كيف يتكوّن الدّين؟ قراءة في كتاب ألفرد نورث هوايتهد

 

بقلم: فهمي رمضاني

بدأ الاهتمام بتاريخ الأديان بطريقة علمية منذ عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر وذلك في إطار نقد سلطة الكنيسة وإعادة قراءة التراث الروماني-الإغريقي، بيد أنه لم يتطور إلى علم إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد ماكس مولر  الذي كتب أول كتاب عن علم الأديان.

ولئن حظي هذا الاختصاص باهتمام لافت من لدن الجامعات الغربية التي عملت على تطوير مناهجه والارتقاء به من خلال  إنشاء مراكز بحث مُتعددّة، فإن الجامعات العربية لم تنتبه بعد إلى أهمية هذا المبحث بعد مضي أكثر من قرن ونصف على تأسيسه فهو مهمل نتيجة وجود إرادة متعمدّة ترفض إدخال علم الأديان كعلم منضبط بمناهج بحث مثل بقية العلوم الإنسانية الأخرى.

ولا ريب أن ما تشهده الدول العربية حاليا  من أزمات دينية دورية يكشف عن فشل محاولات التحديث الديني التي لم تهتم بالمسألة الدينية في رحاب الجامعات الأمر الذي منع تشكّل فكر مستنير متصالح مع الحداثة ومتسلح بملكة النقد ومُلم إلماما جيدا بتاريخ الأديان، فيكون بذلك  قادرا على مواجهة الأسئلة التي ما انفكت تثيرها الظاهرة الدينية اليوم في ظل تصاعد العنف الديني والتوجهات الأصولية.

في هذا الإطار ازداد الاهتمام العربي نسبيا في السنوات الأخيرة بتاريخ الأديان ويظهر ذلك من خلال العمل على ترجمة أهم ما تم تأليفه في هذا المجال من لدن المفكرين الغربيين. في هذا السياق صدرت سنة 2017 عن دار جداول  ترجمة لكتاب كيف يتكون الدين –الذي ألفه الفيلسوف الإنجليزي ألفرد نورث هوايتهد سنة 1927  -من قبل المفكر اللبناني رضوان السيد.

ولد هوايتهد في 15 فيفري 1861 وتوفي في 30 ديسمبر 1947 وهو فيلسوف وعالم رياضيات إنجليزي كتب في اختصاصات متنوعة علمية وفكرية كالرياضيات  والمنطق والفيزياء كما اهتم بفلسفة العلم والميتافيزيقيا.

 يعد هذا الكتاب “كيف يتكون الديّن” من أهم ما كتب هوايتهد، فقد طرح من خلاله تساؤلات عميقة من قبيل كيف يتطور الدّين عبر التاريخ؟ من أين ومتى بدأ الوعي البشري بفكرة الإله؟ ماهو مفهوم الرّوح في الدّين؟ هل يمكن للدين أن يكون مصدرا للتقدّم؟ وهل هناك مستقبل للأديان في ظل العلمنة القوية التي تعيشها المجتمعات المعاصرة؟

يحتوي الكتاب أربع محاضرات عن الدين وهي محاضرات ألقاها المُؤلّف في فيفري 1926 ببوسطن وقد كان هدف هذه المحاضرات حسب ما يذكر هوايتهد “عرض وتحليل العوامل المُتعدّدة والمُؤثّرة في الطبيعة الإنسانية وهي نفس العوامل التي تعمل معا وتفعل في تكوين الدين”.

يُفتتح الكتاب بالمحاضرة الأولى التي جاءت تحت عنوان “الدّين في التاريخ” حيث انطلق المؤلف من تساؤل يروم  إيجاد تعريف للدّين موضحا في ذلك غياب اتفاق واضح على تعريفه، فعلى الرغم من تعدد الدراسات التي تناولت المسألة الدينية والأديان عموما إلا أننا لا نكاد نعثر على تعريف واضح متفق عليه من قبل الجميع، فكأن هذا المصطلح يأبى أن يكون سهلا وواضحا، لذلك يكتفي هوايتهد بالقول بأنه يمكننا اعتبار الديّن “واقعة حاضرة وقائمة في كل مكان على مدى التاريخ الإنساني”.

يعود المؤلف فيما بعد إلى نقد بعض الأفكار التي يرى أنها غير مقبولة كالبحث عن الحقيقة في الأديان أو التأكيد على أن هذا الدّين حقيقي والآخر باطل، لذلك نراه يسلّم بحقيقتين فقط: الأولى تعتبر أن خصوصية الدّين تتجلى في أنّ موقف الإنسان منه دائم التغير والتحوّل، أما الفكرة الثانية فتتمثل في كون الدّين يعني التوحّد والانفراد والذي لا يمرّ بالوحدة فإنه لن يكون مُتدينا. فالمشروعات الدينية الكبرى على حد تعبيره هي تمظهرات لهذه الذاتية المنفردة، فبرومثيوس أو محمد أو بوذا أو المسيح هم كلهم ذوات عاشت عمق الروح الديني وعمق الإحساس بالوحدة.

ينتقل الفيلسوف فيما بعد إلى الحديث عن تاريخ ظهور الديّن، إذ يعتقد أن الدّين قد ارتبط بظهور أولى التجمعات الإنسانية والقبلية حيث أخذت تلعب الشعائر والأساطير أدوارا جامعة ومُوحّدة للأفراد، لتتحول فيما بعد إلى طقوس وممارسات مُقدّسة تحتاج إليها الجماعات لتضفي معنى على وجودها. وفي رأيه، فإن الشعائر والطقوس تعود إلى المراحل المبكرة من حياة البشرية فهي أصل الدين وقد يحدث خلط في المراحل الأولى بين الدين والأساطير لكن سرعان ما يختفي لأن التطور الإنساني يسير نحو العقلنة. وتعتبر الشعائر تلك الأفعال التي ليست لها أهمية في الوجود الإنساني لكنها تشعره بالراحة والسرور فأصبح بذلك أداؤها مستحبا.

 

ويتمظهر الدّين في التاريخ الإنساني حسب هوايتهد من خلال أربعة أبعاد وهي الشعائر والمشاعر والإيمان والعقلنة، بيد أن هذه الأبعاد والتمظهرات لا تمارس التأثير نفسه في كل الأزمنة والتجارب التاريخية.

يتطرق الفيلسوف في المحاضرات المتبقية إلى إشكاليات متنوعة، حيث اهتم  في البداية بجدلية الدّين والميتافيزيقا،  فقد اعتبر أن العلم بإمكانه الاستغناء عن الميتافيزيقا في حين أن الدّين لا يستطيع ذلك لأنه على حد تعبيره يمثل “الرّغبة العميقة للرّوح لمعانقة الأبدي واللامحسوس”. أما الإله فهو ليس العالم كما نظّرت لذلك الرواية الشرق آسيوية لكنه “معنى العالم”. هنا يمكن أن نستنتج  أن هوايتهد  رجل الفيزياء والرياضيات متأثّر بالبوذية التي تؤكد على ضرورة تماهي الذات مع الكون والابتعاد عن الشهوات وتركها والدّعوة إلى الخير.

يتعرض المؤلف كذلك إلى قضية مهمة تتمثل في تراجع الأديان والروحانيات أمام الصعود المتواصل للعلمنة والعقلنة الأمر الذي جعل الدين يتوقف عن كونه مصدرا للتقدم، إذ حلّ مكانه العلم منذ عصر الثورة الصناعية، لذلك يعتقد هوايتهد أن الإنسان الحديث سيعيش أزمات نفسية حادة ناتجة عن فقدانه للبعد الروحي. فهل بإمكان الفن مثلا أن يعوض الدّين ويخلق التوازن الروحي عند الإنسان؟

و في خاتمة الكتاب يشير المؤلف إلى إمكانية أن يكون الدّين مصدرا للتقدم وسمو الذات الإنسانية حينما يتحول إلى فكرة قابلة للنقد ولا يكون إيمانا غير معقلن، وهو ما حصل في أوروبا إثر حركات الإصلاح الديني حيث قاد الأوروبيّون التطوّر الديني باتجاه الدين العقلاني. يقول هوايتهد في هذا الإطار ” إن الدين العقلاني هو الذي تنتظم عقائده وشعائره والتي جرت إعادة ترتيبها بهدف أن تتحول إلى عنصر أساس في نظام الحياة وهو نظام حياة يتمتع بالفكر المستنير وبالتركيز على السلوك من أجل غاية عليا تقتضي مصيرا أخلاقيا وتظل متناسقة العناصر” 

عموما فقد أبان الكتاب عن أهمية المنهج المُتّبع من قبل  هوايتهد والذي يعتمد على التوازي والتداخل بين التطور الدّيني والتطور الإنساني من أجل فهم جذور تكوّن الدّين ومسار تطّوره،  بيد أن ذلك لا يمنعنا من الإشارة إلى بعض النقاط النقدية التي نراها مهمة: فلئن تميز المنهج بالدقة والوضوح، فإن التحليل الذي قدّمه المُؤلف لبعض الأفكار كان أقرب إلى الميتافيزيقا والخيال منه إلى الواقع حيث لاحظنا غياب الربط بين التمثّلات الدينية والواقع المعيش والمادي.

أما ثانيا فلئن اهتم هوايتهد بدراسة تاريخ المسيحية والبوذية فإنه أهمل الاستناد إلى المنهج المقارن حيث لم نجد ذكرا لليهودية أو للإسلام الأمر الذي يجعل العمل تسيطر عليه النظرة الأحادية الضيّقة التي لا تبتعد كثيرا عن سرديات المركزية الأوروبية.

أما أخيرا فإن دراسة المؤلف للدين والأسطورة لم تخل من تقصير منهجي في بعض الجوانب حيث تجاهل العلاقة التي تربط بين هذين المكونين منذ بداية التاريخ ليكتفي فقط بتحليل التطورات التي ميزت الأديان والأساطير مند فجر التاريخ.

نشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد السادس، أوت 2021، ص ص. 6-7.

لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf6

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights