كيف أفشلت الأنثروبولوجيا الغزو الأمريكي لأفغانستان؟

بقلم: خليل العربي

عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أطلق جورج بوش الإبن حربه في أفغانستان. وتواصلت إلى حدود انسحاب آخر جندي يوم 30 أوت 2021. أجمع الكل على أنه انسحاب مهين يشبه إلى حد بعيد تجربة القوات الأمريكية في فييتنام. وقد تشابهت الوقائع والصور المتداولة عنها. وهزّت العالم تفاصيلها الإنسانية كما أثّرت عميقا في الوجدان الأمريكي.

في كتابه الصادر حديثا،1 أعاد الكاتب كريغ ويتلوك عرض قصة الحرب المدمرة انطلاقا من وثائق ومصادر رسمية لم يكن يُتوقع نشرها. وقد لخّص عبرها تخبط السياسيين والجنرالات الأمريكيين في بدايات الحرب. فبعد أن كان صوت دونالد رامسفيلد يتردد بنبرة الانتصار انتهى بعد سنتين إلى القول بأنه لم يعد يعرف من هو الشرير هناك لقتاله.  كانت استراتيجية الحرب غائبة تماما في أفغانستان. وقد ردّد العسكريون طويلا ذلك، وجاء في شهاداتهم جميعا أنهم لم يكونوا يعرفون ماذا بعد ومتى يخرجون من هناك. لم يكن الجندي الأمريكي يعرف حتى متى سيستحم. قال أحد الجنود أنه لم يستحم إلا بعد شهر كامل من وصوله بعد أن نام في العراء في باغرام. ومن المفارقة أن الأخيرة تحولت تدريجيا إلى أكبر قاعدة هناك بإمدادات يتم إرسال الحد الأدنى منها في كل مرة.

 دفعت نشوة الانتصار في البداية إلى تجاهل حركة طالبان تماما في المفاوضات التي تم إطلاقها حول مستقبل أفغانستان. وهو ما اعتبره الأخضر الإبراهيمي خطأ جسيما للمحافظين الجدد الذين اعتبروا أن الطالباني الجيد هو الميت أو المسجون. فقد بدأت حينها “المرحلة الأيديولوجية” كما صرّح أحد الجنرالات عندما أصبح جورج بوش الإبن ورامسفيلد يتحدثان عن تقديم الحرية والديمقراطية للأفغان بديلا عن الإرهاب. لكن في الواقع، كانت الإدارة الأمريكية تعيش تخبّطا وخوفا من التحولات القادمة. فلم تكن هناك استراتيجية كاملة تضمن أن الخيارات المتبناة عفويا وحسب الأحداث ستؤدي فعلا إلى تحقيق بنك أهداف متغير دائما. من الطرائف المأساوية والسوداوية أن دونالد رامسفيلد طلب سنة 2002 من مستشاره الذي وصمه الجنرالات بأنه “أغبى شخص على وجه الأرض” تقديم وثيقة استراتيجية خلال أربع ساعات وتقديمها له على طاولة الغداء. نعم، هي حرب أفراد أقوياء لكن أغبياء ذهب ضحيتها 2300 جندي قتيل و26000 جندي جريح و46000 جندي أفغاني مع أكثر من 70 ألف من المدنيين لن يحاسب قتلتهم.

كان كلّ من القرار السياسي واليد القابضة على السلاح مرتعشين لكن منتشيين بانتصارات أولى، إذ استجابا لوجدان أمريكي مجروح بعد الحادي عشر من سبتمبر. كل مرة يُجرح فيها غرور القوة الأمريكية تقوم بحرب أخرى. بعد يومين من الاعتداء على القوات الأمريكية في بيروت في 23 أكتوبر 1983، قرر الرئيس ريغن غزو غرينادا. تداوي أمريكا غرورها المجروح عسكريا بحروب أكثر.

في أفغانستان، ثمة عناصر أخرى جديدة ضاعفت من هذا الغرور وأعطته بعدا دينيا جديدا. فعلاوة على الارتجال العسكري المبني على التكتيكات دون استراتيجية وعلى القرار السياسي في بيروقراطية الحكم في أمريكا، قدم التحليل النفسي لشخصية جورج بوش الابن عنصر سردية الخلاص الديني التي شحنت خطابه وقراراته. 2 تشير الدراسات إلى أنها حالة نفسية يعيشها جل الأمريكيين في منتصف العمر. وقد وجهت قرارات بوش الإبن باعتبارها قرارات “دينية” ذات نهاية سعيدة بالضرورة، هي بدورها وراء قرار غزو العراق لإنهاء حكم عدو أبيه. حين اجتاحت القوات الأمريكية العراق، أصبح الملف الأفغاني هامشيا بالنسبة إليه. وقد ورد في إحدى المراسلات الإدارية الداخلية لرامسفيلد أنه سأل جورج بوش الابن إن كان يريد لقاء الجنرال ماكنييل. قال الرئيس: من هو الجنرال ماكنييل؟ إنه قائد العمليات في أفغانستان، رد رامسفيلد. إذن، لا أريد رؤيته، قال بوش. لقد نسيه تماما كما نسي أفغانستان.

أصبحت أفغانستان حربا منتصرة وقد حرص الخطاب الرسمي على تكرار ذلك بعنفوان المؤمنين الحتمي رغم أنّ الشك كان يساورهم دائما. وكان صوت الجنرالات والعسكريين من كابول مقلقا كصوت الشيطان. فتحالفوا على الكذب على الشعب الأمريكي والعالم. ولم يتحلّ أي منهم بالجرأة لإنهاء حالة الهذيان والنكران رغم أنّ دموع العائلات الأمريكية من الطبقات المتوسطة ومتعددة العرقيات طالبت بإنقاذ أبنائهم من أتون حرب بنهاية مفتوحة. بينما من يقررون بشأنها احتموا بمعابدهم البيروقراطية والعسكرية.

ما يشد الإنتباه أكثر هو “فتاوى” الدراسات التي رافقت الحرب. أورد آدم بازكو وجيل دورونسورو في جريدة لوموند في عددها الصادر في سبتمبر 2021، أن الأنثروبولوجيا الخيالية عن أفغانستان ضربت في مقتل قرار الحرب ومشروع البناء لاحقا. كانت التقارير الإستشارية تٌكتب من طلبة الماجستير والإجازة في العلوم الإنسانية ولم يكن بينهم أنثروبولوجيون في الحقيقة. أوصت هذه التقارير بالتوجه إلى المحلي في فضاء غير دولتي وغير معتاد على حضور الدولة. لم تكن هذه الملاحظات دقيقة بل غالطت الدراسات التاريخية والتحولات التي يعرفها المجتمع الأفغاني. كانت أنثروبولوجيا خيالية، على حد عبارة الصحفيين.

ليست هذه الأنثروبولوجيا الخيالية إلا صدى الأنثروبولوجيا الاستعمارية القديمة. كرّرت بذلك الأحكام الدونية عن الشعوب غير الغربية باعتبارها شعوبا غير قادرة على بناء نموذج الدولة والمجتمع الحديثين. يقول الإثنولوجي الفرنسي جايمس دارمستيتر: “الأفغان ليس لهم تاريخ كما الفوضى ليس لها تاريخ”.3 عمّق الإعلام والخطاب السياسي هذه الصورة عن أفغانستان إلى مستوى يجعلنا نتخيل بلدا أسطوريا خارج معايير الزمان والمكان التي نعهدها؛ بلد مغلق، سكانه مختلفون مستقرون في مكانهم وثقافتهم، رافضين للأجانب، أعلى أنماط السيادة والسلطة التي عرفوها هي سلطة القبيلة… انخرطت السياسة الأمريكية في مشروع بناء الدولة والأمة الأفغانية بمنطق وصاية ومهمة تمدين. كان الهدف بناؤهما على نمط العاصمة واشنطن. في المقابل، كان هناك شعور بأنهم يتعاملون مع شيء موجود فعلا وله طبيعته وخصائصه. كان الانخراط في مهمة التمدين المدعومة من المحافظين الجدد وتصوراتهم متكئا أكثر على غرور القوة وما يعطيه من صورة مشوهة عن الواقع. قال أحد مسؤولي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID): “كان من الأسهل ألا يوجد شيء هناك، كان علينا تدمير ما يوجد هناك لنبدأ البناء”. لم تبدأ الولايات المتحدة مما يوجد فعلا في أفغانستان، ككل محتل، بل انطلقت من تصوراتها البدائية المعززة لمصالح سياسييها ولوبياتها.

بالإضافة إلى ضرورات العمل العسكري ميدانيا برّرت هذه التصورات عن المجتمع الأفغاني شبكة العلاقات الجديدة مع عناصر المجتمع الموجودة. تدخّل العسكريون في النزاعات العائلية والقبلية لكسب أنصار لكنهم خلقوا عداوات وخلافات جديدة. وقد أدّى ذلك إلى تعارض بين ما هو قائم وما هو جديد قيد البناء. أصبح المحلي الذي يستفيد من القوة العسكرية الأمريكية والأفغانية يسعى إلى اختراق ما يتم بناؤه في المركز. وهو مستوى من التأثير والتدخل غير المحسوب في بنية المجتمع وطبيعته.

ضمن هذا السياق، أصبحت أفغانستان تعيش توجهين متعاكسين. في اتجاه المحلي وآخر في اتجاه المركزي. كانت العلاقة بينهما إشكالية. فمن يستفيد محليا أصبح يبحث عن موضع له في كابول. وهو ما أدى إلى انتشار الفساد والمحسوبية. لم يخلق ذلك ارتباطا مباشرا مع الدولة الجديدة على أساس انتماء موحد، بل أصبح المحلي واسطة لاكتساب قوة قرار وتأثير. وعاد معها العنصر الإثني والعرقي بشكل آخر أكثر سلبية. أصبح المركز الأفغاني كانتونات غربية وأفغانية متحالفة معها مغلقة على محيطها الخارجي. كانت الصلة به تتكون بالمال الغربي الذي يضخ في مشروع البناء المستورد.

تواصل ذلك طيلة عشرين سنة في الوقت الذي بنت فيه حركة طالبان شبكة علاقات مع القبائل والإثنيات والمذاهب الأخرى، بل أضافتهم إلى مجلس شوراها. كما أعادت تركيز شبكة محاكم وحضور أمني محكم مع تغيير في المعاملة مع الأفغان بعد تطوير استراتيجيتها العسكرية. لا يعني أن طالبان تعد بدولة حديثة وحقوق إنسان كونية لكنها استوعب منطقهما وأحسنت اللعب على خيوط هذه المفاهيم الشفافة مع الواقع…

في وقت ما كانت الأنثروبولوجيا أداة استعمارية أو كان الأنثروبولوجيون “امبرياليين مترددين”، على حد عبارة ويندي جيمس، في طريق تحرير العقل العلمي وحقل معرفي كامل من السلطة وشبكة هيمنتها بعد الحروب العالمية. 4 وتعالت أيضا أصوات متحررة من المستعمَرين سابقا. رغم ذلك، لا يزال تحرير الإنسان نفسه والمعرفة به مهمة عسيرة برجوع صيغ عنه قديمة وسلطوية ميتافيزيقية تتحالف مع هيمنة العالم الحديث.

 

الهوامش

1Craig Whitlock, The Afghanistan Papers: A Secret History of the War, New York, Simon and Shuster, 2021.

2D. P. Mc Adams, « Redemptive narratives in the life and the presidency of George W Bush », in C. Strozier, D. Offer, O. Abdyli (eds.), The Leader : Psychological essays, New York, Springer, 2011, pp. 135-136 and p. 145.

3 ورد بـ:

 Robert D. Crews, Afghan Modern, The history of a global nation, Cambridge HUP, 2015, p3.

4 Wendy James, « The anthropologist as a reluctant imperialist », in Talal Asad (eds.), Anthropology and the colonial encounter, London, Ithaca Press, 1973, pp. 42-49.

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثامن، أكتوبر 2021، ص ص. 4-5.

للاطلاع على كامل العدد:  http://tiny.cc/hourouf8

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights