الشعبوية في تونس، أيّ معنى؟
|قراءة في خطاب الرئيس قيس سعيّد بمناسبة ختم دستور 25 جويلية 2022
بقلم: سوسن فري
يقول حمادي الرديسي أن المشهد السياسي التونسي بعد الثورة تميز في الخمس سنوات الاخيرة ببروز وسيطرة ثلاث اتجاهات سياسية ذات طبيعة شعبوية على الساحة السياسية، “التيار الشعبوي المناهض للثورة” ممثلا في عبير موسي، “الشعبوية الليبرالية” ممثلة في نبيل القروي و”الشعبوية الثورية الهوياتية” ممثلة في قيس سعيد. بعد أن سيطر عليه في الخمس سنوات الاولى تيار الاسلام السياسي والنخبة الحداثية ممثلة في حزب نداء تونس.
تعتبر الشعبوية ظاهرة تاريخية، لا يمكن ان تفهم خارج سياقها التاريخي ودون الحفر في اصولها وظروف نشأتها وعوامل تطورها. حيث ظهرت في شكلها العصري في حدود منتصف القرن التاسع عشر في روسيا.
حسب أندريه مينو، نستطيع تعريف الشعبوية باعتبار قيامها على ثلاث خصائص، أولا فكرة الشعب الأصلي الذي لا بد من العثور عليه وإنصافه، رفض أفكار فلاسفة الأنوار وخيانة النخب التقليدية. وهي عبارة عن ايديولوجيا تصور المجتمع على أنه متكون من قسمين متجانسين ومتعارضين، “الشعب النقي الطاهر” في مقابل “النخبة الفاسدة”. نادرا ما يتم تبني صفة الشعبوية من قبل اشخاص او منظمات سياسية، بل هي في العادة صفة يتم اطلاقها على الآخر السياسي بغرض الوصم والتبخيس من قيمته.
بالعودة إلى مجموع التحولات السياسية التي شهدتها تونس إثر منعرج 25 جويلية 2021 الحاسم في تاريخ تونس الحديث، نستطيع الجزم بأن تيار “الشعبوية الثورية الهوياتية” هو من انتصر سياسيا.
لاحظنا من خلال متابعتنا لاستراتيجية الاتصال السياسي التي يعتمدها الرئيس قيس سعيد منذ اعتلائه سدة الرئاسة أنه يحرص على اعتماد التواصل مع مجموع مواطنيه عبر إلقاء الخطابات الأحادية في المناسبات الوطنية الهامة أو عندما تقتضي الحاجة وتفرض عليه المستجدات الوطنية أن يدلي بدلوه في أمر ما، كما أنه يرفض بشكل قاطع قبول أي دعوة لإجراء حوارات مع أي من وسائل الاعلام المحلية.
نقترح في هذه الورقة أن نحلل كلمة رئيس الجمهورية قيس سعيد بمناسبة ختم وإصدار دستور الجمهورية التونسية الجديد بتاريخ 17 أوت 2022.
تضمن خطاب الرئيس قيس سعيد: ثلاثة فاعلين رئيسيين وهم على التوالي، الشعب التونسي، الشباب، وقوى الردة المتمثلة بالأساس في السلطة القضائية.
الشعبوية اليمينية الهوياتية والمفاهيم الفضفاضة، “الشعب التونسي العظيم” و”الشباب الغاضب” في خطاب قيس سعيد نموذجا”
الخطاب هو المحمل اللغوي المباشر لمقاصد المتكلم التي يتوجه بها إلى المتلقي. فالعملية التخاطبية تبدأ إذن بالمخاطب، وبقدر ما يكون ناجحاً في إرسال الخطاب ومبيناً لمقاصده يتم فهم مقاصده ومعرفة معاني خطابه. لذلك يحرص قيس سعيد بشدة في خطابه الذي اخترنا أن نقوم بتحليله من خلال هذا العنصر على التركيز على مفهوم الشعب التونسي العظيم، الذي يعتبره كتلة نقية ومتجانسة، تدرك جيدا ما تريده وكيف تصل إلى مبتغاها، غير أنها تتعرض باستمرار إلى التنكيل من قبل أجهزة السلطة، التي لا تحرص إلا على خدمة المصالح الضيقة لرجالاتها. فكيف يتمثل قيس سعيد مفهوم الشعب في هذا الخطاب؟
مفهوم الشعب التونسي في خطاب قيس سعيد
بعد مراجعتنا لخطاب الرئيس قيس سعيد، الذي تتجلى أهميته في كونه يعبر عن تدشين بداية عهد الجمهورية التونسية الجديدة، إثر مرور الدستور الجديد بعد استفتاء 25 جويلية 2022 بنسبة 94،6 بالمئة. لاحظنا كونه يلجأ إلى الإسراف في اعتماد عبارة “الشعب التونسي العظيم”، حيث قمنا برصد ترديدها لأكثر من عشرين مرة. كما أنه يبالغ في الإطناب في وصفه بكونه شعبا عظيما رغم إمكانياته المحدودة فتح آفاقا غير محدودة، رؤوس أبنائه كانت دوما مرفوعة في السماء، لم يفقد الامل، عانى من التفقير والتنكيل، أبهر العالم كله من ديسمبر 2010 إلى تاريخ الاستفتاء. صحح برفقة الرئيس قيس سعيد مسار الثورة ومسار التاريخ، تحدى كل الصعاب ولم تنكسر إرادته، ذلل كل العقبات وواجه كل المشككين. واجبه كشعب حسب الرئيس أن يقوم بإصلاح مسار التاريخ ويكذب اراجيف جيوب الردة ويدحض ألاعيبهم ويفضح ممارساتهم. ولبلوغ جملة هذه الاهداف قرر الشعب انهاء وجود الدستور السابق حسب قول الرئيس مجددا.
تعتبر التبسيطية السياسية والاستخدام العاطفي لمفردة “الشعب” من أبرز خصائص الخطاب الشعبوي، حيث يحرص المخاطب على استدعاء التراث والرموز التاريخية أحيانا للإمعان في الشحن العاطفي وإضفاء صبغة حماسية على مضمون الخطاب بغاية دغدغة مشاعر الجماهير وإثارة حماستهم. فالخطاب الشعبوي هو خطاب مبهم وعمومي في الغالب ويميل الى الاثارة والحماسة وإلهاب المشاعر وتقديم الأحلام والوعود مع إحالات إلى التاريخ واستخداماته بصورة إيديولوجية وعلى نحو انفعالي، على حدّ وصف عبد الحسين شعبان.
يقول فيديريكو تاراغوني أن القادة الشعبويين يلعبون على الغموض في علاقة بمفهوم الشعب. وهذا ما نلاحظه بوضوح في مجموع التوصيفات التي خاطب بها قيس سعيد الشعب التونسي، التي تعلي من شأنه بشكل مبالغ فيه وتزرع فيه الشعور بكونه كتلة نقية وصادقة أبهرت العالم بفضل قدرتها على إسقاط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي بشكل سلمي ومواصلتها إثر ذلك الدفاع عن الثورة ومسار الحرية من خلال تواصل الاحتجاجات المقاومة لمسار الانتقال الديمقراطي الذي تم إرساؤه اثر الثورة. ونستطيع أن نستخلص من حرص الرئيس في خطابه على تحديد فترة المسار الثوري بكونها انطلقت يوم 17 ديسمبر وتواصلت إلى حدود يوم الاستفتاء بكونه يعتبر نفسه المنقذ لهذا المسار الذي استولت عليه طبقة سياسية فاسدة وحولت وجهته من خدمة مصالح الشعب الثائر، المحتج والغاضب إلى خدمة مصالح فئوية ضيقة.
يتمثل قيس سعيد قرارات 25 جويلية 2021 باعتبارها خطوة إصلاح لاسترداد المسار الثوري المغدور، حيث يصف الفترة السابقة بكونها فترة ساد فيها الظلام واستفحل الظلم في كل مكان، حسب تعبيره.
لذلك يعتبر حرصه على التأريخ باعتماد تاريخ 17 ديسمبر مسألة غير اعتباطية، حيث أنها تحيل على سردية تعتبر أنه تم السطو على الثورة ليلة 14جانفي من قبل رجالات النظام السابق والنخبة القديمة أو ما يعرف بالدولة العميقة التي أعادت التموقع، عندما حرصت على إيجاد مخرج دستوري بعد مغادرة زين العابدين بن علي بتعيين الوزير الأول محمد الغنوشي رئيسا للجمهورية ومن ثمة رئيسا للحكومة وتعويضه برئيس مجلس النواب فؤاد المبزع. على عكس تاريخ 17ديسمبر الذي يؤرخ لإضرام محمد البوعزيزي النار في نفسه في ولاية سيدي بوزيد التي تقع في الوسط الغربي للبلاد التونسية، مما يحيل إلى استعادة لصراع تاريخي نشأ منذ دولة البايات بين المركز المتمثل في الحاضرة أي مدينة تونس وبقية مدن البلاد التي كانت تتعرض للتنكيل من قبل رجالات الباي والذين تتلخص علاقتهم بالدولة في كونها جهازا فوقيا يلجأ إلى العنف لانتزاع النصيب المفروض على الأهالي من الضرائب كل سنة، أو ما كان يعرف بالمجبى حينها.
نستطيع هنا أن نستحضر المواجهة لتاريخية التي وقعت بين سكان الدواخل، الذين تطلق عليهم عبارة “الآفاقيين” للتبخيس من قيمتهم، وبين سلطات الدولة عندما قرر محمد الصادق باي مضاعفة المجبى من 36 إلى 72 ريال سنة 1864. مما أشعل غضب الأهالي وقاد إلى ثورة علي بن غذاهم.
يستدعي إذا قيس سعيد كل هذا الإرث الرمزي لذاكرة شعب مشحونة بجروح عميقة عانت ويلات التمييز والتفرقة على أساس الانتماء الجهوي، وتواصلت مع دولة الاستقلال التي عمقت هذه الفروقات من خلال اعتمادها لخيارات تنموية غير عادلة بين جهات البلاد. حتى أن عالم الجغرافيا التونسي عمر بلهادي يعتبر أن تونس الحديثة تنقسم إلى قسمين، من جهة تونس الساحلية “المهمة”، ومن جهة أخرى تونس “الغير مهمة” والتي تشمل جهات تونس الداخلية، كما يوضّح ذلك عمر بلهادي.
يصف حمادي الرديسي الإعلاء من قيمة هذا الفاعل أي الشعب بعبارة “وهم الشعب”، حيث يقول بأن الشعبويين يستندون في خطاباتهم على الإعلاء من فكرة الشعب النقي أخلاقيا والطاهر الذي يعاني بسبب النخب الفاسدة أخلاقيا. هذا التمييز بين الشعب والنخبة هو تمييز معياري بالأساس اي أنه غير موجود في حقيقة الأمر، فالشعب ليس بمجموع السكان وليس بمجموع المواطنين الذين يمتلكون حقوقا وعليهم تأدية واجبات. الشعب الحقيقي بالنسبة للشعبوي هو مفهوم فضفاض بالأساس أو بالأحرى “فاعل فارغ” حسب تعبير أرنستو لاكلو.
ضمن هذا الشعب، يعتبر الشباب فئة رئيسية تمثّل أكبر نسبة من عدد السكان في البلاد، كما أنهم محرك رئيسي للأحداث السياسية منذ انطلاق الاحتجاجات في ثورة 2011، حيث أن مختلف الاحصائيات تثبت أنهم يمثلون القوة الاحتجاجية الرئيسية التي تحرك الشارع طيلة العشرية الفارطة.
فكيف تعامل قيس سعيد مع هذا الفاعل الاجتماعي في خطابه؟
مفهوم الشباب الغاضب في خطاب قيس سعيد
لاحظنا خلال تحليلنا لخطاب قيس سعيد أن “الشباب” يعتبر فاعلا أساسيا في رؤيته السياسية، حتى أنه يخيل إلى المستمع بأنه يختصر “الشعب التونسي العظيم” في فئة الشباب. الذي يصفه بكونه ثروة لا تنضب ويتمثل دوره حسب قيس سعيد في المساهمة في التنمية الحقيقية في كافة المجالات وكل الجهات ويكفي تمكينه من الوسائل القانونية اللازمة ليتحقق ذلك.
بالنسبة لشعبويي اليمين الذين ينتمي إليهم الرئيس قيس سعيد الذين يصفهم حمادي الرديسي بالشعبويين الثوريين الهوياتيين، يتكون الشعب من الطبقات الشعبية الاكثر هشاشة، ومن متساكني الضواحي والاحياء الشعبية الذين لم ينالوا قسطا وافرا من التعليم ويعانون البطالة. نستطيع أن نلاحظ تركيز قيس سعيد في خطابه على فئة الشباب التي تتسم في تونس بكونها تعاني من الهشاشة، نظرا لارتفاع نسبة البطالة بين صفوف أبنائها وسيطرة الشعور بالإحباط والتيه على أغلبهم. يحرص قيس سعيد إذا على استهداف هذه الفئة الهشة، التي تطمح للعثور على مخلص ينقذها من الفشل المتواصل الذي منيت به حكومات ما بعد الثورة. إذ أن الشباب كان المحرك الرئيسي للثورة باعتباره فئة تعاني من انسداد الافق والهشاشة وخزانا احتجاجيا ضخما كان قادرا ولازال على تأجيج الشارع وحشده عندما يقتضي الأمر ذلك.
من هنا يتأتى تركيز قيس سعيد على الشباب باعتباره فاعلا اجتماعيا مؤثرا بصفة رئيسية في التوازنات الاجتماعية والسياسية في تونس.
وفي الحقيقة عانى الشباب التونسي منذ نهاية فترة حكم الرئيس الاول للجمهورية الحبيب بورقيبة من تعطل المصعد الاجتماعي مما أدى إلى تقهقر الوضعية الاجتماعية والاقتصادية لعدد وافر من المواطنين. يتمثل المصعد الاجتماعي في مفهوم سوسيولوجي يتم من خلاله رصد وفهم حركة الأفراد بين مختلف المواقع في السلم الإجتماعي. ونعني بها مجموع التغيرات التي تطرأ على الوضع الاجتماعي لفرد ما مقارنة بالوضع الذي وجد عليه عائلته وفي مختلف مراحل حياته. يتمثل المجتمع التونسي الصعود الاجتماعي باعتباره مرتبطا بالأساس بالتعليم والنجاح الدراسي. حيث يتمثله اجتماعيا في صورة الطفل الذي ينتمي إلى أسرة ريفية فقيرة تقع في منطقة مهمشة ويتمكن بفضل تحصيله العلمي المتميز من الحصول على وظيفة مرموقة داخل إحدى مؤسسات الدولة ويحقق صعودا اجتماعيا رغم افتقاده لرأسمال اجتماعي أو ثقافي أو اقتصادي حسب عبارة بورديو. شهد هذا المصعد الاجتماعي تعطّلا منذ الخيارات الليبرالية التي أملاها الانخراط في خطّة الإصلاح الهيكلي سنة 1986.
يعتبر استبطان المؤامرة وإيهام الجماهير بأن القائد يتعرض باستمرار إلى مكائد ومؤامرات تحاك ضده في الغرف السرية من أبرز خصائص الخطاب الشعبوي اليميني.
فكيف تتجلى هذه الخاصية في خطاب قيس يعيد؟
وهم المؤامرة في خطاب قيس سعيد
بالانتقال الى المحور الثاني في خطاب قيس سعيد، الذي وصفه بأنه موعد سيتوقف عنده المؤرخون كثيرا نظرا لدرجة أهميته في تاريخ تونس المعاصر، نلاحظ كونه خصص حيزا كبيرا من خطابه للحديث عن قوى الردة المتمثل في الفاسدين والسلطة القضائية التي تعطل، حسب قوله، عملية محاسبة الفاسدين وتطهير أجهزة الدولة منهم. هذه القوى التي تمثل النخبة القديمة التي يعتقد قيس سعيد بأنه يحاربها. حيث يصفهم بكونهم يحنون إلى السيطرة على كافة مرافق الدولة في كل المستويات، حسب تعبيره.
حرص قيس سعيد على اعتماد عبارتي “نحن” و”أنتم” في خطابه يتنزل ضمن إحدى أهم خصائص الخطاب الشعبوي، الذي يعمد الى اقامة تعارض حاد بين الشعب والنخب، أي ال”نحن” النقية و”الهم” المدنسة. تعارض لا يخلو من مفارقة، لأنه من المفترض أن النخبة تنتمي إلى الشعب وغير منفصلة عنه، فلا يستقيم بالتالي إقصائها من النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية، فضلا عن أنه تعارض غير ديمقراطي، لأن المنتخبين هم كذلك جزء من النخب.
تحتاج سياسات الهوية الى ثنائية تحكمها دائما، “نحن” و”هم” في اطار تضاد يمثل التناقض الذي يقود الى صراع غير عقلاني احيانا، في ظل احتراب بين الحق والباطل والخير والشر. ولعل شعارات مثل الحرية والخبز والكرامة التي ارتفعت في الشارع التونسي كانت تريد القول بأن من يوجد في هذه الميادين هو من يعبر عن تطلعات الشعب وليس السلطة، وحين أطيح بسلطة بن علي ارتفعت دعوات للترويج لفكرة العزل السياسي واستثناء المرتكبين أو اتباع النظام السابق من المواقع السياسية، وذلك تأسيسا على فكرة شعبوية أساسية هي النحن الظافرة والهم الخاسرة. وهي المسألة التي أقيمت على أساسها “فكرة العدالة الانتقالية” كما يشير إلى ذلك محمّد الخرّاط.
تتصف قوى الردة في تونس حسب الرئيس بكونها متآمرة وتهاب سيادة الشعب، ويتمثل دورهم في كونهم حاولوا إفشال الاستفتاء والاستشارة الوطنية كما يحاولون باستمرار يائسين خائبين التشكيك في كل شيء، حسب تعبيره. كما يحرص على التعويم من خلال اعتماد عبارات فضفاضة بدون معنى مثل عبارات من قبيل “لأسباب تعرفونها” و”لأسباب معلومة لدى الجميع”.
كما يندرج حرص الرئيس على مخاطبة الشعب باعتماد اللغة العربية الفصحى على تعمده مخاطبة الجانب الهوياتي المحافظ في علاقة بالشعب التونسي. حيث يشعر جزء غير هين من التونسيون بأنهم منبتون عن جذورهم العربية الاسلامية وفرض عليهم بشكل فوقي مسقط الارتباط بالنموذج الفرنكفوني الغربي من قبل النظام البورقيبي، والذي تواصل مع بن علي. كما أن أملهم خاب في الإسلاميين الممثلين في حركة النهضة بعد انتخابات المجلس التأسيسي، الذين غرقوا في خدمة مصالحهم الضيقة وأخذتهم شؤون الحكم وأهواء السلطة عن الايفاء بعهودهم في علاقة بإنشاء نموذج مجتمعي محافظ ومرتبط بشكل أكبر بالهوية العربية الاسلامية. حيث بنى قيس سعيد لنفسه صورة المثقف الوسطي المعتدل، الجامعي الذي يرتاد المساجد ولا يفرض على زوجته وبناته ارتداء الحجاب، أي أنه يقبل بهوية المجتمع المحافظة، المتدينة دون مغالاة الاسلاميين والسلفيين الذي طغوا على المشهد الديني في تونس بعد الثورة. حيث أيد مناصروه ودافعوا بشدة على موقفه الرافض لفكرة المساواة في الميراث واقتراحه استبدالها بفكرة العدل كما صيغت في المدونة الفقهية الاسلامية. ولم يتوقف قيس سعيد فقط عند حدود حملته الانتخابية، بل كرر حديثه عن رفضه القاطع لمسألة المساواة في الميراث في خطاب سابق له ألقاه يوم عيد المرأة التونسية بتاريخ 13 أوت من سنة 2020. حيث لم يكن الامر اعتباطيا، بل هو اشارة ذكية من قيس سعيد لجمهور ناخبيه بأنه لازال على العهد وفيا لكل وعوده الانتخابية وأفكاره ورؤيته المجتمعية، ولم تغيره شهوة السلطة كما غيرت الكثيرين ممن سبقوه. وفعلا حققت هذه الرسالة مبتغاها، حيث احتفى بها جمهور مناصريه من الهوياتيين المحافظين، بل وأربك الاسلاميين الذين أضحوا يتحسرون في منشوراتهم على مواقع وسائل التواصل الاجتماعي على مكتسبات المرأة التونسية وعلى مدنية الدولة التونسية وحداثتها البورقيبية.
كما تعمد الرئيس في هذا الخطاب التعرض لقضية العدالة الاجتماعية، وهي ملف حارق بالنسبة للتونسيين من خلال اللجوء لعبارة “العدل الاجتماعي”، في اشارة واضحة إلى ارتباط هذا المفهوم بالمخيال الاسلامي الذي يحيل إلى فترة الحكم الرشيد والخلفاء الراشدين في فترة الاسلام الاولى. كما أنه لم يقترح أي حلول واقعية أو إجراءات عملية سيقع العمل بها لحل هذه المعضلة. بل لجأ مرة أخرى إلى التعويم من خلال الحديث عن ضرورة العمل على إرساء مقاربة وطنية شاملة لإيجاد حلول جذرية لمشاكل الفقر في البلاد دون تحديد ذلك بآجال معينة أو خطوات ملموسة لتجاوز هذا المأزق.
يتوهم الرئيس قيس سعيد المؤامرة ويؤكد في كل فرصة تتاح له بأنه يقاومها بصلابة رغم أن كل المحيطين به يتآمرون عليه، حتى انه ذكر في إحدى خطاباته بأنه تعرض إلى أكثر من محاولة اغتيال، وذكر في هذا الخطاب كون جيوب الردة عمدت إلى تعريض الاستشارة الوطنية الالكترونية التي سبقت الاستفتاء لأكثر من 120 ألف هجوم إلكتروني.
تتصف السلطة القضائية حسب قيس سعيد بكونها سلطة مؤسَّسَة (أي تم تأسيسها) وبالتالي لا يجوز لها، حسب قوله، أن تراقب إرادة السلطة التأسيسية الأصلية وأن تصدر الاحكام والقرارات باسم الشعب كما أن مرجعية القضاة في تونس غير مشروعة باعتبارهم يستمدونها من الدستور الذي انتهى العمل به. يتمثل دورها حسب رؤيته في ان تكون مستعدة وفي الموعد لمعاضدة جهود الرئيس ومؤازرته لمحاربة من خربوا البلاد من مفسدين. لا “أن يقوموا بالزج بالمبلغ عن الفساد في السجن ويبقون على المفسد حرا طليقا”.
نستطيع أن نلاحظ كون قيس سعيد الذي يعتبر بأن حصول هذه التجاوزات، كأن يتم سجن المبلغ عن الفساد والإبقاء على الفاسد في حالة سراح. لا زال يعتبر بأنه لا ينتمي فعلا إلى السلطة رغم أنه يترأس أعلى هرم فيها منذ سنة 2019. ويتمتع بصلاحيات شبه مطلقة منذ 25 جويلية 2021 ويجمع كل السلطات بين يديه. ولكن المفارقة تكمن في كونه يعتبر اعتراضات المحكمة الادارية والاحكام الصادرة عنها بعدما أقرت توقيف تنفيذ قراره المتعلق بإعفاء عدد من القضاة، والنظر في طعون الاستفتاء ، تجاوزا لحدودها. حيث أنها حسب قوله تريد أن تلعب دورا مشبوها وأكبر من المسموح لها به، باعتبارها ترغب في أن تكون لها سلطة على الشعب صاحب السيادة. نستطيع أن نستشف من خلال هذا التعبير كون قيس سعيد يعتبر أن أي اعتراض على المسار السياسي الحالي هو اعتراض على ارادة الشعب التي ينفرد لوحده بتمثيلها. ولذلك تتلخص رؤيته لنفسه ولمشروعه في الجملة التالية التي رددها في خطابه “نحن اليوم نخوض ثورة في إطار شرعية مشروعة حتى النصر المبين”.
نلاحظ بأن قيس سعيد حريص في لعبة حكمه مع مختلف الفرقاء السياسيين في الساحة الوطنية على المحافظة على الرصيد الرمزي الذي كونه خلال حملته الانتخابية. حيث يعتقد مناصروه بأنه “إنسان نظيف” يعادي النخب الفاسدة، يقطن في حي شعبي، يملك بيتا بسيطا ويقود سيارة شعبية. كما أن صورة المترشح الزاهد الذي رفض الحصول على أموال من الدولة للقيام بمصاريف حملته الرئاسية وجاب البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها في سيارته الخاصة، وخاطب الناس في المقاهي الشعبية، ساهمت في تشكيل هذه الصورة التي ساعدته على هزم خصومه السياسيين أخلاقيا، بعد ان ارتبطت بهم شبهة الفساد والثراء المشبوه والسريع ونهب مقدرات الشعب.
عملت شعبوية قيس سعيد بشكل نسقي على لعبة إعادة البناء الرمزي لفكرة القائد المخلص من خلال استدعاء صورة الزعيم الأوحد الذي يجمع بين يديه كل السلطات، في استدعاء واضح للنموذج الابوي الذي أرساه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، الذي يعلم ما يصلح بالتونسيين أكثر منهم وليس عليهم ليصلوا إلى بر الأمان سوى طاعته والامتثال لمشروعه السياسي من خلال منحه السلطة المطلقة لإدارة الدولة بالطريقة التي يعتقد أنها الأنسب لنا. فطالما عبر التونسيون عن حنينهم إلى نموذج الأب الحنون القاسي، الذي يحمل عن أبنائه عبئ التفكير في المستقبل ويوفر لهم ما يحتاجونه من أمن ورعاية وغذاء وخدمات أساسية في مقابل أن يسلموا له كل أمورهم، فيجازيهم عندما ينجحون ويعاقبهم عندما يخطؤون. لذلك يردد التونسيون بحسرة دوما كونهم يحنون إلى زمن “الزعيم” بورقيبة.
لذلك يحرص مناصروه على صفحات التواصل الاجتماعي وفي الشوارع على بث أفكار تنزه الرئيس عن الخطأ وتعتبر بأنه لا يسعى إلا إلى كل ما فيه خير إلى التونسيين، غير أن المكائد والدسائس التي تحوكها له جيوب الردة هي من تحول دون تحقيق نجاحات ومكتسبات حقيقية في فترة حكمه.
من الجدير بالذكر أن التونسيين يعانون من صعوبات اقتصادية خانقة منذ أشهر عديدة، حيث يعانون بين الحين والحين من انقطاع ظرفي لبعض المواد الأساسية والخدمات الحيوية، كما أن أشعار المواد الاستهلاكية من غذاء ودواء ولباس عرفت ارتفاعا جنونيا في المدة الاخيرة. يشير الرئيس قيس سعيد باستمرار الى أن قوى الردة تعمد إلى احتكار المواد الاساسية حتى تفتقد من السوق التونسية، لتأجيج غضب التونسيين ضده وتحميله مسؤولية تدهور مستوى معيشتهم.
الخاتمة
يقر أغلب الباحثين في العلوم السياسية بأن الشعبوية هي نتاج لمناخات الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها الانظمة الديمقراطية. ونستطيع أن نتجلى هذا في الحالة التونسية، حيث تصدر التيار الشعبوي الهوياتي، ممثلا في مشروع الرئيس قيس سعيد، الذي ينتمي إلى الشعبوية اليمينية، المشهد التونسي وسيطر على دواليب الحكم فيه وأقصى بقية الفاعلين السياسيين من المشهد. حيث نلاحظ ارتباك بقية مكونات المشهد السياسي التونسي المكون من أحزاب سياسية ومنظمات وطنية ومجتمع مدني، فحتى الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يجمع التونسيون أنه لا يمكن ضمان استقرار المشهد السياسي في البلاد دون ضمان هدوئه ورضاه، تم تحييده وأصبح غير قادر على لعب نفس الدور الذي كان يقوم به سابقا. إذا فالصعود المفاجئ والمربك للتيار الشعبوي في تونس إلى سدة الحكم هو نتاج لفشل مسار الانتقال الديمقراطي طيلة العشرية الفارطة، التي أصبح يصطلح التونسيون على تسميتها ب”العشرية السوداء”، في إحالة إلى ما تعرضت إليه الجارة الجزائرية من إنهاك للدولة والشعب بسبب ويلات عشريتها السوداء.
يعتبر مفهوم الشعب في خطاب قيس سعيد الذي قمنا بتحليله مفهوما ملتبسا فهو في نفس الآن الحاكم صاحب الشرعية والمحكوم الذي يخضع لأحكام السلطة التي تحكمه. ونعتقد بأنه يتعمد أن يحافظ على هذا الالتباس حتى يغذي في صفوف منتخبيه نرجسيتهم باعتبارهم أصحاب السلطة التي لا يقوم هو سوى بتمثيلها وتجسيدها. كما أن تركيزه على مفهوم الاخلاق يرتبط كذلك ارتباطا وثيقا بالشعبوية اليمينية التي تحرص على دغدغة الجانب الهوياتي المحافظ عند جموع ناخبيه، الذين يعتقدون بأن قيس سعيد هو الممثل الصادق لنموذج الفرد التونسي المستقيم والمتدين المعتدل المعتز بانتمائه إلى المحيط العربي الاسلامي.
يعتقد فريديريك تاراغوني بأنه على عكس الفكرة السائدة التي تصور الشعبوية على أنها عدو حميمي للديمقراطية، وكونها مظهر من مظاهر الأزمة في الوضع السياسي في الدول التي برزت فيها، بل هنالك من يذهب إلى اعتبارها دليلا على خلل النموذج الديمقراطي التمثيلي. يعتقد هذا الأخير بأن الديمقراطية تظل دائما مسارا غير مكتمل وهذا ما يجعل الشعبوية مكون أساسي من مكونات الديمقراطية ومنتج من منتجاتها وليس مجرد وباء خارجي يتهددها.
أهمّ المراجع
- Belhedi Amor, « Le développement régional et local en Tunisie Défis et enjeux », p. 3, Texte présenté dans le colloque de LESOR (IRA), Colloque international « Développement socioéconomique et dynamique des sociétés rurales. Pluralité d’acteurs, gestion des ressources et développement Territorial » LESOR, IRA, Zarzis 3-5 mai 2016. Texte paru dans la Revue des Régions Arides, IRA, n° 24 (1/2018), pp.253-264.
- Mineau André, « Aux origines des populismes : les fondements historiques d’un concept », Revue Tunisienne de science politique, Numéro 4, Sem 2, 2020, Spécial populisme, p. 7.
- Redissi Hamadi, « Les populismes en Tunisie : essai de compréhension »,in(Dir) Redissi Hamadi, Chekir Hafedh, Elleuch Mahdi, Khalfaoui Sahbi, La tentation populiste, les élections de 2019 en Tunisie, Cères Editions, L’observatoire tunisien de la transition démocratique,2020, p. 28.
- Tarragoni Federico, L’esprit démocratique du populisme : une nouvelle analyse sociologique, Coll : l’horizon des possibles, Paris, La Découverte, 2019
- الخراط محمد بن محمد، ”الشعبوية…غزارة الاستعمال وندرة الضبط“، مجلة يتفكرون، العدد 13، 2018.
- شعبان عبد الحسين، “الشعبوية والديمقراطية“، مجلة يتفكرون، العدد 13، 2018
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 26، ماي 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf26