المحاسبة …في مهب الريح والمحاسبة … في الظلام
|أكثر من خمسمائة يوم مرت على هروب بن علي مكرس الفساد والمحسوبية في المجتمع التونسي ومهندس آلة القمع المستبد ولكن مرت الأيام ولم تحقق أهم استحقاقات الثورة : المحاسبة. إن المحاسبة كتكريس فعلي لمبدأ العدالة تشكل الضمانة المستقبلية الأساسية لتحصين الديمقراطية الناشئة ضد أسباب الارتداد والانتكاس والرجوع إلى الوراء .
والمريب في الأمر تواتر المؤشرات السلبية التي تؤيد أن هذا التلكؤ يبدو منخرطاً في توجه اختارته الأغلبية والحكومة ومن ورائهما حركة النهضة (في النهاية نحن أمام مونولوج نهضاوي في ديباجة ترويكية)، الهدف منه إبقاء الأمور على ما هي أو على الأقل عدم تحريكها بشكل جذري. أما عن الخلفية فقد أصبحت شبه مكشوفة لأن المحاسبة كتمش، تؤدي لا محالة إلى فرز بين أبواق النظام السابق وأذرعه الغليظة وماله الفاسد من ناحية وبقية الشعب. غير أن هذا الفرز من شأنه أن يوضح الرؤى ويكشف المستور ويسقط التهم المطلقة جزافاً ! ويحد بالتالي بصفة شبه تامة من التحالفات المشبوهة. وهكذا وفي ظل هذا الغموض يصبح بإمكان أي طرف في تونس ( الجديدة ؟؟) أن يغالط الرأي العام و يخاتل القلوب الطيبة مستغلاً ضبابية المشهد.
لم نر من العدالة (الانتقالية) إلا الموائد المستديرة، والأيام الدراسية والمنتديات…وقناعاتي هي أن هذا المهرجان الفولكلوري سيتواصل إلى الإنتخابات المقبلة حتى لا تتوضح الرؤية وتبقى دار لقمان على حالها.
لن تفتح الملفات ولن تكشف الحقائق وغدت استنتاجات تقرير لجنة مكافحة الفساد أو ما اصطلح على تسميتها لجنة “المرحوم عبد الفتاح عمر” على هناتها ونقائصها تمثل الاختراق الوحيد المسجل في مسألة كشف الحقائق.
اننا نتجه بخطى ثابتة نحو المحاسبة في الظلام دون اليات ودون استماع جماعي (public hearing).
تحدد القوائم وتسلط العقوبات -الإعفاءات ويصفق جمهور الأغبياء ومعهم معشر الانتهازيين الأزليين “سير سير يا وزير الشعب يريد التطهير.”
لقد بلغ الاستغباء والضحك على الذقون ذروته عندما شاهدنا بأم أعيننا السيد رضا الملولي المدافع الشرس عن نظام بن علي ضيفاً مبجلاً على ندوة إصلاح الإعلام الحكومية . والسيد رضا حر في ارائه و قناعاته وفي واقعيته المذهلة، ولكن هل يمكن أن يشرك مثله في لحظة بناء وتأسيس فارقة؟
ثم هل أتاك حديث وزير العدل الذي إيماناً منه بضرورة المحاسبة قدم للديمقراطية الناشئة طبقاً مسموماً يتمثل في إعفاء أكثر من ثمانين قاضيا من مهامهم؟ صفق جمهور الأغبياء ( مرة أخرى) ورأى في نور الدين البحيري سبارتكوس (SPARTACUS) المنتفض الذي يريد تحرير القضاء من أغلال عبودية الفساد. ولم ينتبه الجمهور المتحمس إلى أن وزير العدل بركونه للمحاسبة في الظلام قد أذل القضاء وعمّق جراحه؛ ولسان حاله يقول ” لن تكون مستقلاً يا قضاء وستبقى هكذا إلى يوم الدين ! “
وتتواصل المحاسبة في الظلام ،هذه المرة في لجنة المصادرة التي غدت صندوقاً أسوداً وإطاراً لتصاريح سرية وربما لصفقات تفاهمية مع بعض رجال الأعمال من الذين انتفعوا بشكل صارخ وواضح خلال فترة حكم بن علي ، عن طريق انتهاك ممنهج للقانون.
بئس الزمان هذا الذي تفجرت فيه أحلامنا وكثرت فيه امالنا لتتكسر في نهاية المطاف على صخرة الكذب والخداع ولنشاهد عوض المحاسبة الحقيقية التي غدت في مهب الريح مسرحية غير بينة الأدوار مشاهدها ضبابية.
ولسائل أن يسأل: رباه لماذا هذا الانحراف؟ ما سر هذا التلكؤ المريب والمماطلة الغير بريئة ؟ وكيف يمكن قراءة هذا التعطيل الممنهج للهياكل ولمشاريع القوانين التي من شأنها أن تكرس اليات المحاسبة أو على الأقل تسهل الانخراط فيها؟
إنه لعمري فصل جديد من الفصول الحزينة لملحمة “التدافع الاجتماعي” عنوانه الكبير “مقايضة الصمت وغض النظر بالولاء”. فكاتب هذه الملحمة على وعي حاد بضرورة حشد أكبر عدد ممكن من القوى والأنصار والأموال. وإن كان الخطاب الديني – الشعوبي- التقسيمي قادرا على إستنفار قطاعات هامة من الشعب ، فإن تأثيره يبقى ظرفيا ومرتبطاً بحيثيات معينة يقع استغلالها وحتى افتعالها في بعض الأحيان . ومهما بلغت درجة السقوط في هذا الخطاب حتى أصبح يستهدف متساكني منطقة” المرسى “لا لشيء إلا لكونهم يتمتعون بالبحر وبالهواء النقي ، فإنه يفتقد للتأسيس(حتى وإن كان تأسيساً خيالياً) ولا يمكنه بالتالي أن يستنفر الهمم في ظل غياب المشروع المتجلي المعالم الحياتية.لذلك فإن المحاسبة في الظلام هي وحدها الكفيلة بإعادة خلط وتوزيع الأوراق…كباش الفداء ستكون موجودة لا ما حالة ولكن سوف تتم عملية إعادة استيعاب لجماعة الصف الثاني والثالث… الخ….. وهكذا سوف تعود المياه المتعفنة المتسخة والراكدة إلى مجاريها لتكون في خدمة من ينادي بالتدافع الاجتماعي.
أقولها والدموع ترقرق في عيوني: إن المحاسبة في مهب الريح….
أقولها والألم يخترق ضلوعي: انها لمحاسبة في الظلام!