كأس العالم بقطر وسؤال الهويّة
|بقلم: حمزة عمر
اقترنت عدّة نسخ من كأس العالم لكرة القدم بجدل يثار حولها لأسباب مختلفة: في نسخة 1978، كان الجدل سياسيا حول الانقلاب الّذي عرفه الأرجنتين، البلد المنظّم. في نسخة 1994، كان الجدل حول معنى أن ينظّم بلد (الولايات المتّحدة الأمريكية) لا يعبأ سكّانه كثيرا بكرة القدم أهمّ تظاهرة لهذه الرياضة. في نسخة 2002، طًرح الجدل حول معنى أن ينظّم بلدان (كوريا الجنوبية واليابان)، عرفت علاقاتهما تاريخيّا مدّا وجزرا، معا هذه التظاهرة.
لكن لم يُطرح سؤال الهويّة بمثل هذه الحدّة قبل النسخة الأخيرة من كأس العالم الّتي انتظمت بقطر. ربّما لأنّها المرّة الأولى التّي تنتظم فيها هذه التظاهرة في منطقة مثل منطقتنا العربية ذات العلاقة المتأزّمة بهذه المسألة منذ قرنين من الزمن على الأقلّ.
لا شكّ أنّ قطر نجحت نجاحا باهرا على المستوى التنظيمي، ولكن ربمّا يكمن الأثر الأكبر لهذه الدورة في كونها جرّكت السواكن في خصوص مسألة الهوية، وقدّمتها كعنصر يدعو للافتخار. يتجلّى ذلك في عدّة رموز وقع الترويج لها، بالخصوص في حفل الافتتاح الّذي تُليت خلاله آيات من القرآن، وفي تميمة الدورة “لعيب” الّذي اتّخذ شكل شماغ، وهو عنصر مهمّ في لباس سكّان الخليج العربي، وفي فرض قواعد تعلّقت بالرؤية الإسلامية كالحدّ من بيع المشروبات الكحولية ومنع حمل شعارات تنصر المثليّة الجنسيّة، وتجسّمت بشكل جليّ في نهاية المطاف حين اُلبس ليونيل ميسي قائد المنتخب الأرجنتيني عباءة عربية قُبيل حمله رمز البطولة.
في مقابل هذه العناصر، كان ردّ الفعل الغربي في بعض الأحيان متشنّجا أو مرتكبا ووضع أصحابه في ألوان من المفارقات. فرغم تصاعد الأصوات قبيل انطلاق الدّورة حول احترام حقوق الإنسان، وخاصة حقوق العمّال، في قطر، لم يجرؤ أيّ بلد على اتّخاذ قرار واضح كالمقاطعة، وحتّى ردود الفعل الرمزية، كحجب الدنمارك لعلمها من القمصان وتغطية لاعبي ألمانيا أفواههم قبل مباراتهم الأولى، كانت محتشمة، بل وانقلبت على أصحابها، إذ لم ينجح المنتخبان المذكوران في تجاوز الدور الأوّل من المنافسة. في المقابل، برزت بعض المواقف المتفهّمة لمسألة الخصوصية، كما عبّر عنها مثلا هوغو لوريس قائد المنتخب الفرنسي، وخاصة ردّ فعل جيانو انفانتينو رئيس الفيفا الّذي انتقد، بشيء من الاستهزاء، الإلحاح على مسألة إباحة المشروبات الكحولية.
أحيانا، بلغت ردود الفعل درجة الهذيان، كما يمكن أن نرى ذلك في زعم بعض وسائل الإعلام الغربيّة أنّ ميسي “أجبر” على ارتداء العباءة وتقديمها هذا المشهد بكثير من الاستهجان. مثل هذه المواقف قلبت المعادلة القديمة في خصوص التعامل مع الهوية، فأضحى العرب في انسجام مع هويّتهم، وأضحى الغربيون يتعاملون معها بكثير من التشنّج الّذي لامس في أحيان كثيرة الصلف والعنجهيّة، وهو ما ولّد نوعا من النفور إزاء هذا التعامل الفوقيّ. في المقابل، كسبت سمعة قطر نقاطا مهمّة، خصوصا لدى جماهير العالمين العربي والإسلامي، فعلى الرغم من تباين المواقف من سياسات هذه الدولة، ساد شعور من التضامن معها خلال تنظيم هذه الدّورة، وكأنّها أعادت الاعتبار لهويّة مهزومة ومجروحة.
تأكّد ذلك من خلال “الإنجازات” الكروية الّتي حقّقتها المنتخبات العربية في هذه الدورة. فطرفا الدور النهائي لم ينهزما إلّا على يدي منتخبين عربيين. ورسم المنتخب المغربي ملحمة لا سابق لها من خلال بلوغه الدور نصف النهائي متفوّقا على منتخبات أوروبية عريقة في اللعبة كبلجيكا وإسبانيا والبرتغال. مثل هذه الانتصارات شكّلت كسرا لحاجز معنوي كبير كان يستبطن تفوّق مثل هذه المنتخبات وكان يستدعي خوض غمار مثل هذه الدورات بعقليّة “الهزيمة المشرّفة”، وكأنّ الهزيمة كانت قدرا محتوما، وأفضل ما كنّا نستطيعه الإبداع فيها!
قد تشكّل مثل هذه الانتصارات حافزا معنويا ربّما يساهم بعض الشيء في دفع المجتمعات العربية إلى مقاربة مسألة الهويّة بروح أخرى. لكن لا ينبغي أن ننسى أنّ الأمر يتعلّق بلعبة قد لا يعني الانتصار فيها، سواء على المستوى التنظيمي أو الكروي، شيئا يذكر أمام الجانب الحضاري الّذي لا تزال الطريق فيه معقّدة وشاقة…
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 22، جانفي 2023
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf22