادبيات المادية الجدلية الكلاسيكية- إلى طبقات، يفتت الوعي الانساني للتاريخ، فالإنسان الذي يستغل ”أخاه” الإنسان، لا ينظر إلى المجتمع من زاوية ”العلاقة”، وهو لا يبني بالتالي رؤية العلاقة المحددة إلى القيم والأخلاق والمثل العليا، إلا من زاوية هذا ”الاستغلال”، أي من العلاقة التي تنقلب في ذاتها الى تقسيم ذي طبيعة جوهرانية essentialisme . إن عدم إدراك العلماء للعلاقة الضرورية بين إنتاجاتهم (داخل المختبر، أي ممارسة العالم داخل المختبر)، والممارسة العلمية بوصفها ممارسة اجتماعية لإنتاج وتنظيم وتوريد المعارف، هو نتاج تقسيم للعمل حصل في التاريخ، عمل ذهني وعمل يدوي، دون ملاحظة ”خط المسطرة” الواصل بينهما.

 

3 / الفلسفة كـ”صراع طبقي في النظرية”

ينسج ألتوسير على منوال تقليد فلسفي يربط الفلسفة بالتاريخ، أي بالبنية الاجتماعية المادية، وذلك من خلال تناول مسألة الحق في الفلسفات الحديثة. فالفلسفة في التصور الحديث، هي ضامن قانوني لحقوق العلوم (ديكارت)، أو ضامن لحدودها (كانط)، أو كشف عن شكل شكل حضور الموضوع شخصيا (هوسرل). فنظرية المعرفة التي احتلت مركز الصدارة في الفلسفات الحديثة، ليس سوى انعكاس مجال القانون الملازم لصعود البرجوازية التجارية على مجال الفلسفة، بين الذات/الحق إلى الذات القانونية، هنالك “خط مسطرة”. إن إشكالية الحق (والتي تلخصها الأسئلة الكانطية الشهيرة : ما الذي يمكن أن أعرفه ؟ كيف أعرفه ؟ كيف أعمل وفق ما اعرفه ؟)، هي إشكالية غريبة عن الانطولوجيات القديمة تماما (ارسطو، افلاطون). وحدها الفلسفة الحديثة هي انعكاس إيديولوجيا قانونية مقترنة بالممارسة العلمية. انها تبحث عن حقوق العلوم، وتحاول الدفع بالكلمات القديمة النازلة من العصر الوسيط، وضمان استمراريتها، من خلال طرح مسالة الحق. هكذا تم القطع مع الضمان المطلق في الفلسفات المثالية، والذي هو انعكاس للمضمون القانوني (الصراع حول الملكية على أنه تمرد على العلائق القانونية، الخالدة، للملكية)، كما كانت الإيديولوجيا السائدة في العصر الوسيط هي الإيديولوجيا الدينية/التوحيدية، تبحث عن المطلق عوض ذات الحق.

نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 24، مارس 2023.

للاطّلاع على كامل العدد:  http://tiny.cc/hourouf24

 

Please follow and like us:
One Comment

اترك رد

Verified by MonsterInsights