جسد تحت المجهر: الاستعمالات التجارية للجسد الأنثوي

بقلم: عبير الكوكي

 

“إن الجسد هو محور وجودنا وصناعتنا وادائنا في العالم وهو ما نلصق عليه تصوراتنا والعادات”

جوديث باتلر

 

تعترضنا لوحات إعلانية عديدة تباغتنا وتتربص بنا نشاهدها على التلفاز وفي الواجهات وفي وسائل التواصل الاجتماعي بالتالي أصبح من الضروري البحث في مكونات هذه المادة الاشهارية التي تجعل من الجسد محورا لها، وقراءة أبعادها واستراتيجياتها، ومحاولة تفكيك رمزياتها وعناصرها.

إن الجسد الذي صنعه السياق الاجتماعي والثقافي الذي يخوض فيه الفاعل الإنسان، ما هو إلا ذاك الجانب الدلالي الذي من خلاله نتواصل مع العالم الخارجي بالتفاعل مع الاخر والإدراك الحسي والفكري والتعبير عن المشاعر، والذي يتجلى في الحركات والايماءات وفي الصورة الخارجية عموما[1]، فالجسد هو ما نصدر به صورنا للعالم الخارجي وهو ما نلصق عليه أفكارنا ومعتقداتنا وهو أيضا ما يمكّننا من فهم تمثّلاتنا للأشياء حسب ايميل دوركايم فإن الجسد هو الذي يحدد الاختلاف، فللتمييز بين شخص واخر ينبغي وجود عامل تفرّد والجسد هو الذي يلعب هذا الدور[2] .

لقد ساهمت العولمة في بروز متخيل جديد للجسد، يكون بموجبه هذا الأخير أكثر جاذبية وجمالا: جمال دائم وجاذبية لامتناهية سعيا منّا لخلق صورة مثالية عن أجسادنا تكون صالحة للترويج وللربح، هذا إذا ما قررنا دخول السوق التجارية التي يتحول فيها الجسد إلى شيء أو إلى مادة ثمينة ونادرة نعرضها في الواجهات، وبما أن الصورة هي تمثيل رمزي تتنوع وظيفتها بحسب تنوع الأهداف المنشودة منها سياسية كانت أو تجارية أو ثقافية أو دينية [3].

    فالجسد يمكن أن يكون صورة مرئية أو رمزية، تحمل تمثّلات وتقدم في سوق العرض لذلك فإن الصورة الإشهارية الإعلانية تسعى بما أوتيت من آليات وتقنيات، إلى شد المتفرج وإثارته وتوجيه إحساسه وتكييف سلوكه الاجتماعي وهذا لارتباطها بأغراض اقتصادية تجارية واضحة. وهنا على وجه الخصوص يبرز الجسد الأنثوي كأداة تستعمل “للإثارة “في استخدامات تجارية من شأنها تكريس الصورة النمطية للمرأة فوسائل الإعلام الجماهيري غالبا ما تدعم الموروثات الثقافية السائدة من ذلك التركيز على جمال الجسد الأنثوي واستغلاله للترويج لمنتج ما وبالتالي فإن الدلالة التي يكتسبها الجسد في هذا الإطار هي دلالة تجارية تتيح له الاندماج داخل منظومة العرض والطلب.

     هذه النزعة التجارية التي أَضحى عليها العالم والتي تسعى إلى سلعنة كل شيء، لا تستثني الجسد كعنصر لا يمكن الاستغناء عنه في استمالة الاخر أو التأثير عليه، وربما هذا ما يبرر حضور الجسد الأنثوي في الفضاءات الإعلانية  كمادة إشهارية، فالاستثمار في الجمال  والتأثير على استثارة الغرائز في مجتمع مازال يحاول أن يلتحق بالحداثة يمكن أن يبيع أكثر أو أن يحقق ربحا سريعا، أكثر مما قد يحققها حضور جسد الرجل فالخصائص المعنوية والبدنية التي يتمتع بها كل من الرجل والمرأة ليست مرتبطة بأوصاف جسدية بقدر ماهي مرتبطة بالدلالات الاجتماعية التي تمنحها من خلال المعايير التي تقتضيها السلوكيات [4] ، ومادام الجسد هو ذاك المكان المفضل لإبراز حسن المنظر والمظهر من خلال البنية الجسدية والشباب الدائم أو المحافظ عليه (التجميل ، الحمية) فإنه أصبح موضوع اهتمام دائم والهدف هو إرضاء الطابع الاجتماعي المبني على الإغراء أو نظرة الاخر. [5]

إذن يمكن أن تصبح المظاهر الجسدية نوعا من رأس المال عند الفاعلين الاجتماعيين: “رأس مال المظهر” الذي يتوجب تدبيره إلى الأحسن من أجل مردودية حسنة. [6]

   وهذا ما يسعى الإشهار إلى الاستثمار فيه من خلال إبراز الأنوثة الأبدية، فهو يغذي التمثلات التقليدية الموروثة عن الجسد الأنثوي في المجتمع الذكوري، التي تحصر المرأة في أدوارها التقليدية (التي لا تتجاوز كونها مصدر المتعة …) ويقصيها من دائرة الفعل والإنتاج والخلق والإبداع، إن الهدف الترويجي للمنتوج يتطلب استراتيجية محكمة في مجال الاستقطاب، وهذا ما قد يدفع أصحاب الإعلانات إلى توظيف صورة المرأة بشكل يناسب نظرة الرجل إليها خصوصا أننا في مجتمع مازال سائرا نحو التقدم أو لم تكتمل حداثته بعد بالتالي تختصر صورة المرأة في جسدها “كسلعة ثقافية” أو “كوسيلة لصنع اللذة” خصوصا أن “الثقافة الجماهيرية” السائدة  تروّج إلى تنميط الأذواق من أجل استقطاب الجماهير وهنا يصبح التعريف الأكثر دلالة للجسد هو حسب ما عرفه  بورديو “تشيئ لذوق الطبقة دون أدنى شك[7]”.  وفي سياق الاختلاف الجنسي الذي يتم توظيفه في الاشهار، عبّر غوفمان عما أسماها “الطقسنة” المفرطة للقوالب النمطية المرتبطة بالأنوثة في علاقتها مع الرجل حيث بيّن أن أغلب الوصلات الإشهارية تضع في المشهد رجالا ونساء مستحضرة علانية الانقسام والتراتبية التقليدية للجنسين حيث تظهر المرأة غالبا في وضعية تابعة أو مؤازرة وقد أبرز غوفمان أن التصوير الإشهاري يمثل طقسنة للمثاليات الاجتماعية، حيث أن كل ما من شأنه أن يمنع التمظهر المثالي يتم حذفه[8] .

إننا إزاء ما يسميه زيجمونت باومان “الحداثة السائلة”، هذه الحداثة التي يتحول فيها الفرد إلى جزء من نظام تجاري، حيث كل شيء سائل وقابل للسيولة ومن هذا المنطلق عوضت بلاغة الجسد بلاغة الروح تحت تأثير ثقافة الاستهلاك فهنا يفرض أمر “المتعة “على الفاعل ممارسات استهلاكية تهدف إلى تعميم نزعة اللذة[9]. إن الهيمنة التجارية التي يفرضها النظام الرأسمالي العالمي تلغي الخصوصية، خصوصية كل فرد -كل جسد -، هذا النظام يسعى جاهدا إلى تنميط الأذواق وتعليبها و إلى خلق معايير لا يجب الحياد عنها وقوالب جاهزة على كل الأفراد الانصهار داخلها فهي تفرض سيطرتها المعنوية والمادية على الاستعمالات الاجتماعية للجسد وهو ما يقود الفاعلين الاجتماعيين إلى الانسياق نحو نزعة إثبات أجسادهم بشتّى الطرق أو إلى نكرانها.

 

الهوامش

[1]دافيد لوبرتون، سوسيولوجيا الجسد، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014، ص 17

[2] نفس المصدر، ص32

[3] انظر: عقيلة نصر، صورة المرأة في الإشهار التجاري بالفضائية تونس 7، رسالة ماجستير، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، 2007-2008.

[4] دافيد لوبرتون، مرجع سابق، ص133

[5]نفس المصدر، ،ص50

[6]نفسه، ص 149

[7]نفسه، ص156

[8]نفسه، ص133

[9]نفسه، ص160

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 17، جويلية 2022، ص. ص. 6-7.

 للاطلاع على كامل العدد:  http://hourouf17.tounesaf.org

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights