مدام بوفاري في قاعة المحكمة

بقلم: فهمي رمضاني

مثّل القرن التاسع عشر في فرنسا قرن الصراع بين التيار الثوري الليبرالي المتأثر بأفكار الثورة الفرنسية وبين التيار المحافظ الذي يستمد مرجعيته من “النظام القديم” وقد ألقى هذا الصراع بظلاله على المشهد السياسي آنذاك، حيث غاب الاستقرار خاصة بعد هزيمة نابليون في 1815، ويظهر ذلك جليا من خلال قيام الملكية ثم سقوطها لتترك المجال للجمهورية ثم العودة إلى الامبراطورية مرة أخرى مع نابليون الثالث.

تزامنا مع ضبابية المشهد السياسي، كانت حركة التصنيع في أوجها، ممّا مكّن من إحداث تحولات عميقة شملت المجال العمراني، حيث توسّعت المُدن وتطورت لتحتضن الطبقات الاجتماعية بمختلف أنواعها. ازدهرت كذلك الآداب والفنون والعلوم وتقدمت حركة العلمنة وتراجع دور الكنيسة، الأمر الذي أفرز تحولات اجتماعية عميقة لم تخف بعض التمزّقات التي كانت تشق المجتمع الفرنسي في تلك الفترة. في إطار هذه النهضة الأدبية، برز في عصر الإمبراطورية الثانية      (1852-1870) الأديب قوستاف فلوبير الذي نشر سنة 1856 بعد خمس سنوات من العمل الدؤوب أيقونته الأدبية “مدام بوفاري” تلك الرواية التي ستثير جدلا واسعا حيث تم اتهام الكاتب بعد نشرها لوقت قصير بازدراء الأخلاق العامة والدينية والأخلاق الحميدة، الأمر الذي سيجعله عرضة لمحاكمة شهيرة جسّدت ذلك الصراع بين العلمنة والمحافظة، وهو ما دفعنا في البحث في خلفيات هذه المحاكمة وتفاصيلها لنفهم المنظومة الاجتماعية في فرنسا القرن التاسع عشر وأهم التحولات التي عصفت بالمجتمعات الصناعية الحديثة.

عصر الامبراطورية الثانية (1852-1870)

بدأت الامبراطورية الثانية مع نابليون الثالث (لويس نابليون بونابرت) في 1852 بعد استحواذه على السلطة وسقوط الجمهورية الثالثة. قسم المؤرخون عصر الامبراطورية الثانية إلى فترتين: دُعيت الفترة الأولى بفترة الإمبراطورية الاستبدادية والتي امتدت بين 1852 و1860، أما الفترة الثانية فقد سُميت بالإمبراطورية الليبرالية وتواصلت إلى عام 1870 تاريخ سقوط الامبراطورية الثانية بعد هزيمة الامبراطور في معركة سيدان أمام بروسيا. تميز عصر نابليون الثالث بتراجع الحريات حيث أعطى دستور 1852 الذي أنشأه هذا الأخير كل السلطة التنفيذية للإمبراطور الذي يعتبر رئيس الدولة وهو وحده المسؤول أمام الشعب. تعاظمت كذلك في عصر نابليون الثالث حركة التصنيع وازدهرت التجارة وتوسعت باريس عمرانيا وظهرت تيارات أدبية جديدة أهمها الواقعية. واجهت الامبراطورية الثانية معارضة من عدة مثقفين من أمثال فيكتور هيجو.

قوستاف فلوبير

ولد قوستاف فلوبير في 1821 ببلدة روان في نورماندي وتوفي في 1880. درس الحقوق لكنه عكف على التأليف الأدبي في سن مبكرة. من أهم كتبه “التربية العاطفية”، “مدام بوفاري”، “سالامبو” و”تجربة القديس أنطونيوس”. من الناحية السياسية، كان يؤمن بالليبرالية ويشجّع التمرد ضد السلطة. في 1856 نشر فلوبير روايته “مدام بوفاري” التي تميزت بواقعيتها وروعة أسلوبها وهي تُعتبر من “الأدب المكشوف” إذ هي رواية واقعية لا تعتمد الخيال والعواطف المتقدة في التعبير الأدبي. تميز فلوبير بقدرته على الملاحظة الدقيقة وعلى توصيف النماذج البشرية العادية توصيفا دقيقا مع الاستعانة بالعقل والرؤية الموضوعية بدلا من النظرة الذاتية لذلك فهو يعتبر من رواد المدرسة الواقعية التي تصور الحياة دون إغراق في المثاليات أو جنوح صوب الخيال وقد أصبحت هذه المدرسة حركة أدبية في فرنسا خلال القرن التاسع عشر في مواجهة الحركة الرومانسية التي انتشرت في أواخر القرن الثامن عشر.

رواية “مدام بوفاري”

ولدت فكرة كتابة رواية “مدام بوفاري” حينما سافر فلوبير إلى مصر التي ألهمت الكاتب وسحرته. وتتميز أحداث الرواية بكونها أحداثا معقدة ومركبة وهي تشبه في ذلك أحداث رواية ” آنا كارنينا ” للروسي تولستوي. المحور الرئيسي للرواية هي شخصية إيما بوفاري التي أصبحت أكثر شهرة من قوستاف فلوبير نفسه. كانت إيما ابنة مزارع تعيش حياة بسيطة مملة وتحلم بحياة أخرى فيها شيء من التسلية والرومانسية،  لذلك قبلت بسرعة أن تتزوج من شارل الطبيب البسيط لما طلب يدها. وإثر زواجها، حاولت الانفتاح على الحياة والخروج من عالمها المغلق، لذلك قامت بتنظيم الحفلات الموسيقية واستدعاء الأصدقاء والدخول في حياة أخرى، إلا أن الملل كان يأسرها نظرا للحياة المملة والروتينية التي كان يعيشها زوجها. وفي هذه اللحظة تقرر ولوج عالم آخر وهو الخيانة من خلال التعرف على عشاق مثل رودولف بولانجيه لينتهي بها الأمر الى الانتحار.

ويعتبر بعض الباحثين بأن شخصية إيما بوفاري تجسد مرافعة عنيفة ضد قيم المجتمع البورجوازي بأفكاره وأخلاقه وهي تعبر عن الرغبة في الانعتاق من القيد الاجتماعي، لذلك أثارت هذه الرواية منذ صدورها جدلا حادا باعتبار أنها تشجع على الرذيلة وتسيء إلى الأخلاق العامة والدين.

محاكمة قوستاف فلوبير

تعرضت رواية “مدام بوفاري” عند نشرها إلى حملة عنيفة من التشويه، أدت إلى محاكمة مؤلفها قوستاف فلوبير نظرا للدعوى التي رفعها الادعاء العام على الكاتب بتعلّة خلاعة الرواية وتشجيعها على الخيانة الزوجية والانحلال الأخلاقي والإساءة إلى الأخلاق العامة والدين وخدش الحياء والتهجم على قيم البورجوازية، وهو ما أشار إليه المدعي العام ارنست بينارد في خطابه في المحكمة. يمكننا أن نلاحظ أن المدعي العام قد ظل طوال خطابه يقرن دائما بين الدين والأخلاق عند حديثه عن إساءة الرواية لهما، ليبّين أنها قد اعتدت على أهم العناصر الناظمة لحياة المجتمع الفرنسي وذلك من أجل تأليب الرأي العام وحشد الجماهير ضد نشر الرواية وقراءتها، إذ يقول في هذا الإطار: “من السهل الاتفاق في هذا الصدد على التمييز فيما إذا كانت هذه الصفحة من الكتاب تنال من الدين أو الأخلاق”. 

لعل أبرز ما يميز خطاب المدعي العام هو كونه خطابا يستند إلى المعجم الأخلاقي والديني لتبرير التهم التي كالها إلى الرواية، إذ لم يناقش القضايا التي أثارها الكاتب من قبيل وضع المرأة في المجتمع الصناعي الحديث وإنما اكتفى بالدفاع عن قيم البورجوازية المحافظة التي لا تزال تتمسك بقيم مجتمع “النظام القديم”. لذلك بإمكاننا التساؤل حول مدى نجاح التصنيع والتحديث وحركة العلمنة في فرنسا في القرن التاسع عشر في تقويض بنى المجتمعات المحافظة والتقليدية؟ هل كان عصر نابليون الثالث عصر العودة إلى الماضي وتراجع حركة العلمنة أم عصر تحولات كبرى يكون فيها المجتمع ممزقا بين قيم الماضي وما يفرضه الحاضر؟

يكشف كذلك خطاب ارنست بينارد عن حضور تمثّلات دونية للمرأة، إذ تم حصر دورها فقط في الرذيلة والشر والخطيئة، في حين أراد فلوبير الكشف عن عيوب المجتمعات والدعوة للثورة على القيم التقليدية، لذلك فإن خطاب المدعي العام ليس محاكمة للكاتب بقدر ما هو محاكمة لقيم ترفضها الطبقات المحافظة وهي القيم التي ما انفك يسير في اتجاهها التاريخ ألا وهي الإيمان بالحرية بعيدا عن القوانين التي تفرضها المجتمعات التقليدية. تبعا لذلك تكشف محاكمة فلوبير عن الحراك الذي كان يعتمل في رحم المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر والذي تجسد في الصراع بين قيم النظام القديم وقيم فرنسا ما بعد الثورة الفرنسية والصناعية. ولعلّنا لا نجانب الحقيقة في القول بأن المحاكمة قد كشفت كذلك عن إرادة لتنميط المجتمع وجعله يفكر ويشعر ويعيش بنفس الطريقة ورفض في المقابل للفرد والفردانية والتفرد.

تجاهل كذلك المدعي العام القضايا التي أثارها فلوبير في روايته ليركز فقط على “خطيئة الزنا “التي أشار إليها في أكثر من موضع حتى أنه يقول ” هذه هي الرواية. أخبرته بالكامل دون حذف أي مشهد. يسمونها مدام بوفاري. يمكنك أن تعطيها عنوانًا آخر، وأن تطلق عليها اسمًا مناسبًا “تاريخ زنا امرأة من الريف.” هنا وعلى عكس فلوبير، يكتفي المدعي العام بتحليل الأحداث السطحية بطريقة فوقيّة، فهولا يرى في البطلة غير رمز للخطيئة، في حين يتغلغل فلوبير إلى دواخل الشخصيات ويحلل نفسياتهم ليكشف عن آلامهم ورغبتهم في الانعتاق والتحرر من كل القيود.

ينفي المدعي العام حرية الكتابة والنشر ويؤكد على ضرورة وجود رقابة على الكتب والصحافة، إذ يتهم في خطابه ثلاثة أشخاص “أمامكم، أيها السادة، ثلاثة متهمين: السيد فلوبير، مؤلف الكتاب، السيد بيشات الذي تسلمه، والسيد بيليت الذي طبعه”. كما يعتبر كذلك أن الإبداع والفنون يجب أن تكون مرتبطة بالأخلاق وهي رغبة واضحة لتقييد حرية الإبداع والنشر إذ يقول هذا الأخير ” الفن بدون قواعد ليس فنًا ؛ إنها مثل امرأة تخلع كل ملابسها. إن فرض القاعدة. هذه، أيها السادة، هي المبادئ التي ندافع عنها، وهذه عقيدة ندافع عنها بضمير حي”.

تكشف إذن هذه المحاكمة عن صراع بين منظومة اجتماعية محافظة تستقي قيمها من النظام القديم وتنفي حرية الفرد وتكبل الإبداع وبين تيار آخر ما انفك يزداد قوة هو التيار الليبرالي: تيار العلمنة والتحرر. يقول فلوبير في نهاية محاكمته: “إنني، أيها السادة، أصر على الطابع الحقيقي لهذه الحكاية، وأضيف أن المجتمع يخاف سماع صوت الحقيقة. إن في وسع الناس ألا يحبوا الحقيقة. وفي وسعهم أن يروها جريئة ومزعجة. في وسعهم أن يضطهدوها ويشوهوها، وأن يطلبوا من القوانين خنقها. ولكن الاعتقاد بأن الناس سوف يسيطرون ذات يوم على الحقيقة ويستعبدونها، ليس أكثر من بدعة وجنون. إن الحقيقة سوف تعيش دائماً، أما البشر ففانون”.

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 18، أوت 2022، ص. ص. 8-9.

 للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf18.tounesaf.org

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights