لماذا لا يمكن أن تنجح دولة فلسطينية منزوعة السلاح؟

مقال لأنشال فوهرا

نُشر هذا المقال بموقع مجلّة “فورين بوليسي” الأمريكية بتاريخ 15 فيفري 2024. نعتقد أنّه من المهمّ للقارئ العربي أن يطّلع على مثل هذه التحاليل نظرا لأنّها تعكس جدلا سائدا في الساحة الدولية بشأن القضية الفلسطينية، وهو جدل لا تعطيه وسائل الإعلام العربية الأهميّة التي يستحقّها.

ترجمة: حمزة عمر

لطالما عارض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو مفهوم حلّ الدولتين، لكنّه نادرا ما أبدى معارضته بالشكل الذي يفعله خلال الشهور التي تلت السابع من أكتوبر 2023، تاريخ هجمة حماس على إسرائيل والحرب التي تبعت ذلك في غزّة. مع ذلك، يصرّ الرئيس الأمريكي جو بايدن أنّ هناك سبيلا لدولة فلسطينية مستقلة بالتعاون مع حكومة نتنياهو.

“أعتقد أنّه من الممكن العمل على شيء ما… أعتقد أنّ هناك سُبُلا لإنجاح ذلك”، هذا ما أبلغ به بايدن بعض المراسلين، وهو يتحدّث عن إمكانية عقد صفقة، بعد انتهاء الحرب، تمكّن من إنشاء دولة فلسطينية مع تجاوز اعتراضات الطرف الاسرائيلي.

 

يبدو أنّ ما يجول في خاطر بايدن هو إقامة دولة فلسطينية تكون في نفس الوقت مستقلّة ومنزوعة السلاح. أشار موقع “أكسيوس” أنّه قد تمّ تكليف مسؤولين بوزارة الخارجية الأمريكية بدراسة ما يُمكن أن تكون عليه دولة فلسطينية منزوعة السلاح “بالاستناد إلى نماذج أخرى من العالم”.

 

يميل المجتمع الدولي أكثر فأكثر إلى هذه الفكرة كحلّ للخروج من المأزق الحالي، وذلك تحديدا بتخفيف المخاوف الأمنية الإسرائيلية، ومنح الفلسطينيين دولة خاصة بهم قصد إنهاء دوامة العنف. قال رئيس الوزراء الأسترالي أنثوني ألبانيز أنّ أستراليا يمكن أن تقبل بدولة فلسطينية إذا كانت “منزوعة السلاح”. يبدو كذلك أنّ ذلك يلقى صدى عند فاعلين أساسيين في العالم العربي. خلال ندوة صحفية في شهر نوفمبر 2023، صرّح الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، بحضور رئيسي وزراء إسبانيا وبلجيكا: “نحن مستعدّون لأن تكون هذه الدولة منزوعة السلاح”. السيسي حليف مقرّب من الإمارات والسعودية، وهو ما يُرجّح أن القاهرة سبق أن تشاورت معهما في هذا الشأن.

لكنّ ينبغي عبور حقل ألغام من المصاعب الدبلوماسية لإنجاح هذه الفكرة. لا تُمكن مقارنة أيّ من الدول والأقاليم الحالية التي ليست لديها جيوش بالظروف الفريدة التي يواجهها الإسرائيليون والفلسطينيون، ولا يمكن لأيّ منها أن يكون ببساطة نموذجا مُتّبعا لحلّ مثل هذا النزاع الشائك في إحدى مناطق العالم الأكثر تعقيدا.

 

هناك حوالي أربعين بلدا وإقليما في العالم دون جيوش فاعلة، وكلّها نسبيا محدودة المساحة وعدد سكانها قليل. العديد منها دُول جُزُرية، مثل غرينادا، المشهورة بصادرتها من جوز الطيب، والدومينيك المعروفة بينابيعها الطبيعية الساخنة وغاباتها الاستوائية. عدد من هذه الدول يحظى بحماية دول أكبر جيّدة التسلّح، كالولايات المتحدة، أو بحماية الناتو، على غرار تلك الموجودة في أوروبا.

لكنّ ليختنشتاين ليس لها جيش وليست عضوا في الناتو. مع ذلك، هي تستفيد، بشكل غير مباشر، من حماية مظلة الناتو.

“إذا وقعت حرب، فهناك العديد من البلدان التي ينبغي اجتيازها أوّلا”. هذا ما قاله باسكال شافهاوزر، سفير ليختنشتاين لدى الاتحاد الأوربي، لـ”فورين بوليسي” في مكتبه ببروكسيل. تُنسّق هذه الدولة، التي لا تملك منفذا على البحر والموجودة بين سويسرا والنمسا، جهود حفظ النظام مع جيرانها المباشرين وهي محميّة، ضمنيّا، بجيرانها الأقوى عسكريا، كألمانيا وفرنسا، في المجال الأوسع. يعيش حوالي أربعين ألفا من سكّان ليختنشتاين في مجال مسالم ومزدهر، ولم يجدوا دافعا للرجوع عن القرار الذي أدّى إلى نزع السلاح عن البلاد في 1868.

بيد أنّ الاختلافات بين ليختنشتاين وفلسطين واضحة للعيان. إذا كانت طبيعة ليختنشتاين وجيرانها الذين يماثلونها في الازدهار تدرأ عنها المخاطر الخارجية، فإنّ الأراضي الفلسطينية تحاذي إسرائيل، عدوّها اللدود. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي على فلسطين المستقلة أن تأخذ بعين الاعتبار تدخّلات إيران، التي ستواصل على الأرجح دعم الجماعات المسلّحة غير الحكومية، على غرار حزب الله والحوثيين، في استهدافها لإسرائيل عن طريق الصواريخ، ممّا يهدّد استمرار أيّ اتّفاق.

عادة ما تُمدح كوستاريكا باعتبارها نموذجا للتنمية في منطقة أمريكا اللاتينية. هناك عوامل عديدة لنجاح هذا البلد، وعادة ما يُعتبر نزع السلاح أحدها. في سنة 1948، قامت كوستاريكا بإلغاء الجيش، وعلى عكس بعض جيرانها، فإنها لم تتورّط منذ ذلك التاريخ في انقلابات ولم تشهد استيلاء العسكر بالقوة على الحكم، بل قامت بدلا من ذلك باستثمار المبالغ التي كان من الممكن أن تُخصّص لميزانية الدفاع في التنمية البشرية. لكن على عكس فلسطين، لا أحد من جيران كوستاريكا يحاول اجتياح مجالها أو يوعز بتمرّد عسكري.

بيد أنّ هناك درسا نستفيده من تحولات ديناميكيات الأمن الداخلي في كوستاريكا. في مقال حديث بعنوان “أسطورة نزع السلاح في كوستاريكا” يسلّط ماركوس هوخمولر وماركوس-مايكل مولر الضوء على تصاعد الإجرام هناك، وهناك دعوات إلى منح المزيد من الصلاحيات إلى قوات ضبط نظام عالية التسلّح، على غرار Fuerza Especial Operativa. يبيّن ذلك خطر انتقال هيكل حفظ نظام عادي إلى أن يصير مسلّحا في مرحلة لاحقة.

من ناحية أخرى، تمثّل هايتي حالة كلاسيكيّة تبيّن كيف يُمكن أن تعجز دولة منزوعة السلاح عن مواجهة العصابات المسلّحة المحلية. وافق مجلس الأمن الدولي مرّة أخرى على إرسال قوات أجنبية لإعانة الحكومة في استرجاع السيطرة على الأحياء والبنى التحتية الأساسية التي وقعت بأيدي العصابات الإجرامية.

إذا لم توافق حماس والفصائل المسلّحة الأخرى في غزّة على نزع سلاحها وإذا لم تكن موافقة على التسوية النهائية، هناك مخاوف مماثلة بشأن استمرار التوتر، لا بين هذه الفصائل وإسرائيل فحسب، بل حتى بينها وبين سلطات دولة فلسطينية مستقلة.

تبيّن حالة تقارب جزر سولومون مع بكين أنّه حتى إن نُزع سلاح دولة، فإنّ قدرتها على اختيار حلفاء عسكريين عدوانيين يمكن أن يغيّر الديناميكيات الأمنية الأوسع نطاقا في منطقة ما. كانت هذه الدولة الموجودة في المحيط الهادي تقع تحت النفوذ الأمني لأستراليا، ولكن في سنة 2023، التقى رئيس الوزراء ماناسيه سوغاراف بنظيره الصيني ووقّعا اتفاقا لدعم التعاون الأمني بما يتيح لبكين أن تدرّب قوات الشرطة.

إنّ الأراضي الفلسطينية مختلفة بشكل كبير عن هذه البلدان، بما أنها تخشى خطرا داهما من جارها المباشر، وتعاني من انقسام بين سكّانها أنفسهم حول ما يمكن أن يشكّل تسوية للنزاع، كما أنها ضحيّة أجندا إيرانية تروم توسيع نفوذها الإقليمي.

من وجهة نظر إسرائيلية، فإنّ الغياب عن الميدان في غزة يمكن أن يؤدّي إلى هجمات مشابهة لتلك التي وقعت في 7 أكتوبر من قبل متمرّدين لا يقرّون حقّ إسرائيل في الوجود.

صرّح اران لرمان، وهو نائب سابق لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي، لـ”فورين بوليسي” أنّ إسرائيل قد تقبل بـ “حلّ دولة فاصل ثمانية” (“1.8-state solution”) مع تضييقات عديدة تمنع الفلسطينيين من اتّباع سياساتهم المستقلّة في مجال الدفاع.

يقول لرمان: “أولا، ينبغي أن نحافظ على نوع من الرقابة على الحدود لكي نرى من يمكنه الدخول. ثانيا، ينبغي أن تكون لدينا كلمتنا حول عدد ونوع الأسلحة التي يمكن لفلسطين الاحتفاظ بها وحجم قوات الشرطة والأمن التي يمكن أن تكون لها لنتأكد أنه لا يمكن أن تتحول إلى جيش في المستقبل”.

بدلا من ذلك، اقترح نتنياهو “دولة منقوصة” وهو ما يشمل قيودا على السيادة وضمانات لإسرائيل تتجاوز نزع السلاح، وهو ما يعتبر الملاحظون أنه أكثر توافقا مع المزاج العام للإسرائيليين.

يتساءل دنيال شوامنثال، مدير المعهد عبر الأطلسي للجنة الأمريكية اليهودية ببروكسل: “هل يباح لدولة فلسطينية أن تقيم اتفاقا عسكريا مع  إيران؟ أو هل يمكن لها إقامة تدريبات عسكرية مع حزب الله؟”. ويضيف أنه “ينبغي لفلسطين أن تلتزم بعدم عقد اتفاقيات عسكرية مع دول معادية لإسرائيل” على سبيل المثال.

تقول نور عودة، المحللة السياسية الفلسطينية، أنّ السؤال المحوري من وجهة نظر الفلسطينيين لا يتعلق بامتلاك الدولة القادمة لجيش، بل حول الاتفاق النهائي على حدودها.

قالت عودة في حوار هاتفي مع “فورين بوليسي” من رام الله “هل ستكون بانتوستان، أو على حدود 67؟ هذا هو السؤال الأكثر أهمية”، معبّرة عن مخاوف الفلسطينيين بشأن اعتزام إسرائيل الحفاظ على أراض واسعة داخل الضفة الغربية مما يجعل الأراضي الفلسطينية مفتتة. وتضيف عودة “إذا لم تهاجمنا إسرائيل أو تقم باجتياحنا، وإذا ما كانت هناك ضمانات دولية في هذا الصدد، فإنّ امتلاك جيش ليس أولوية فلسطينية حسب رأيي”.

لكن لا يتقاسم جميع الفلسطينيين هذا الشعور. يشير شوامنثال أنه حسب استطلاع رأي حديث صادر عن المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، يساند 72 في المائة من الفلسطينية هجمات حماس في السابع من أكتوبر، وهو ما يقول أنه يثبت دعم الفلسطينيين العالي لقيام حركة مسلحة.

اقترح الرئيس المصري السيسي أنه من الممكن الاستجابة للمخاوف الأمنية للإسرائيليين والفلسطينيين إذا ما تم نشر قوة أمنية متعددة الجنسيات لتسهيل الانتقال. كما قال في شهر نوفمبر الفارط: “يمكن أن تكون هناك قوى ضامنة، سواء كانت قوات الناتو أو الأمم المتحدة أو قوات عربية أو أمريكية حتى نضمن الأمن للدولتين، الدولة الفلسطينية الناشئة والدولة الإسرائيلية”. يساند بعض المثقفين الإسرائيليين فكرة قوات مفوّضة متعددة الجنسيات، لكنهم يودّون تجربة ذلك في غزة أولا ليتحققوا من إمكانية النجاح.

ويفترض كلّ ذلك بداية قبول نتنياهو، أو أي خليفة له، بإنشاء أيّ دولة فلسطينية على الإطلاق.

نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 34، ربيع 2024.

للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf34

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights