هل يكفي مفهوم الشورى في الإسلام لتأسيس الديمقراطيّة؟
|في مواجهة بعض الجماعات الّتي ترى أنّ الديمقراطيّة بدعة غربيّة غريبة عن مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة وعن موروثنا الديني، يحاول بعض المفكّرين الاستناد إلى مفهوم الشورى في الإسلام لإثبات عدم تناقض الإسلام مع الديمقراطيّة (ومن آخر ما استمعت إليه في هذا الصدد محاضرة الأستاذ فرج معتوق في الأسبوع الماضي في منظمّة ألتايير). وعادة ما يقع الارتكاز في هذا الصدد إلى الآيتين الكريمتين “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” (سورة الشورى:38) و “فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ” (آل عمران: 159) وإلى السنّة النبويّة (خاصة استشارة النبيّ صلى الله عليه وسلّم في غزوة بدر وفي الخروج لغزوة أحد) وكذلك إلى حادثة السقيفة وطريقة اختيار الخلفاء الراشدين. هذه المحاولات قد تكون حسنة النيّة، لكنّها ليست أكثر من قراءة انتقائيّة ومنقوصة للموروث الديني ينقصها التماسك، وذلك لعدّة وجوه:
أوّلا- المشاورة، من الناحية اللغوية، لا تفيد أكثر من طلب الرأي. وطلب الرأي، لو أسقطناه على الأنظمة السياسيّة المعاصرة، لما كان يزيد عن الاستفتاء، الّذي لا يمثّل إلا تقنية واحدة من تقنيات الديمقراطيّة لا تعمل بها حتّى بعض البلدان العريقة في الديمقراطيّة. فضلا عن ذلك، فمفهوم الشورى في النصوص لا يحدّد من يُطلب أخذ رأيهم، ولا إلزاميّة هذا الرأي.
ثانيا- تُقرأ الحوادث التاريخيّة الّتي يقع الاستناد إليها عادة بشكل مبتور. فحادثة سقيفة بني ساعدة غاب عنها جميع المهاجرين (باستثناء أبي بكر وعمر وأبي عبيدة) ولم يقع الاتّفاق على أبي بكر إلا بعد أن بادر عمر وبايعه، دون مشورة أحد، ممّا دفع أغلب الحضور لمسايرته، وهو من هو (ولذلك يرى بعض الفقهاء أنّ الخلافة تنعقد ببيعة الواحد !) وعمر نفسه كان يقول “إنما كانت بيعةأبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها” كما أنّ العامل القبلي كان مؤثّرا بشكل واضح ولم تكن بيعة أبي بكر محلّ إجماع (رفض سعد بن عبادة البيعة، واعتزل بعيدا، وامتنع عليّ بن أبي طالب عن البيعة ستّة أشهر…) وكانت بيعة عمر بوصيّة من أبي بكر، بل أنّ كلّ الصحابة الحاضرين (باستثناء عليّ) كانوا موافقين مسبّقا على رأي أبي بكر في من يخلفه دون معرفة شخص الخليفة، أمّا بيعة عثمان، فلئن كانت عن تشاور بين ستّة من الصحابة، فإنّ اختيار هؤلاء الستّة كان بقرار أحاديّ من عمر. وأمّا بيعة علي، فإنّ اقتصارها على من حضر مقتل عثمان دون باقي الأمصار كانت من الأسباب المؤدّية إلى حرب أهليّة ما زلنا نعيش آثارها بعد أربعة عشر قرنا (وخاصة التقسيم سنّة/شيعة).
ثالثا- من الأكيد أنّ الشورى كـقيمة موجودة في التراث الديني كما يدلّ على ذلك نصّا القرآن والسنّة. لكنّ الشورى لم تتحوّل حتّى العصر الحديث إلى مؤسّسة واضحة المعالم تتحدّد من خلالها كيفيّة أخذ الرأي، ومن يؤخذ برأيهم، وإلزاميّة هذا الرأي. وغياب الطابع المؤسساتي عن الشورى جعل اللجوء إليها رهنا لإرادة الحاكم، وتبعا للظروف السياسيّة. والدّليل على غياب هذا الطابع المؤسساتي اختلاف طريقة البيعة من خليفة لآخر، وانقلاب الخلافة إلى ملك عضوض يُتداول بالوراثة بعد فترة قصيرة من وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
رابعا- يُغفل الاستناد إلى الشورى مسألة الحاكميّة، فإذا كان تعريف الديمقراطيّة (المبسّط) يجعل منها النظام السياسي الّذي يكون فيه الحكم للشعب، فإنّنا نجد هذا التعريف يصطدم مع الفكرة القائلة أنّ الحكم لا يمكن أن يكون إلا للّه، وهذه الفكرة هي جوهر الاعتراضات على الديمقراطيّة في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة. فالتناقض الممكن بين الحاكميّتين لم يجد إلى الآن إلا حلولا تلفيقيّة في معظمها، لا سيّما إذا تمسّكنا بالمنظومة الأصوليّة التقليديّة (كما أسّسها الإمام الشافعي) الّتي تجعل فتوى الفقيه تتمتّع بنوع من الحصانة المطلقة (لأنّها، بالاستناد إلى نفس المنظومة، لا يمكن إن تكون إلا ناطقة بما في كتاب الله).
فالاستناد إلى النصوص الدينيّة يمكن أن يبرّر الشيء ونقيضه. وإذا كانت المنظومة الأصوليّة التقليديّة عاشت لعدّة قرون، فذلك راجع لأنّها “منظومة” تترابط عناصرها وتتكامل بشكل يجعلها متماسكة. وتجاوزها لا يكون بانتقاء مفاهيم منها وإسقاطها عليها، بل ببناء منظومة أخرى لها نفس التماسك…على الأقلّ !