جماليّة اللامحتمل في فيلم “ضُمّني بقوّة” لماثيو أمارليك*

بقلم: نور الهدى جلال

Serre-moi fort

si ton corps se fait plus léger

Nous pourrons remonter

La Nage indienne

(Chanson d’Étienne Daho)

 

 

 أحياناً، تضعُ الشدّة، التّي تعبُر مختلف مشاهد الفيلم وتظهرُ على ملامح الشخصيّات وتكشفُ على ما يحتِدمُ داخلهم، هذا العمل في خانة اللامحتمل ( l’insupportable) . هذا الفيلم ضربٌ من اللامحتمل المرغوب فيه، حيثُ ينقُل لنا المخرج كمّا هائلا من المشاعر المتناقضة  والمنسجمة في آن بين الرحيل  والبقاء، بين الفقد والحنين، بين خيار أن تكون حرّا وخيار الالتزام إزاء شيء ما، شخص ما أو شعور ما، حتى  وبين رعب الموت والجمالية المفرطة للحياة .

تلعب فيكي كريب دور الأمّ التّي تُصدّر الفيلم برحيلها عن عائلتها دون مبرّرات ولا وعود ولا أثر لتترُك الفراغ للحنين والرغبة. هذا الرحيل المستفّز كان أحد أهمّ النقاط التي تناولها الفيلم… رحيل لأجل اللاشيء، لا غاية معينّة دفعت الأم لترحل… لا وجهة… فقط لأنّها لم تكُنْ مستعدّة للالتزام بذلك القدر من السعادة الموجود هناك داخل ذلك المنزل الذّي ظلّت أبوابه مفتوحة مهيئة لأيّ رحيل من أي نوع. هناك خيارات أحياناً لا تُحتمل لكنّها تعُاش فقط وهذا الضربُ من الوحدة المطلقة الذّي اختارته الأمّ هو أحد هذه الخيارات. ورغم ثقل هذا الخيار، إلاّ أن المخرج استطاع ترجمتُه على نحو جليل ربّما (au-delà de la beauté) وتحوّل كلّ ذلك الثقل إلى خفّة رهيبة جسدتها هذه الأمّ المهووسة بأنّ تصير إلى ذلك النوع من الحريّة القاسية الذّي فرض عليها أن تعتني بآلامها وذكرياتها وظلال الأشخاص الذي لا أعرف إن كانت هي من رحلت عنهم أم هم من تخلّوا عنها. تقول البطلة في مشهد لها في الفيلم: “يجب أن نفعل كلّ شيء بمفردنا”.

كيف لنا أن نمضي في الحياة بهذه الخفّة؟ كيف لنا أن نعيش مع أطياف وظلال الأشخاص الذّين نحملَهم داخلنا؟ كيف لنا أن نكون قساة تجاه ذواتنا ونروّض آلامنا لنحيا فقط لا لأجل شيء خارج عنّا، بل لأجل وجودنا الخاص؟ وكيف لنا أن نُترجم هذا الألم اللامحتمل في أفق الغياب؟

يقول الشاعر الفرنسي إيف بونفوا في ديوان لهُ ترجم تحت عنوان” الصوت والحجر”:

“ما أنا إلاّ الكلامُ منذورًا للغياب،

كلُّ اجتراري سيهدمُه الغياب.”

كلٌّ يصوغُ غيابهُ على نحو ما، فلا يمكننا قنصُ لحظات الغياب لأنّهُ لا زمان كرونولجي لهُ، مايمكنُنا فعلهُ إزاءه هو حملُه داخلنا والصمتُ تجاهه.

 

* “ضُمّني بقوّة” (serre moi fort) فيلم فرنسي لماثيو أمارليك (Mathieu Amarlic) خرج إلى القاعات سنة 2021.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد23، فيفري 2023

 للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf23

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights