حرية المعتقد في الإسلام
|لئن أصبحت حرية المعتقد اليوم إحدى أهم الحقوق التي تضمنها المواثيق والقوانين الأوروبية والدولية فإن ذلك الحق قد ولد بعد مخاض عسير باعتبار تعرضه تاريخيا للنفي والإنتهاك باسم الكنيسة.
ولعل محاكم التفتيش التي أنشأتها الكنيسة في العصور الوسطى تقوم شاهدا على القمع الذي تعرضت له الشعوب الأوروبية باسم الكنيسة التي فرضت آرائها على الناس بدعوى حماية الدين المسيحي.
إذ أعدم حوالي ثلاثمائة ألف أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفا أحياء لعل أشهرهم العالم والفيلسوف الإيطالي (جيوردانو برونو Giordano Bruno) الذي طور نظرية مركزية الشمس (l’héliocentrisme) وهي التي تضع الشمس في مركز الكون محاولا إثبات أن العالم ليس له مركز بل هو لا متناه لذلك يتحدث عن ما يعبر عنه بتعدد العوالم .حكمت عليه الكنيسة بأن يحرق حيا ردا على نظرياته العلمية.
كما عوقب العالم الشهير غاليليو Galileo بالإقامة الجبريّة المؤبّدة لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس.
وبالرغم من أنها حقائق علمية، فقد اعتبرت كفرا نظرا لاختلافها مع ما كانت تروجه الكنيسة انذاك.
إلا أن البلدان الإسلامية لازالت ترزح تحت وطأة الطائفية والتعصب الديني علي الرغم من سماحة الدين الإسلامي الذي جاء ليعلن بكل صراحة ووضوح على مبدإ حرية المعتقد بما في ذلك حرية اختيار الديانة وحرية ممارستها دون إكراه ولا تضييق. فالعرب المسلمون الذين دأبوا على نمط الحياة القبلية بما فيها من حمية وعصبية و انفراد بالحكم لرئيس العشيرة ورفض للاختلاط مع الآخر لم يتخلوا عن عن هذه الطبائع بل وألبسوها جبة الإسلام ونسبوها له وهو براء منها فشرّعوا للتكفير والقمع وابتدعوا عقوبات لكل من خالفهم العقيدة أو المذهب أو حتى الرأي وحاربوا كل من حاول مجرد التفكير في تطوير هذا الفكر الجامد المتحجر بدعوى الردة أو الخروج عن الملة أو الزندقة.
مع هذا فإن النص القراني نفسه من الوضوح بمكان فيما يتعلق بالحرية الدينية.
بل أكثر من ذلك فإن الإسلام لم يكتف بإقرارها بل و قد وضع ايضا آدابا لنشر العقيدة والدعوة إلى الإسلام بما لا ينتهك هذا الحق كما أرجأ محاسبة الناس على مسألة الكفر والإيمان إلى يوم القيامة.
I. في القرآن إقرار صريح لحرية العقيدة
لقد جاء الإسلام ليشكل قطعا حقيقيا مع الإكراه وليقر صراحة حرية المعتقد واختيار الدين كما في قوله تعالى تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ /البقرة/ 256).
لذلك نلاحظ أن العديد من الايات تنهى عن الجبر باتباع عقيدة الإسلام و تجعل مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة تبليغية توعوية تذكيرية لا جبرية في شكل التزام ببذل عناية وليس التزاما بتحقيق نتيجة.
لذلك أمر الرسول في سورة الشعراء 214/ 216 ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ والأقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ﴾.
وفي سورة البقرة 119﴿إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم).
أما في سورة الغاشية (21) يقول الله تعالى (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر) وهو نفي صريح للسيطرة في معنى الإجبار على اتباعه. كما يقول الدكتور محمد راتب النابلسي في كتابه التفسير المختصر وهو يشرح الآية 29 من سورة الإنسان ” الله أعظم و أجلّ من أن يقول كلاما لامعنى له. ولو أننا مجبرون ومسيرون لما كان هناك معنى لقوله تعالى ﴿إِنّ هَـَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىَ رَبّهِ سَبِيلاً﴾”.
ونذكر في نفس السياق الآيتين 11 و 12 من سورة عبس .﴿كَلاّ إِنّهَا تَذْكِرَةٌ. فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ .
هنا يتبين لنا الإقرار بالحق في الاختيار من جهة ونفي الجبر والإكراه من جهة أخرى. فلا أوضح من قوله تعالى في سورة يونس 99 (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ).
أو قوله تعالى في سورة الأنعام 106 : 107 ﴿ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾.
إذا كان حق الاختيار مضمونا والإكراه ممنوعا فإن الإسلام قد أتى بمجموعة من الآداب التي ينبغي اتباعها في الدعوة للإيمان.
II. الإسلام يدعو إلى اللين والحسنى في مجادلة الناس والدعوة إلى الإيمان
على عكس ما كان سائدا في الحياة القبلية طوال عصور الجاهلية من تعصب و فرض لرأي شيخ القبيلة على باقي الناس تجريدا لإرادتهم ونفيا لحقهم في التفكير والاختيار الشخصي فإن الإسلام يدعو إلى الحوار ويرسي مبدأ سلميته كركيزة أساسية لنشر الدعوة الإسلامية.
ففي سورة النحل مثلا يقول الله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ/ النحل 125). فالحكمة من العقل والتفكير والموعظة الحسنة تنأى بنا عن العنف والجبر والإكراه.
فإذا كان الرسول المكرم نفسه مطالبا بالتحلي بمثل هذه الآداب فالأولى لغيره من المسلمين بأن ينسجوا على هذا المنوال عملا بقوله تعالى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دعا إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ/فصلت/33-35).
فالقرآن يأمر بالصبر، وهو من جملة آداب الحوار التي ينبغى أن يتحلى بها المؤمن فى مواجهة التعنت والإصرار أثناء نشر الدعوة ، ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مّمّا يمكرون (النحل 125).
وإن المتمعن في آيات الله سبحانه وتعالى لينبهر لمدى التسامح الذي يدعونا إليه القران في مثل هذه الحوارات التي قد تؤول الى الرفض او حتى الإهانة و اللغو.
هاهنا يأمر الله الرسول في سورة المزمل 1(وَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) أو في سورة القصص/55) وَإِذَا سَمِعُواْ اللّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لنا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ألجاهلين).
فأقصى ما يمكن أن يردّ به المؤمن على اللغو (وهو استهزاء بالمقدسات وهو أمر جلل) هو الإعراض والهجر الجميل. والمقصود هنا بالجميل هو السلم والحسنى ونبذ العنف وترك الشتم و التسابب وهو ما يدعمه قوله تعالى في سورة الأنعام 108(وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).
كما تكتمل الصورة الجميلة لآداب الحوار في الإسلام بقيمة إنسانية كبيرة ألا وهي العفو أو الصفح. وبيان ذلك في قوله تعالى في سورة الأعراف/199 ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين). أو في قوله تعالى في سورة الحجر/ 85 ﴿وَإِنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ).
بالنهاية نستنتج أن الأمر بالمعروف أوالنهى عن المنكر، هو مجرد أمر قولي أونهى قولي وليس لرده أو رفضه أن يرتب القمع والعنف أو الحرب لأن القتال لا يجوز إلا في حالة الدفاع ردا عن العدوان والقتال. لذلك نرى أن الإسلام يأمر بقتال المحاربين ردا للعدوان والاعتداء. من ذلك قوله تعالى في سورة البقرة 190،194 ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ ألمعتدين فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ).
وفي موضع آخر يدعو الله إلى كف القتال بمجرد كف الاعتداء وذلك مثلا في سورة الأنفال (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ / 61).
وبالنهاية فإن العقاب الذي ينتظر المشرك هو من شأن خالقه وحده هو الذي يقرره يوم القيامة وهو وحده الذي يملك حق محاسبة عباده.
III. الله يرجئ محاسبة الناس إلى يوم القيامة
عديدة هي الايات التي تنفي عن الرسول صفة المحاسب لتترك هذه المهمة لله وحده يوم القيامة. من ذلك قوله تعالى في سورة سبأ (قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ/25- 26).
أو قوله تعالى في سورة الغاشية (مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ/21).
أو قوله تعالى في سورة الزمر ( قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ/ 46)
أو قوله تعالى في سورة الأنبياء (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ / 47)
أو قوله تعالى في سورة الحج ﴿وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ/55-56).
وكلها أمثلة لاحتكار الحساب من طرف الله وحده ففي تكرار ذلك في شتى الايات المذكورة تأكيد على هذا المبدإ. إذ ليس هناك فى القرآن عقوبة للردة وترك الصلاة مثلا.
هذا الأمر من شأنه أن يترك المجال مفتوحا للتوبة وقبول الإيمان او الرجوع عن العمل السيئ.
وهو ما يدعمه قول الله تعالى في سورة التوبة (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ. خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لّهُم/ 102-103).
مشكورة الله يخليك