التفكير انطلاقا من الهامش
|الجنوب في مواجهة المركزية الغربية
بقلم: مريم مقعدي
لما كنا-نحن سكان”جنوب الحداثة”- نعيش في عالم تخترقه سياسات” الشمال” من كل جانب. إذ ليس”الشمال” هنا سوى استعارة مفزعة للآلام والمعاناة التي خلفتها الرأسمالية، وسياسات الاستعمار العالمي في بلدان الجنوب، بعدما نصبت المركزية الاوروغربية نفسها كنموذج وحيد وأسلم في المعرفة (في أبعادها المتعددة)، فإن ما يدعونا اليوم إلى استعادة هذا “الجرح الكولونيالي”، هو الرغبة في اتخاذ مسافة نقدية من الحداثة الاوروغربية، وذلك لغاية مساءلة إمكانية التفكير انطلاقا من الهامش، الذي صادروا “ذاكرته ومخيلاته وأحلامه، وحقه في الوجود في باحة الإنسانية الحالية”.
تجاه هذا المأزق، الذي تطرحه علينا الوضعية الابستيمولوجية الحالية للإنسانية الراهنة، علينا أن نسال:
هل يمكننا فعلا التفكير، انطلاقا من الهامش؟
وإن استطعنا تحقيق هذا الرهان، الذي يعد بمثابة شعار أساسي لمفكري فلسفة التحرر في أمريكا اللاتينية، فكيف يمكن أن نعيد قراءة التاريخ الغربي، قراءة نقدية تحررية؟
وفيم تتمثل البدائل التحررية، التي يقترحها علينا اغلب مفكري فلسفة التحرر، ولا سيما البدائل التي يقترحها علينا المفكر انريكي دوسيل؟
وإن طرحنا إمكانية التفكير في بدائل جديد، فهل هذا يعني مواصلة التفكير في مشاكلنا، انطلاقا من مقدمات غربية أم نه على العكس من ذلك، تقتضي هذه البدائل منا “خلق” معايير وحلول وتأويلات وفهما جديدا لبلداننا، أي لبلدان الجنوب ؟
و إلى أي مدى استطاعت فلسفة التحرر-باعتبارها بديلا مضادا لابستيمولوجيا الشمال-، إرباك المقاربات الغربية؟ بمعنى آخر، إلى أي مدى استطاعت فلسفة التحرر تغيير الخريطة الجيو سياسية للعالم؟
يبدو أن انتمائنا للعالم، في صيغة “سكان الجنوب”، من شانه أن ينبهنا إلى أن هذا الموضع ليس مجرد بداهة جغرافية، وإنما هو موضع قلق ومستفز، يسائل إمكانية التفكير من موضع خارج الحداثة، أي من منطلق الهامش. فهل يمكن أن يكون الهامش موضوعا للتفكير؟ بل أكثر من ذلك، هل يمكن أن يكون هذا الهامش قاعدة وأرضية للتفكير، مضادة للأرضية الابستيمولوجية الغربية؟
إن مفهوم “الهامش”، هو دلالة على”بلدان الجنوب”، التي تتموضع خارج التيار الامبريالي للعولمة. وكذلك، هو “استعارة حية” للآلام والمعاناة والسخط الذي خلفته الرأسمالية في هذه البلدان. ولقد كان انريكي دوسيل في فلسفته مهتما جدا بهذا المصطلح-الجنوب-، ليس باعتباره فقط مجرد حيز جغرافي، على الرغم من أن الغالبية العظمى من سكانه يعيشون في بلدان نصف الكرة الجنوبية، وإنما باعتباره تجسيدا وتعبيرا حيا عن “التابع” المضطهد (opprimé) (سبيفاك)، الذي صادروا حقه في الكلام وفي الوجود.
حيث كان هذا المفكر الأرجنتيني، دوسيل قد جال عدّة بلدان فيها سمات الجنوب، وكان في كل مرة يسال نفسه “من أنا؟”، ليجيب:” عرفت عندئذ أنني لست أوروبيا“. إن انريكي دوسيل، من خلال اهتمامه بالمباحث الأوروبية، لاحظ مدى جهله بأمريكا اللاتينية.و في هذا الإطار يقول صراحة:”لأني كنت غارقا في اهتمامي بأوروبا، وددت الرحيل إلى أوروبا، لكني أدركت-عندئذ- أني لا اعرف شيئا عن أصولي.”
كيف يمكن أن نفهم إقرار دوسيل هذا، في ضوء إمكانية التفكير انطلاقا من الهامش؟
يبدو أن الأمر هنا، لا يتعلق بامتحان هذه الفرضية في “بلدان الجنوب”، بقدر ما يتعلق باتخاذ مسافة نقدية من الحداثة ذاتها. ففي إحدى المحاورات التي قام بها انريكي دوسيل، طرح عليه السؤال التالي: “هل يمكن التفكير انطلاقا من الهامش؟ “. خلافا للمفكر والمسرحي البيروي سالازار بوندي، الذي رأى أن الفلسفة مستحيلة في عالم استعماري، اعتبر دوسيل في المقابل، أن الفلسفة ممكنة في عالم استعماري، أي أنها ممكنة في بلدان الهامش، لان الأمر عنده يتعلق بنوع من “الثقافة المقاتلة”، التي لا تكتفي فقط بوصف الحدث والتجربة في ثقافتها-على الرغم من انه أمر مهم-، وإنما تتجاوز ذلك نحو إمكانية تغيير الواقع، أين تصبح فلسفة التحرر نموذجا للحياة. إنها تتجاوز السعي إلى الفهم والتفسير، نحو تغيير العالم: ذلك أن النظر العقلي التأملي والنقدي لا ينفك عن النزوع المستمر نحو تغيير الواقع التاريخي، رفعا لشتى مظاهر الظلم والاضطهاد والاستغلال والتمركز على الذات والاستلاب…
لا شك إذن، أن انريكي دوسيل كان على وعي بأن الحداثة الأوروبية، قد قدمت نفسها كنموذج وحيد للمعرفة، وأغلقت كل إمكانات الوجود والتفكير خارجها. ففي كتابه الذي يحمل عنوان إلغاء الآخر، يقدم لنا دوسيل نقدا للسردية الفلسفية للحداثة الأوروبية، كما تتجلى في فلسفة هيغل، الذي قدم صياغة شمولية تاليفية للفكر الإنساني تلغي كل الثقافات والمجتمعات غير الأوروبية وتحرمها من عالم المعنى والحقيقة. ذلك انه عندما تحدث في كتابه”العقل في التاريخ”، عن نهاية التاريخ وعن أوروبا كنهاية لهذا التاريخ، هو في الحقيقة يعلن ضمنيا عن عدم وجود أي تاريخ آخر كتب بأيادي غير بيضاء. فعندما قال بأنه رأى نابليون على حصان، أي أنه رأى العقل على حصان متجها نحو الشرق. معنى ذلك، أن الشرق هو مثال للتخلف وللهمجية. ولذلك عليه أن ينتظر العقل الأبيض-باعتباره عقلا كونيا- كي يجلب له التنوير والحضارة.
إن هيغل بهذا المعنى، خدم الغرب ونابليون، أكثر من كونه “خادما كونيا”(أي أسطورة الفيلسوف باعتباره مشروعا كونيا). وفي هذا الإطار، يشير والتر منيولو في مقاله الذي يحمل عنوان العصيان المعرفي، إلى انه عندما يأتي مفكر من الغرب، فانه يجدر معاملته على انه شخص يحمل ميولا نظرية، كونية صالحة للجميع. أما، عندما ينبغ مفكر من بلدان الجنوب، فانه يصبح فقط “رمزا معبرا عن ثقافته“، ومفكرا كبيرا فقط في حدود انتمائه.
في كتابه الذي يحمل عنوان فلسفة الأشياء الصغيرة، يشير فتحي المسكيني بطرافة، إلى أن “الكبر” أو “الصغر” لا ينقصان أو يزيدان من ماهية الإنسان شيئا؛ فالكل كبير أو صغير فقط داخل قصته الخاصة.
يبدو أننا إذن إزاء طرح جديد وثوري، يتعلق بالمراهنة على “حداثة بديلة”، تبدأ التفكير من الهامش وليس من المركز، من أمريكا اللاتينية ومن الأطراف وليس من باريس أو ألمانيا… إننا إزاء”حداثة بديلة”، تتخذ مسافة نقدية من التصورات الغربية ذات الطابع الكولونيالي، إننا أمام نمط تفكير جديد يبدأ من”هنا” وليس من “هناك”. من هنا نلاحظ إذن قدرة انريكي دوسيل على التفكير ديكولونياليا، اي قدرته على الانخراط في معركة تصفية استعمار العقل، بعدما خلف المستعمر جروحا في الذاكرة. وفي هذا الإطار، يقترح علينا دوسيل صحبة مجموعة من مفكري”بلدان الجنوب”، جملة من البدائل التحررية. يمكن أن نلخص هذه البدائل في مقدمتين:
تتمثل المقدمة الأولى، في أننا إن أردنا البحث عن مسارات للتحرير، فانه علينا أن نبحث عليها في مقدماتنا. في كتابه ابستيمولوجيا الجنوب، يدعونا بوافنتورا دي سوسا سانتوس إلى اختراع مقدمات تخص مشاكلنا. فإذا كان لدينا مشاكل خاصة بنا، فيجب أن نبحث عن أجوبة خاصة بنا. وهكذا نستطيع أن ننتمي إلى أنفسنا بشكل ما. لكن الأمر الأدهى من ذلك، أن الغرب يبحث عن حلول لمشاكلنا، انه يبحث عن حلول لمشاكل لا تخصه ولا تنتمي إليه.
إن قراءة فوكو للثورة الإيرانية، تمثل مثالا جيدا على تنصيب الغرب نفسه كوصي علينا، لذلك نجده يصف الثورة، متحدثا:”إن الثورة كما نعرفها نحن…“. من هذه “النحن” إذن؟ لا شك أنها الذات الغربية، التي تقحم نفسها في البحث عن حلول لا تخصها.
أما المقدمة الثانية، فتتمثل في أن اختراع المشكلات واقتراح الحلول، إنما يقتضي في كل مرة فهما جديدا، وتأويلا جديدا. وهو ما يقترحه علينا أيضا دي سوسا سانتوس، من ضرورة اختراع نمط جديد يتعلق أولا بـ”الترجمة البينثقافية”، أي الترجمة التي يمكن أن تقول التجربة والحدث في لغتنا. ثم يتعلق ثانيا ب”ايكولوجية المعرفة”.
يبدو أن عملية التفكير المضادة هذه، أي التفكير انطلاقا من الهامش، من شأنها أن يعطي الكلمة مجددا “للتابع” الذي آن له أن يتكلم. إن السؤال الذي يستفزنا في هذا الموضع هو التالي:
ما مدى مساهمة هذه المقاربة في إرباك المقاربة الغربية؟ بمعنى آخر، هل غيرت هذه “الثقافة المقاتلة” تمثل الغرب للآخر؟
يمكن أن نمتحن إمكانية الإجابة عن هذا الإشكال من خلال استعادة أحداث وتجارب راهنة، يمكن ترجمتها اولا، من خلال حركات التحرر الوطني في أمريكا اللاتينية، وفي سعيهم إلى خلق ابستيمولوجيا بديلة، تتمثل في “ابستيمولوجيا الجنوب”.
كما يمكن ترجمتها ثانيا، في صورة ذلك الطفل-الرجل- الفلسطيني الذي رأيناه يمسك بحجارة صغيرة أمام دبابة… كل هذه الأحداث إذن، قد نجحت إلى حد ما في إرباك المقاربة الغربية، وبثت لدينا رسائل أمل مليئة بالرموز. إن العقل الأبيض الذي مارس كل اللعبة الكولونيالية التي كانت بحوزته، يجد نفسه اليوم في إحراج حقيقي، فأصبح يبحث عن إمكانيات أخرى يستطيع أن يواصل بها الطريق. ذلك أن الأيادي السوداء انخرطت في التفكير جديا من وجهة نظر موقعها الجغرافي ومن وجهة نظر أجسادها ذات الملامح السوداء، فعرفت أنها تستحق فعلا الخيار الديكولونيالي، وآمنت بإمكانية أن يكون المرء مشروع نفسه.
على الرغم من أهمية هذه “الثقافة المقاتلة”، إلا انه علينا ألا نتحمس كثيرا لفكرة فك الارتباط مع الغرب: ذلك أن الأمر يتعلق باختراع مقاربة شاملة، تتعلق بما هو سياسي، تربوي، ثقافي… كذلك، علينا أن نحترس من السقوط في مأزق الأصولية أو الوقوع في شتم وكراهية الغرب بشكل مستمر، باعتبار أن “الكراهية هي العدو اللدود للفلسفة وللفكر في آن واحد.”
نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 37، شتاء 2025
لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf37