على هامش حوار راشد الغنوشي مع نائلة السليني: قراءة في خطاب حركة النهضة
| من الاتهامات التي توجّه بشكل متواتر إلى حركة النهضة ما يقال عن خطابها المزدوج. يرى البعض أنها تضمر غير ما تظهر وأنّها ،حتى إن إدّعت التزامها بالديمقراطية، ستنقلب عليها متى وصلت إلى الحكم. جلّ هذه الاتهامات لا تقوم على دليل. هي مجرّد مخاوف وافتراضات لا أساس محسوس لها، وهي تدخل بالتالي في باب محاسبة النوايا، وتكاد تكون رجما بالغيب ! غير أنّ بعض ما يصرّح به مسؤولو الحركة، لا ما يبطنونه، قد يثير بعض الارتياب في تمسّك الحركة بقيم الحريّة والمساواة. هذا ما لاحظته في الحوار الذي نظمه نادي “بلا حزب، من أجل الوطن” يوم السبت 16 أفريل في قاعة الحمراء بالعاصمة بين راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، والأستاذة نائلة السليني.
لمّا سئل الغنوشي عن العبارات شديدة العموميّة التّي صيغ بها النظام الأساسي للحركة، والّتي يمكن أن تنطبق على أي اتجاه سياسي آخر، ليبراليا كان أو اشتراكيا أو غيره، وعن غياب الإشارة إلى الإسلام إلا نادرا، أجاب بما معناه أنّ هذا النظام الأساسي وضع فقط للاستجابة لقانون الأحزاب الجاري به العمل، وأنّ أنّ ما سيعبّر عن توجهات الحركة هو برنامجها، لا نظامها الأساسي. بمثل هذا المنطق، يمكن لأكثر الحركات تطرّفا وعنفا أن تتحصل على تأشيرة بما أنّ منحها يرتبط بما هو مدوّن في النظام الأساسي، ولا يدخل “البرنامج” في الاعتبار. النظام الأساسي يجب أن يعبّر عن توجهات الحزب في خطوطها العريضة و أن يأتي ما أسماه السيد الغنوشي “البرنامج”(الذي أخمّن أنّه ذو بعد ظرفي) ليترجم هذه التوجهات في فترة معيّنة. أما الحديث عن نظام أساسي مطاط يوضع فقط للاستجابة لقانون الأحزاب فكأنّه تصريح أنّ احترام القانون يدخل في باب الشكليات الّتي لا معنى لها، وأنّ حركته لا تنوي لها الحقّ في أن تتوجّه كيفما شاءت بغض النظر عن مثل هذه الشكليات !
ولمّا سئل الغنوشي عن رأيه فيما صرّح به بعض قيادات الحركة من أنّ النهضويين ينزلون الأئمة من على المنابر (المنصف بن سالم) وأنّ المحافظة على ما ورد في مجلة الأحوال الشخصية ليس موقف الأغلبية في الحركة (الحبيب اللوز)، أجاب أنّ هذه المواقف، إنّ صحّ صدورها عن هؤلاء الأشخاص، لا تعبّر عن الموقف الرسمي للحركة، بل فقط عن موقف أصحابها. وهنا يطرح السؤال: إذا لم يعبّر ما ينطق به قيادات الحركة عن موقفها، وإذا كان نظامها الأساسي لا يعبّر عن توجهاتها، فأين يمكن أن نجد فكر النهضة؟؟ أليس هذا تهرّبا من التصريح بالاتجاهات الفعليّة للحركة؟ ألا يشبه هذا الموقف مبدأ التقيّة المعمول به خصوصا في المذهب الشيعي؟
لنتجاوز هذه النقاط الشكليّة. من ناحية المضمون، لعلّ أخطر ما ورد في الحوار هو الموقف من الفرد. اعتبر “الشيخ” أنّ فكرة قيام المجتمع على الفرد فكرة غربيّة غريبة عن مجتمعنا، و أنّ الإسلام لا يكرّس الفرد كأساس للمجتمع، بل العائلة. إنّ إنكار قيام المجتمع على أفراد، وتهميش الفرد لصالح بنى أعلى (العائلة، الطبقة، الوطن، الأمّة…) هو من خصائص كل نظام شمولي. تبرير قمع الأفراد والتنكيل بهم في ظل هذه الأنظمة يكون دائما بذريعة الحفاظ على ما هو أهمّ من الفرد. لو وقف السيّد الغنوشي عند المطالبة بردّ الإعتبار إلى قيمة العائلة والدعوة إلى ترسيخها في نفوس الأفراد، لما وجدت مأخذا عليه، إذ انّه يكون حينذاك مقرّا بمكانة الفرد وقناعاته الشخصية وداعيا إياه إلى تبنّي قيمة العائلة ضمن هذه القناعات. لكنّ الغنوشي لم يقل هذا، بل رفض فكرة قيام المجتمع على أفراد. بذلك، ستكون العائلة، ربما كما كانت لقرون، أوّل مستويات القمع: وحدة العائلة أهمّ من كيان الفرد، وبالتالي يجوز قمع الفرد كلما “زاغ” عمّا تحدّده العائلة. من المثير للإهتمام أنّه لمّا سئل راشد الغنوشي، أثناء النقاش، عن الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان الّتي يكون الفرد محورا لها (والحقوق الفردية سابقة في ظهورها للحقوق السياسية والاجتماعيّة والاقتصادية) وعن موقف الحركة منها وهل ستقبل بالمصادقة عليها أم لا، لم يجب، وربّما كان هذا السؤال الوحيد الذي لم يجب عليه. قد يكون ذلك مجرّد سهو، لكنّه قد لا يكون كذلك !
وفيما يخصّ المسألة التقليديّة التي تثار ضد الإسلاميين، قضيّة المرأة، صرّح “الشيخ” أنّ المرأة مساوية للرجل في الحقوق والحريات، وذلك ما جاء به الإسلام. تصريح يدعو إلى الاطمئنان ويبدو مكذّبا لمزاعم انتقاص الإسلاميين من قيمة المرأة. ولكنّ تأويل الغنوشي لهذه المساواة يجعلنا نتساءل عن معناها. فمع إقراره بهذه المساواة، يرى الغنوشي أنّ دور المرأة الأساسي هو تربية النشء، و هذا الدور يجب أن يغلّب على وظيفتها الاقتصاديّة وبالتالي، عندما تنجب المرأة، يجب عليها التفرّغ لأداء وظيفتها الأساسيّة، لا يهمّ إن كان ذلك لعامين أو ثلاثة أو أربعة، وعلى الدولة أن تتكفّل بالانفاق عليها خلال تلك الفترة. ويبدو أنّ السيد الغنوشي يرجع سبب إسناد هذه الوظيفة إلى المرأة لأسباب بيولوجيّة (لأنّ المرأة هي التي تحمل و ترضع). حصر (أو شبهه) لوظيفة المرأة في التربية نظرا لطبيعتها من جهة وإقرار بالمساواة بينها وبين الرجل من جهة أخرى ! هذا ما يسمّى: سفسطة. ويتأكّد هذا الطابع السفسطائي من خلال طرح قضيّة المساواة في الإرث. اعتبر الغنوشي أنّ النظام الحالي للإرث لا يكرّس اللامساواة نظرا لأنّ الحالات التي ترث فيها المرأة أكثر من الرجل تفوق الحالات التي ترث فيها أقل منه، بل توجد حالات ترث فيها المرأة ولا يرث فيها الرجل. هنا يستعمل الغنوشي معيار العدد لينفي نظريا اللامساواة. ولكن في الواقع، ماهي نسبة الحالات المذكورة من حالات الميراث؟ إنّ الوضعيّة الأكثر شيوعا هي بالتأكيد، (وبأغلبيّة ربما تصل إلى نسب فوز في انتخابات رئاسية في عهود مضت)، وفاة الأب وتركه لأبناء من الذكور والإناث وهذه الحالة يرث فيها الإبن ضعف ما ترثه الإبنة. أما الحالات التي ترث فيها المرأة أكثر من الرجل فهي حالات هامشيّة قياسا إلى الحالة المذكورة، كما أنها حالات لا يكون فيها الرجل والمرأة موضوع المقارنة من نفس درجة القرابة (مثال: ابنة المتوفي وشقيقه، إبنة المتوفي ووالده (مع وجود ورثة آخرين)…). لو اكتفى السيّد الغنوشي بالقول: أن النص صريح في هذا الصدد وكفى، لكان أكثر انسجاما مع فكره، فهو ،كما صرّح، يعتقد أنّ الثوابت في الإسلام تشمل كل ما هو قطعي الورود وواضح الدلالة، أمّا أن يحاول تبرير اللامساواة بمثل هذه الحجج الّتي أريد لها أن تلبس ثوب العقلانية، فهو يعبّر إما عن اضطراب في المرجعيّة (بين النص والعقل) أو عن نيّة في المغالطة.
إذا أضفنا إلى ما سبق ما صرّح به “الشيخ” قبل ذلك في إحدى الإذاعات من موقف يبدو متشككا تجاه منع تعدّد الزوجات (قال أنّ إلغاء تعدد الزوجات اجتهاد مقبول إسلاميا، لأنّ هذا التعدّد يدخل في باب المباح ويمكن للحاكم تقييد المباح، وهو ما يفترض أنّ القاعدة الأصليّة (إباحة التعدّد) لا تزال ممكنة التطبيق ويمكن للحاكم، كما قيّد المباح أن يعود لإطلاقه، أي أن يبيح تعدد الزوجات من جديد، كما أثار الغنوشي مسألة كثرة العوانس ودعا إلى معالجته)، يبدو أنّ موقف زعيم حركة النهضة من عدّة مسائل أساسيّة غير واضح بالشكل الكافي. لكن من جهة أخرى، و إزاء هذا التأويل لخطاب السيد الغنوشي، وهو تأويل يمكن أن يكون مصيبا أو مخطئا، عبّرت الحركة بأوضح العبارات عن التزامها بالديمقراطيّة ونبذها لكل أشكال العنف. هذا الالتزام هو وحده ما يجب الأخذ به في الحكم على النهضة في الفترة الحالية إذ لا يحقّ لأيّ كان إقصاء أيّ طرف سياسي عبّر عن التزامه بالديمقراطية ولم يبد من تصرفاته أيّ مخالفة صريحة لهذا الالتزام. أمّا عن المستقبل، وما يروى عن النوايا الخفيّة، فـ”ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا…”