ويكأن – نص آخر

بقلم: رجاء عمّار

 

  إلى صديقة القلب كلثوم عياشية

 

فجأة
انتبه رفاقها المتحلقون حولها
إلى تلك التي تقف خارج الدائرة،
ذاك الموقع
الذي يقبع فيه خيارا أو اضطرارا
العنصر الذي يبقى وحيدا،
لا يستجيب للشروط
حسب تمرين الحساب في المدرسة،
تنظر إليه وتغبطه
وكلما سمعت المعلم يحث تلاميذه
كي يجتهدوا ليصبحوا عناصر فاعلة،
امتعضت وعزمت في سرها:
“أريد أن أغدو مثل ذاك العنصر الذي لا ينتمي!”

فلنعد إلى الحكاية!

فجأة،
سمعت أحدهم يسألها:
“ما الأغنية التي تختارين ترديد كلماتها
إذا دعاك الشيطان لمصاحبته في رقصة؟”،
ردت كأن الإجابة بديهية
لا تحتاج تفكيرا
ولا تستدعي تعجبا من رفيق الرقص:
“على دلعونة.. .على دلعونة..
راحوا الحبايب ما ودعونا”،
ما اكتفت بالرد،
بل خرجت الكلمات من حنجرتها منغمة
واستجاب الجسد للدعوة تمايلا،
فطرب الحضور وصفقوا،
فجأة،
صمتت وقرر الجسد المغادرة دون استئذان،
استغربت من ليل أتى مسرعا
فهي بالكاد احتضنت الصباح
وأمسكت كفه المضيئة
لتنطلق في جولة البحث،
لا تدري كيف وجدت نفسها في ذاك المكان،
ولا تعلم لماذا أسلم النهار ساعاته للفرار،
لا تقدر أن توقظ الصباح النائم في مهده
كطفل أجهدته معها وهي تفتش عن هدية،
لم يأخذ أي شيء من الأشياء المعروضة
بتلابيب اهتمامها،
لم ينطق صمت أي منها ليقنعها
باختلاف كامن فيه
يخول له الخروج
من دائرة الانتماء إلى المعهود
الذي ضيق التكرار عليه الخناق،
غير أنها اقتنت منها اثنتين على مضض
وواصلت البحث،
لكن، هذا الليل الذي جثم على جثة المدينة
يطارحها غراما زائلا،
متى أشبع وطره،
ينسل هاربا منذ الزقزقة الأولى
لضوء لا مهنة له سوى حلب الذاكرة
التي ينسى أنها ذبحت إيلاما للظلمة،
هذا الليل الذي يثير فزعها
بيد أن نور المصابيح يسخر من ذعرها
ويرفض العملة البائسة
التي تكتظ بها بنوك الروح التي تكابر
كي لا تعلن الإفلاس،
فما بحوزتها أكداس من الأعذار التي لا قيمة لها،

فجأة،
يعلو صوت لا تعرف مصدره تحديدا
يعلن عن الموعد الجديد لعرض المسرحية
ويختم الكلام بجملة شدت انتباهها:
“كلنا الجعايبي!”
هل نحن حقا كذلك؟
من يؤكد صحة هذا الادعاء الصارخ في يقينيته؟
هل كلنا إله مبدع في إخراج سيناريو ليس صاحبه؟
هل..
ولجمت سؤالا واستغفرت من تطابق
أعرش في ذهنها بسرعة كنبتة جهنمية،
هل البشر قنوات مائية وزع من أنشأها بينها الأقدار،
“إلهي، أنا قناتك الراضية
بما أسريته في جوف عمرها
فلا تحرمني من قرار الانفجار…”

ما زالت واقفة،
وليست واثقة من الطريق الذي سيحملها
نحو الوجهة التي ستؤوي إليها،
أسرعت إلى شرطية تلاعب خصلة شعرها
واستفسرتها عن نزل بشارع الحبيب بورقيبة،
نظرت إليها مستهجنة إحساسها بالضياع
الذي استشعرته ربما من نبرة الصوت ثم أشارت إلى الشارع الممتد كحشية فقدت نوابضها فما عادت تثير شهية اللعب نطا،
وهمست كمن يخشى إيقاظ ذبابة عانت طويلا من الأرق قبل أن يحالفها الحظ وترتاح حين أذهبت لبها رائحة المبيد المعطر: “وجهتك ليست بعيدة، امشي ديما طول!”،
حثت الخطى وما عاد يفصلها عن الضفة التي فيها مبتغاها
لتريح جسدها المكدود سوى رصيفا فشارعا،
وها هي على اليمين تلوح الساعة واقفة
تتظاهر بالشموخ واللامبالاة
تكتم وجعا يكاد يقصم ظهر صبرها،
لكن، ما لهذا الرصيف ما زال أرضا بكرا
عامرة بتربة تصلح للغراسة،
أدهشها أنها لا تعلق بثيابها،
ولم تتسخ كفاها حين ارتكزت عليهما
لأن الذي اعتبرته لسبب تجهله رصيفا،
تكومت فيه هذه التربة مكونة قبابا تعلو وتتخفض،
كلما ظنت أنها عبرت،
استقبلها رصيف آخر بذات الصفة
التي تثير استغرابها من جديد
وهي تتحسس طيبتها وطيبها،
ما انفكت تتناسل هذه المقاطع الترابية
وما فتئت مصرة على تجاوزها
لتعبر الشارع نحو النزل لترتاح،
لم تفتر عزيمتها
ولا تدري كيف هلت تلك الفكرة التي راقتها
واعتبرها هدية مناسبة
رسوم بعدد سنوات العمر،
بدت لها الفكرة لوهلة بسيطة
وأوهمتها بقدرتها على تنفيذها بيسر،
ستكتفي بالوجه إطارا
تضم العناصر الأساسية:
الزنزانة والأكرة والمفتاح،
ومع كل لوحة سيحل عنصر آخر ضيفا
يشارك في هذا المعرض،

متى سينتهي هذا الرصيف؟

فلتبدأ بالرسم الأول،
ولتحتل القضبان صفحة الوجه
وفي الجانب الأيسر،
الأكرة التي يطل منها بؤبؤ العين
والرقبة في هيئة مفتاح،
في الرسم الثاني،
العينان بوابتان مفتوحتان لزنزانتين
وكل بؤبؤ وليد يحبو كل منهما
في اتجاه مختلف،
يقترب أحدهما من الفم المفتوح الشفتين
كبئر ضامئة،
ستبقي على العينين سجنين ببابين مواربين
ليغدو البؤبؤان في الرسم الثالث
طيورا تحلق من الجهة اليمنى
وتسقط في الجانب الأيسر
كدمع يهرول نحو بحر ليحظى بنسب،
ولا ينتبه إلى غضب تورم وصار دوامة
ما انفكت تتسع ولا يهمها سوى أن تبتلع،
في الرسم الرابع،
العينان زنزانتان فارغتان
والبؤبؤان يواصلان حفر نفق جاهدين للهروب،
فلتدعهما يستمران في الارتواء من الوهم
ولا تخبرهما أن الصدر ليس سوى متاهة،
العينان في الرسم الخامس طفلتان
إحداهما تمسك بكف بالقضبان
والكف الأخرى تمتد محاولة الإمساك ببالون أو قطعة من قطع الحلوى تنهمر،
أما الطفلة الأخرى فمتكورة في ركن مولية ظهرها،

كم مساحة هذا الرصيف
الذي أنكروا عليه الترصيف؟
وهذه التربة التي تأسر وتأبى عليها الانصراف
من يعلم قاعدة لتحسن التصرف والتصريف؟

فلتدع هذا العبث الكلامي
ولنركز على غايتها،
فالوجهة صحيحة والنزل قريب وجسدها مكدود
غير أن ذهنها في مرسمه
مستغرق في خلق الأفكار،
قام بتشكيل الوجه قضبانا تطل منهما العينان
والأنف وردة ساقها المورقة إلى أعلى
والفم أنثى مستلقية على ظهرها
مستمتعة بنتف البتلات،
مر الذهن سريعا
إلى الرسم السابع،
رسم إطار الوجه والرقبة وجزءا من الجسم وحشر خلقا كثيرا بملامح مطموسة ثم أرسى القضبان وأغلق بوابة السجن ومضى إلى الرسم الثامن
حيث كل عين سجنا،
وألقى سلسلة فيها عدد كبير من المفاتيح
احتلت بقية تفاصيل الوجه
والقلب هو الأكرة،
قد يجعله في الرسم التاسع مفتاحا
ويمنح العينين دور الأكرتين
وتقبع الأذنان في زنزانتيهما الانفراديتين
ويستمران رغم ذلك في رتق الشفتين المنفرجتين
خشية أن تتدحرج من الداخل الحقيقة،
في الرسم العاشر
العينان شمعتان سجينتان
إحداهما ترقص شعلتها
حتى يتصبب القوام عرقا
والثانية مغمضة الفتيل
تحلم بالعنكبوت
ذاك النساج الماهر
يصمم لها ثوب زفاف أو كفنا أو..
المهم أن يعتق أيامها من العري،
في الرسم الموالي،
في الوجه – الزنزانة،
عينان ريشتان
تقطران حبرا على ورق هو الصدر،
في اللوحة التالية،
وراء القضبان سماء تدغدغ زرقتها
بعض السحب
والعنق وبقية الجسم مزهرية
في جانبها تشقق،

هذه الأمواج من التربة
كيف الخلاص منها لبلوغ المرفإ؟

في الرسم الثالث عشر،
في نفس الوجه – السجن،
تحاول امرأة لملمة صورها
التي عكستها المرايا التي انكسرت،
تبدو منهمكة ولا تبالي بالدم الذي تنزفه أصابعها
ويسيل ويلون القضبان،
العينان زنزانتان أيضا
في الرسم الرابع عشر،
في كل منهما نصف من القلب
والفم مقص مشرع الفكين،
في الرسم الخامس عشر
في زنزانة علقت على جدرانها
عدد من الساعات
التي لكل رأيها في الوقت،
وواحدة منها، لا يشغلها هذا الجدل
وتمد عقاربها نحو القضبان
لعلها تنجح في خلع بوابة السجن،
يتدلى حبلا مشنقة مكان العينين
  في الرسم السادس عشر
والأنف كرسي
والشفتان قطعتا ثلج
تضمان سيجارة
رغبة مشتهاة في الدفء،

هذه التربة ككثبان
تتخيلها بعد سنين بستانها،
هل يعنيها ذلك
وهي لا تملك بذرة ولا شتلة،
فلتضع مكان القلب أصا
أو فلتمتد فيه الجذور مباشرة
في الرسم الثامن عشر،
ويشتد عود النبتة التي تنمو في سجن الوجه
وتلتف بالقضبان
ويتفتح ورد يطل برؤوسه خارجا
عل يد الحرية تقطفه،
في الرسم التاسع عشر
القضبان هي أوتار الكمان
وتمتد ذراع محاولة لتبلغ القلب
الذي ليس سوى العود الذي يحتاجه النغم
ليفر من حبسه،
تحاول فقمة في الرسم العشرين
الذي يؤويها في قفص
أن تحافظ على توازن الكرة الأرضية وتديرها
كما تعودت فعل ذلك في عروض الحياة- السيرك،
في الرسم الواحد والعشرين،
يدان تمسكان بالوجه الغربال
المعبإ نجوما تتساقط خارج هذا السجن
ليستقبلها آخر
ولعل بعد التنقية
يبزغ الهلال،
الزنزانة فارغة في الرسم الثاني والعشرين
ونزلاؤها بعضهم في القلب – السفينة
وآخرون يطويهم الغرق قصاصات
في إحداها احتمال نجاة،
ورقة كراس
والخطوط هي القضبان
التي تسجن ذاك المجرم الخطير.. الفراغ،
تزوره الحروف التي تتوزع على صفحة الوجه
في الرسم الثالث والعشرين
شماتة أو عشقا،
من أكرة إحدى الزنزانات
في الرسم الرابع والعشرين
يرمي القلب شبكته
ويترقب خلاصا متى أثقلها تخفف من جوعه،
في الرسم الخامس والعشرين،
خلف القضبان،
كتب كثيرة لا تعبأ بسجنها
وتنعم بالهدوء
الذي لن يستمر،
إذ تغزو المشهد شرارة من نار
تضاعفت لوعتها في لمح العمر،

و…هذا الرصيف الذي يبدو أنه بلا نهاية،

لا بد أن يكف الذهن عن الانشغال بولادة الأفكار،
تذكرت الهديتين اللتين حان وقت تقديمهما،
فالمسدس الذي ينفث ماء
قد يخمد الحريق الذي سيندلع،
وستعود إلى الرسم الخامس
وتقدم العبوة المليئة ماء ممزوجا بالصابون
لتلك الطفلة المتكورة
لعلها تنفض عنها الحزن
وتستمتع بوقتها وهي تنفخ من روحها
فتتطاير الفقاقيع خارج الزنزانة،
لا يمكنها أن تستمر في العدو خلف الأفكار
لتجففها كالفراشات،
لا تستطيع وهي سجينة هذا التراب.

 

نشر هذا النصّ في مجلّة حروف حرّة، العدد 28، جويلية 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf28

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights