كم هي جميلة! (قصة لفرانسواز جيرو)
|ترجمة: رجاء عمّار
ديان مستلقية شاحبة، أجفانها مطبقة، يداها قابضتان على حافة الأغطية الخشنة، رقبتها يحيط بها مقوم العنق وذراعها مجبسة، تلعقها أشعة شمس الخريف وقد خرقت النافذة التي رفضت إغلاق مصراعيها.
تجلس ماتيلد قبالة سريرها، تترقب منذ سبعين سنة أن تقضي أختها نحبها لتتنفس الصعداء، لكنها، تشعر الآن والموت يهددها كأنها ستفقد عقلها رعبا: “أليست المذنبة، لشدة ما تمنت لها الرحيل! إن الله عليم بما في سرائر خلقه!”.. رددت بتلعثم صلاة: “يا الله! لا تجعلها تتألم…”
دخلت الممرضة، جففت بلطف وجه ديان المتفصد عرقا، سوت الوسادة، وقالت لماتيلد:
“انظري كم هي جميلة، رغم قسوة الاختبار الذي تمر به!”
انزعجت ماتيلد، كم من مرة عليها سماع أن ديان جميلة!
المرة الأولى التي أصغت فيها إلى هذا التصريح، حين كان سنها ستة أعوام، وفقدت سنها الثاني وديان في الخامسة من عمرها.
في ذلك اليوم، احتفلت عائلة جرمان لافيت برأس السنة الميلادية في ضيعتهم، حول شجرة الصنوبر العملاقة الموشاة بالأكاليل والشموع، وقد تكدست جوار جذعها الهدايا.
جرت كوكبة من الأطفال في كل اتجاه. وضع السيد جرمان اسطوانة في الحاكي كي يحثهم على الرقص، فأمسك عدد منهم بأيدي بعضهم البعض دافعين الأكثر خجلا المتفرقين في أنحاء المنزل إلى الانضمام إليهم.
تشبثت ماتيلد بتنورة أمها متوارية عن الأنظار، فجأة، انطلقت ديان في الرقص بمفردها وسط القاعة بثقة لافتة للانتباه.
قالت الأم لماتيلد:
– “انظري إلى أختك، اذهبي للرقص أنت أيضا!”
لكن، الصغيرة قطّبت جبينها وحدثت نفسها مستنكرة هل يمكن أن يظهر المرء مزهوا بنفسه بعد فقدانه لسنّين تركا مكانهما خاليا في وسط فمه!
واصلت ديان الرقص بكثير من اللياقة حتى أن أباها هتف من شدة التأثر: “كم هي جميلة طفلتي!”
حين انتهت الوصلة الموسيقية رفعها عاليا تعبيرا عن فخره بها. تبادر إلى أذهان بعض الأطفال التصفيق إعجابا، وانبرى آخرون يقلدونها، وهي الملكة المتوجة تستقبل الثناء متصدرة عرش كتفي الأب.
هذه الحادثة، كما تؤكد ماتيلد وهي تحادث نفسها، لم تمحها ذاكرتي أبدا، منذ ذلك الحين، ما عادت ديان منافسة لي على حب والدي فحسب، لكن، غدت الأثيرة، هذا هو الشعور الذي خالجني على الأقل، وأبي هو الذي قادني للتفكير على هذا النحو دافعا هذا الإحساس إلى الاختمار.
أعلم أن ما تبادر إلى ذهني ليس صحيحا، وأني لم أحتل أبدا مكانة الفتاة غير المحبوبة، وما حظيت ديان بنصيب أكبر من الدلال، بيد أن ملامح وجهي متجهمة وأطرافي طويلة تثقل حركتي وتعيقني. كنت خرقاء!
تبعت هذه الحادثة أخريات كثيرات. تمتعت ديان بصيت ذائع في المدرسة التي لم أتبوأ فيها سوى مرتبة التلميذة الجيدة التي يختلط عليها الأمر في الرسم الصحيح للكلمات. في الحفلات التي يقيمها التلاميذ والتي أمست صيحة ذاك الزمن، تجرّني إليها ديان أين يتحلق حولها الأولاد الذين يزدرونني لعبوس سحنتي.
تلبسنا أمي ثيابا متماثلة حسب ما هو دارج في تلك الأيام، بيد أن ديان تتمتع بالأناقة التي أفتقر إليها، لطالما قوّست كتفي كأنهما ترزحان تحت وطأة حمل ما… وزر حقارتي.
لم أكن بشعة مطلقا، لكني، اعتقدت ذلك، بالأحرى، لديّ طباع الدميمة التي تملي عليها مواقف بسيطة تصرفاتها. يكمن جوهر المسألة في نيل المرء للإعجاب أو إثارة النفور..
كنت، نحيلة بأطراف طويلة جدا، ورثت ذلك عن أبي، في المناسبة الأولى للعشاء الرباني الذي احتفلت به مع ديان، حين أبصرني الأطفال مارة مرتدية فستاني الأبيض، هتفوا: “تعيش العروس!”.. يا لمأدبة التعذيب!
تئن ديان الممدة على الفراش بلطف، تقترب منها ماتيلد وتسألها:
– “هل تحتاجين شيئا؟”
– “أنا عطشى…أريد شمبانيا..”
– “شمبانيا؟ أنت مجنونة!”
– “تعرفين ذلك جيدا…”
نادت ماتيلد وهي ساخطة للممرضة التي همست:
– “استجيبي لطلبها.. ما عاد هناك ما يخشى أن يسبب لها الأذى!”
ذهبت لجلب الشامبانيا من منزل ديان أين عثرت على الخادمة التي أكدت وهي ما زالت تبكي سيدتها:
– “أحفظ دائما قارورة في البراد، فهي تحبذها مثلجة.. إن طلبها هذا مؤشر جيد.. أليس كذلك؟”
ردت ماتيلد:
-“لا أدري! ربما.”
توجهت مجددا إلى المصحة، عادت إلى مكانها وعقدت مجددا حبل أفكارها الذي أفلتته لبعض الوقت…
لا تستطيع ديان أن تفعل شيئا كبقية البشر… حتى موتها.. هو ميلها العارم لإحداث الفرق، لطالما لاحظت عادتها المستهجنة في البروز. ديان فريدة كما يقال.
في الثامنة عشرة، شغفت بإيطالي أربعيني التقيناه في فلورنسا، إذ أرسلنا أبي لنتابع دراسة الفن التشكيلي. نعم، لقد ركزنا في الدرس جيدا!
لقد اتسمت مشاعر الإيطالي بالسخاء كنبع لا ينضب، يعيد على مسامعي دون توان:
– “ديان جميلة جدا! فاتنة الشقرة! أريد منحها كل الكنوز التي تبصرها العين!”
يؤجج كلامه رغبتي في خنقه.
تبعنا إلى باريس أين قدمته ديان إلى أبوينا قائلة: “أريد الاقتران به!”، فأجبر على الاعتراف مرتبكا أنه متزوج.
إنها المرة الأولى والوحيدة التي شاهدت فيها أبي يوبخها بشدة مدفوعا بتوتر أعصابه الثائرة.
اضطرّ الإيطالي إلى العودة إلى بلده، وعلمنا بعد ذلك بأنه سجن طيلة فترة الحرب لكونه مناهضا للفاشية. هو حبيب ديان الأول، لا أدري كيف تدبرا أمرهما، غير أني متأكدة من لقائهما لأني، في مناسبات عديدة، لفقت الحجج لمجابهة استغراب أبي من غياباتها المتكررة… العاهرة الصغيرة!
حين تزوجت طبيبا شابا وذكيا وهو ابن أحد أصدقاء العائلة، أقام أهلي احتفالا كبيرا يرسخ مجد ديان المتألقة. خشيت أن يتقدم بي السن وأبقى عانسا، فقبلت أول خطيب تقدم لي، لكن، اندلعت الحرب وما احتفينا بالمناسبة…
جاءت الممرضة لتحقن ديان. بحثت عن عرق، وضعت رباطا وغرزت الإبرة في شريان الذراع، فابتسمت لها ديان شاكرة… إنها تتمتع بابتسامة جميلة جدا لامست مشاعر الممرضة التي استبد بها التأثر.
بدا أنها استرجعت بعض قواها، فنادت ماتيلد:
-“اقتربي.. هل تذكرين زوجي؟”
– “عن أي واحد منها تسألين؟”
– “الأول… هل تذكرين زوجي بلاز؟ أتوق لرؤيته…”
– “لكنه مات يا ديان!”
– ” مات بلاز! ذهني مشوش، لقد اعتقدت أن ادوارد هو الذي وافته المنية…”
– “ادوارد أيضا رحل… لقد قتلت كليهما!”
– “لماذا تقولين هذا؟ لقد أحببتهما… أنا…”
لم تستطع مواصلة الكلام فقد أنهكت.
لماذا أنا شريرة إلى هذا الحد؟ سألت ماتيلد نفسها، لماذا أعجز عن محادثتها دون حدة حتى وهي في هذه الحالة؟ أنا خجلى، غير أني أخفقت في التخفف من الحمل الذي جعلتتي أرزح تحت وطأته ولم أنجح في التخلص منه حتى في السنوات الأخيرة التي عشناها سوية…
في الفترة الأولى من زواجي، لم نلتق إلا في مناسبات قليلة، إذ اهتمت كل منا بحياتها ولم يكنّ زوجانا لبعضهما مودة خاصة، فبلاز فخور بنفسه مزهو وجيل زوجي لا يملك سمة مميزة، يدرّس الآداب في مدرسة خاصة، على أنه زوج مخلص ومثقف. منحني حرية التصرف، اعتبرته ديان غير مرئي، لكن يجب الاعتراف بكياستها في التعامل معه، إذ لم تفوت أبدا ذكرى ميلاده وما نسيت مطلقا هدية رأس السنة، وكل ما قدمته فاخر باهظ، وما استطعت منحها نظيره.
زعمت ديان أنها فخورة بي لمواصلتي تعليمي في مدرسة اللوفر على أمل الالتحاق يوما بهيئة المحافظين، رغم اختيارها التخلي عن الدراسات العليا. هذا الشعور الذي سمته فخرا اعتبرته نفاقا. أثناء الحرب، برز ديان وزوجها الشاب كبطلين في صفوف المقاومة، لم تحطني علما بذلك إلا لاحقا دون أن تنتابها لحظة ندم لعدم التفكير في حثي على الانضمام إليهما، في يوم، عاتبتها باستحياء، فأجابتني أن زوجها يجدني ثرثارة جدا غير جديرة بالمساهمة في أعمال سرية. لست ثرثارة، لا أتحدث أبدا أكثر من اللازم إلا إذا شعرت بالخوف، وإذا استبعدني بلاز فلأنه لا يستلطفني.
تزامن ذلك مع موعد إجراء اختباراتي إلا أن القدر لم يمنحني هدنة، إذ غدت مدرسة اللوفر ساحة لأعمال التفجير. لقد حقرتني ديان بمديحها إذن!
حصل أن دعتنا ديان وزوجها إلى شقتهما العامرة بالمقتنيات الثمينة. في اغلب الأحيان، تكون أمي موجودة هناك، لقد ضمر جسدها منذ موت أبي الذي قضى نحبه تقريبا مفلسا جراء الحرب، وتكفلت ديان بتأمين احتياجاتها المادية، وهو فعل يستحق الثناء ويفترض أن أهنئها عليه.. لكنه خلق بينهما ألفة وحميمية شعرت أني مقصاة منها.
بعدها حدثت المأساة…
ربط ابن ديان علاقة صداقة مع زوجي الذي قبل أن يمنحه دروسا خصوصية. إنه فتى أشقر وساحر وله ذات ابتسامة أمه. عادت صلتنا شبه المقطوعة مع ديان إلى التمتن، دون أن ينفي ذلك واقع اختلاف نمطي عيشنا، وما وصلني من أصداء على الحياة الصاخبة التي تحياها، لم يحرضني على الاقتراب.
بلغني من الأقاويل المنقولة أنها تطلقت وأن لديها حبيبا. عشيق إضافي!
هاتفتها لأستعلم عن أخبارها. أكدت لي أن كل الأمور تسير على ما يرام، وستفتتح قاعة عرض للفن التشكيلي، لتحقق ما تمنته دائما، لتختم قولها: “نبقى على اتصال”.
أثارت سخطي مرة أخرى فالفن التشكيلي هو اختصاصي منذ بعثتنا الشهيرة إلى فلورنسا، ما المعارف التي تبوؤها للخوض في هذا المجال؟
ديان تهذي. تقترب منها ماتيلد، لكنها، لا تتبين الكلام، ولا تسمع إلا ترديدها: “ابني …ابني…”، ثم ينقبض وجهها ويتقلص جسدها. لا تريد أن تصغي إلا أنها تعرف ما تقوله ديان…
ما لا يغتفر!
حدث ذلك بعد طلاقها. أوكلت لي ديان ابنها توماس ليرافقني في رحلة جبلية بمرافقة زوجي. في الواقع، هي عهدت به إليه كي يساعده على الاستعداد للاختبار في أحسن الظروف، أثناء سفرها حيث لا أدري إلى أين…
لقد كنا ثلاثتنا متزلجين جيدين مفعمين بالسعادة التي منحتها لنا هذه الفسحة. كيف للفتى الذي يبلغ خمسة عشر عاما أخذ مبادرة الذهاب للتزلج خارج الحلبة؟
لا أدري.
في ذاك الصباح، بقيت في النزل. بعد ساعة، حصل انهيار ثلجي أثناء مرور توماس عبر المسلك فقتله. اكتنفني الغم، إذ لم أستطع أن أنجب طفلا وتعلقت بالصغير، وأصاب زوجي الهم.
اعتقدت أن ديان ستفقد عقلها. في البداية، أثخنتني بالشتائم، مستنكرة سماحنا له بتركه يذهب وحيدا، واعتبرتنا مجرمين، عاملتني كحمقاء. بلاز منكوب لفقدانه ابنه شتم زوجي، في المحصلة، هو الذي لم يملك السلطة اللازمة كي يمنعه من النأي عن الحلبة.
بقيت ديان واهنة القوى مدة طويلة، ترفض الحديث مع أي كان باستثناء أمي التي أثقلها الحزن بدورها.
خلال هذه الفترة، نجح ادوارد في ملازمتها. إنه تاجر الآثار الذي افتتح لها قاعة العرض التشكيلي وتوجت علاقتهما بالزواج. إن ديان تنجو دائما، لقد أفلتت من قبضة كل مكدر حتى موت ابنها الذي لم يترك أثرا عليها…وإن بإضافة تجعيدتين. إنها لا تقهر…
ديان نامت. أنامت أم…؟ لا! يمكن سماع أنفاسها. تتنهد ماتيلد. أوصتها الممرضة ألا توقظ المريضة، وأغلقت بلطف الشبابيك وغمرت الظلمة الغرفة.
بعد تلك الكارثة، انقطعت صلتنا رغم تأنيب أمي. ما الأحاديث التي سنتبادلها؟ هل من معنى لما سنقوله؟ لكن موت توماس زعزعني، أخفقت في اختباراتي الأخيرة التي استعددت لها، لطالما كنت سيئة في الامتحانات، إذ يستبد بي الارتباك الذي يتولد من شعوري أن الجميع يكرهني.. وأولهم من يمتحنني.
فكرت في العثور على عمل لتحسين وضعيتنا المادية لتجاوز عيشة التقشف، لكن أين أشتغل؟ فتشت طويلا دون جدوى… إلى أن اتصلت بي ديان التي بلغها أني بصدد البحث، بادرت قائلة:
– “تعالي واشتغلي معي! إني بحاجة إلى شخص ما، وهي فرصتك كي تستثمري معارفك…”
ترددت كثيرا قبل الموافقة على عرضها، حثني زوجي الذي أكد أني أتعفن رويدا رويدا في العطالة.
عشت سنوات مرّة وأخرى لطيفة… لطيفة لأن العمل شدني لما تطلبه من تواصل مع الفنانين المحترفين والهواة، وفسح المجال لاستغلال حضور البديهة في التعامل، إنها الفترة التي شهد فيها العمل نجاحا كبيرا.
سنوات مرّة لأن ديان تبالغ كعادتها في حب الظهور وتسيطر علي بصفة مطلقة، مثلما هو الحال في شبابنا، وجدتني قابعة في ظلها، فهي السيدة صاحبة النفوذ، فكيف لا تتحكم والقاعة تحمل اسمها؟
عشقها زوجها ادوارد وأوغل في غرامه بها وغبطه زملاؤه على المكانة التي عرفت كيف تحتلها في سوق الفن. إذا حتمت ظروف خارقة للمألوف واستوجبت التعريف بي، لا يذكر اسمي وإنما يقولون: “أخت ديان”.
سافرت ديان مع ادوارد كثيرا خارج البلاد لرؤية المعارض وحضور صفقات البيع العمومية، حيث تعود بمقتنيات ذات قيمة كبيرة تدل على رأيها السديد. إنها فطنة نافذة البصيرة. أثناء ذاك الغياب، أتكفل بشؤون قاعة العرض… لأستمتع بأفضل ساعاتي.
استمر هذا الوضع، إلى حين ولع ديان برسام أمريكي، وساءت علاقتها مع ادوارد الأكبر سنا منها بكثير وغدت عاصفة، ديان تبكي غالبا ثم تختفي أمسيات بأكملها، ويبحث عنها في كل مكان دون فائدة، فيصب جام غضبه علي بطبيعة الحال.
انتهت الأمور بشكل سيء، لقد قرر التخلي عن القاعة التي يمتلكها ويمولها لمعاقبة ديان، ترك لها مالا وبعض اللوحات الجميلة، غير أن صفقات التسوية اتسمت بالقسوة المتوحشة، لأن ادوارد جرح في الصميم.
فيما يتعلق بالمالكين الجدد، أقروا عدم حاجتهم إلى خدماتي، فطردني إدوارد خلال ربع ساعة، إذ دون شك، أثناء المفاوضات، لم تفكر ديان مطلقا في حمايتي.
انصب اهتمامها على حبها الذي يستعر، وأعلمتني أنها ستتبع عشيقها الرسام إلى الولايات المتحدة أين ستدشن قاعة عرض تشكيلي جديدة. أمطرتها باللوم لأني احتجت للتفريج عن سخطي، قلت لها أنها مخبولة أنانية طائشة.. وهي مخطئة إذا خالت أنها ستحظى دون انقطاع برجال يلبون جميع رغباتها. أذكر أني مررت إصبعي على التجاعيد المحيطة بعينيها، وأجبرتها على تأملها في المرآة، وأكدت:
– “انظري.. هذه بداية النهاية!”
انفجرت ضاحكة وأجابتني:
– “أنت لا تفقهين شيئا! تلك سر فتنتي حين أبتسم!”
وددت لو صفعتها…
ذهبت للاستقرار في نيويورك، وعدت إلى منزلي تعيسة. لم أرها لمدة عشر سنوات.. سنوات معتمة.. وجدتني مجبرة إلى إعادة ترتيب شؤوني كي أظفر باستقرار نفسي ما، غير أن أمي اختفت وزوجي بدأ في المعاناة من سرطان قضى عليه في نهاية المطاف. ساندته في رحلة العلاج بأقصى ما أستطيع. صحيح أنه لم يتمتع بحضور لافت، لكنه الإنسان الوحيد الذي أحسن معاملتي حتى اللحظة الأخيرة.
بعدها، قبل ثلاثة أعوام، في إحدى الليالي…
دخلت الممرضة وهي تحمل محرارا.. تأتي ككل يوم، عند الساعة الخامسة، تقيس حرارة ديان وتمنحها دواء، تسحب الألحفة لتتأكد أن مقوم العنق والجبيرة في مكانهما المطلوب والضمائد المحيطة بصدر المريضة لم تنفلت. صرحت أن الحرارة انخفضت، وهي في درجتها العادية، استفهمتها ماتيلد:
– “ماذا يعني ذلك؟”
– “الالتهاب الذي خشينا أن يطال كامل الجسد توقف عن السريان… اتركيها تنام…”
في ليلة.. وأنا منهمكة في إعداد المعكرونة للعشاء حين رن الهاتف، إنها ديان التي حدثتني كأننا التقينا بالأمس:
– “سأمرّ لأصطحبك إلى مطعم صيني بديع!”
لم يسنح لي وقت للاندهاش، إذ طرقت الباب. لم تعد ديان التي عهدتها، لكنها، تحمل ستينيتها، بكل ما تعنيه كلمة العظمة من معنى، دون أية شعرة بيضاء ونحول لم تعرف مثيله، في حين أن وزني زاد سبعة كيلوغرامات. لا يمكن أن يشي بسنها سوى يديها وعنقها وتغيرا طفيفا في شكل قدميها.
عاينت كل ذلك بنظرة عجلى، وأنا أرتمي بين ذراعيها التين أشرعتهما. لم نحضن بعضنا البعض أبدا سابقا. لاحظت أنها ما فتئت وفية للعطر نفسه. اعتقدت أن برق الانفعال ومض في روحينا لأننا التقينا مجددا. انتبهت إلى انعكاس صورتي على مرآة المصعد، وبدوت كأمها بشعري الرمادي.
في المطعم الصيني، انطلقت في سرد مغامراتها الأمريكية، أعلنت أن الرسام بيل هجرها وأضافت:
– “تبين أنه يميل جنسيا إلى الذكور. اعتبرت ذلك مضحكا، هذا لا يمنع أنه رسام جيد جدا وحقق نجاحا باهرا.. تعلمين أن لدي وجهة نظر لا تخيب…”
واصلت قص تفاصيل المحن بسلاسة تشد الاهتمام… فتحت قاعة عرض في حي مرموق بمساعدة حبيبها الجديد فاحش الثراء، لتستدرك:
-“…لكن، الزمان أولى ظهره للفن، وأخفقت في الإقلاع، فغادرت نيويورك وسافرت معه إلى كاليفورنيا وفلوريدا وألاباما… نعتقد أننا نعرف أمريكا حين نزور نيويورك، هذا حكم ساذج.. نيويورك بلد له خصوصيته، من الضروري أن تطلعي على أمريكا الأخرى…”
أجبت:
– “حظوظي قليلة لتحقيق هذه الغاية. لا أملك المال…”
هتفت جذلى:
– “أنا بدوري صرفته كله.. لذلك رجعت. ما زالت لدي الشقة التي تركها لي بلاز وبعض اللوحات. سأبيع واحدة أو اثنتين لتدبر المصاريف. لم أعد في سن يخول لي لقاء حبيب غني… ولا حتى فقير لا محالة!”
قالت كل هذا وهي تقهقه لتنتهي إلى الاستفهام عن حالي، فحدثتها عن حقيقة وضعيتي: وحيدة في شقتي، دون عمل مع منحة التقاعد الهزيلة… فاقترحت:
– “هل تعلمين ماذا سنفعل؟ ستبيعين الشقة أو تؤجرينها، وهو ما سيوفر لك مالا، ونسكن معا، بهذه الطريقة، سنقسم مصاريفنا على اثنين.. وهكذا لن نعود وحيدتين! ما رأيك؟”
عجزت على التفوه بثلاث كلمات بشكل متناغم، لحسن الحظ أن ديان استمرت في الكلام، واستحضرت ذكريات من طفولتنا، لا تشبه ما خزنه ذهني أو نادرا ما يتشابه. بدا لي ما ترويه غريبا ورديا بهيجا وأحيانا مضحكا. أين كنت في هذه الجنة التي تصفها؟
اكتفيت ببعض التعاليق الموجزة بنبرة متلجلجة، وأوغلت في التفكير. سألتني:
– “هل ما زالت على صلة ببعض الأصدقاء؟”
“لا! ابتعدوا منذ مرض زوجي، وما سعيت بعدها إلى ربط العلاقات مجددا.”
– “أنا بدوري ما عدت أعرف أحدا في باريس.. سنتدبر هذا الأمر!”
..أن أسكن معها… أن لا أبقى بمفردي كل الليالي آكل المكرونة في المطبخ دون شهية… وحيدة أمام الهاتف الذي لا يرن تقريبا… وحيدة أشاهد التلفاز… ماذا إذا مرضت أو كسرت رجلي؟ ما الذي سأخسره إذا قبلت اقتراح ديان؟ لن أبيع شقتي، سأؤجرها… لا يمكن معرفة ماذا يستجد لاحقا… إنها متقلبة المزاج وقادرة على إحياء علاقاتها وإقصائي… سأحتفظ بمرفإ أمان…
قالت ديان:
– “سنذهب إلى المسرح والأوبرا والمعارض، ستينيتان في قمة الانتشاء تخلصتا من أسر الرجال! يا للراحة سيكون هذا بهيجا.. سترين! في هذا السياق، ما الذي حصل بشأن أستاذ الفلسفة الذي حام حولك مجنونا بحبك؟ هل عشت معه مغامرة عشقية؟”
أجبت مستنكرة:
– “لا أحد جن بي! لا أحد ! عمّ تتحدثين!”
– “متأكدة مما أقول، لكن الشقي يغالب الخجل فيغلبه، فينبري يشرح أفكار سبينوزا عوض الحديث عن الحب…
شعرت بالذهول، بعدها، رددت:
– “لم يحدثني أحد عن الحب ديان، وأنا لم أحب أحدا… ما عداك!”
أفلتت مني الجملة الأخيرة.
– “عنزتي المسكينة، هذا لأنك عاجزة عن الإنصات. نحن متفقتان أن لشخصيتك خصوصيتها، كما قال إدوارد: أختك تشتغل جيدا، إلا أنها سيئة الطباع، يشعر المرء أنها لطالما تعرضت للتعنيف!”
شعرت بالاستياء وهمهمت:
– “يوم طردني.. هو من تقمص دور المعنف”
دخل الجراح الغرفة متبوعا بالممرضة التي أنارت المكان، حيا ماتيلد، اقترب من ديان وسأل:
– “هل تم تغيير الضمادات؟ حسن. الحرارة؟ جيد. جيد جدا! هل تشكو بصفة دائمة؟”
ردت ماتيلد:
– “لا…تألمت قليلا فحسب…”
– “حسنا. دعيها ترتاح… إنها بحاجة إلى النوم!”
خرج ولحقته الممرضة بعد أن أطفأت الضوء.
تقبع ماتيلد الآن في العتمة… لقد خيّم الليل ويمكنها ترك مكانها حذو ديان، لكنها، لم تجد حافزا للمغادرة، فعملية استرجاع الماضي أثقلتها كثيرا، أربكت ذهنها المصرّ على الاستمرار في التوغل، ستتبعه لبعض الوقت… ربما تعثر، في غابة الذكريات هذه، على كوة ما؟
قبلت العرض لنبدأ معا حياة جديدة. باعت ديان إحدى اللوحات البديعة لستائيل، وأبدت استعدادا للتمادي والتفويت في كل شيء، لكني، أمسكت زمام الأمور وصادرت دفتر الشيكات لتغدو مجبرة أن تطلبه مني، وراقبت مصاريف المنزل، مدققة في تدبير الخادمة الكاريبية، واعتبرت وجودها ترفا، إلا أن ديان بتت في هذا الشأن بشكل قاطع:
– “لم نخلق للقيام بأعمال المنزل!”
طلبت أن أصبغ شعري غير أني رفضت، فحاولت إقناعي:
– “ستبدين أصغر سنا بعشر سنوات على الأقل!”
-” ما الفائدة؟ لن أغدو مثيرة في هذا العمر…”
– “لا تنسي أن لنا ذات السن! تشعرني رؤيتك بهذا المظهر أني عجوز!”
استسلمت لرغبتها لأرتاح من مضايقاتها المتكررة، بعد ذلك، ما اكتفت بهذه الصبغة وتحولت مسألة الاعتناء إلى أعمال شاقة وباهظة وزائدة، غير أن ديان تدفع برحابة صدر، وأرادت أيضا التدخل كي تختار لي ثيابي.
– “لا تعولي عليّ لارتداء فساتينك القديمة!”
قلت ذلك، وأنا أتذكر كيف يتم تقصير فساتيني لترثها ديان، في طفولتنا. لماذا وجهت لها هذه الملاحظة المسيئة؟
إنها العادة على ما أعتقد، لأني لا أثق بالكرم المجاني منذ أوتني ديان، لم أتوقف عن التساؤل عن دوافعها العميقة.
مشاركتي في المصاريف ضئيلة جدا! إنها تدفع كل شيء: ثمن تذاكر العروض أين نذهب أغلب الوقت، مصاريف ارتيادنا المطعم، كلفة حصصنا عند الحلاق الذي تسحبني إليه…
استرجعت بعض العلاقات مع أصحاب القاعات الفنية أين خلفت ذكرى متقدة، بيد أن أغلبهم يعاني مصاعب مالية… إن لم يغلق بعد.
ذات ليلة في الأوبرا، ذهبنا للإصغاء إلى مقطوعة “فارس الزهرة”، ارتمت ديان بين ذراعي رجل مسن احتفظ بقسامته… إنّه أحد أصدقائها منذ عهد بلاز، حين كانت تستقبل الرائحين والغادين إليها، أفعمه التأثر للقائها مجددا، لينطلق خطابه بصفة
طبيعية:
– “كم أنت جميلة يا ديان!”
هل يجوز ألا يعيد هذه الترديدة المملة!
تولت ديان تقديمي إليه، ليعلق:
– “ما علمت أن لديك أختا…إنها تشبهك، لا محالة…”
لم يجانب كلامه الصواب.. لدينا شبه عائلي كما يقال، ذات الوجه البنّي والتباعد بين العينين…
تفحصني الرجل بنظرة متفاجئة من الأعلى حتى حذائي… ملابسي الرثة لا تمت بصلة إلى نوعية ثياب ديان البتة. ثرثرا برهة، إلى حين الإعلان عن انتهاء فترة الاستراحة، لم يشغل مقعدا في ذات الطابق، فاضطرّ إلى الانصراف.
لاحظت أن ملامح ديان أشرقت إثر اللقاء، ووعيت أنها امرأة عاشت دائما محاطة بحاشيتها حتى حرمت من هذا الالتفاف… أنا حاجزها الأخير ضد العزلة التامة. لقد جعلتني أضطلع بهذه الوظيفة وأطعتها تحت وطأة عاطفة لا أتبينها…
وهي… ماذا فعلت؟ حرمتني من القهوة لأنها حسب ادعاءها توتر أعصابي، فرضت أن أرتدي مشدا لألملم ترهلي، نكدت عيشي بإلحاحها كي أستبدل سنا اسود لونه.. وماذا أيضا! إنّ جعلي هدفا مباشرا لسليقتها الفطرية للسيطرة التي لطالما تعاملت على أساسها مع الآخرين يرجع إلى عدم إيجادها أشخاصا أشدّ قيمة مني…
تشاجرنا كثيرا بسبب أمور غير ذات بال، مجرد ترهات، كعدم تقاسم نفس الرأي حول فيلم أو كتاب أو طريقة طبخ فخذ خروف، نتشاحن حول قطي الذي أفسد الأرائك، فهي ترفض اعتنائي بقط.
نتوقف دائما قبل تطور الخلاف، فهي خائفة بشكل جلي أن أصفق الباب ورائي وأغادر.
في أحيان كثيرة، فكرت أن أدفع ثمن هذه الهدية التي منحتني إياها، وأبوح لها بكل ما يعتمل في صدري: عاداتها المستهجنة، صبيانياتها الزائفة، هذا السخاء الذي تنتظر من أختها الكبيرة الفقيرة تقديره كمعروف يتطلب التعبير عن الامتنان، وهي التي تمتنع عن التفوه بكلمة “شكرا” كأنها ستسلخ شفتيها.
لكني، بقيت لأسباب مبتذلة… كيلا أعود إلى شقتي المظلمة. كي لا أحرم نهائيا من التنزه. كي لا أضطر إلى تشغيل المكنسة الكهربائية وأخرج لألقي القمامة. وجب الاعتراف أنها دوافع غثة، إذ تعوزني الإمكانيات كي أحيا بنبل.
عشنا معا ثلاث سنوات، إلى أن قالت ديان ذات صباح، وهي تتناول فطور الصباح مستلقية على فراشها -وهو من بين التصرفات التي تغيظني-:
– “هيا نذهب إلى الريف.. الشمس بديعة وأحتاج لرؤية الخضرة… ما رأيك؟”
لست مولعة بذاك المكان، واقترحت أن تقصده وحدها، فقرعتني كما لو أنني سائق غير مطيع. تدّعي أنها لا ترى جيدا، لذلك أولتني القيادة، أما السبب الحقيقي يتمثل في انزعاجها من البحث عن مكان تركن فيه السيارة.
ابتعدنا عن باريس قرابة خمسين كيلومترا، بلغنا طريقا أعرفها جيدا لأنها قريبة جدا من منزل طفولتنا… صدح الراديو بأغنية لجانسبورغ الذي تعشقه ديان، غمرتها السعادة، وعلا صوتها بالغناء، وفجأة…
فجأة…
“أخبريني ماذا حصل تحديدا سيدتي!”
– “لقد سبق وفعلت سيدي المفتش، كنت أقود السيارة بهدوء…
– “أكد الشاهد أن السرعة فائقة!”
– “كما تشاء… كنت أقود… على حين غرة، برزت شاحنة صغيرة من المنعطف، وصدمتني بقوة…”
– “هل انتحيت الجهة اليمنى أم اليسرى؟
– “اليمنى.”
– “كنت في الجهة الخطأ إذن.. واصلي!”
– “تلقيت صدمة مهولة…ترجلت واهنة القوى، واستدرت نحو باب السيارة الآخر الذي تحطم فعلق وما تمكنت من فتحه … أبصرت أختي التي تدحرجت من مكانها، لم تربط حزام الأمان.. لطالما أوصيتها: “ضعي الحزام!”، غير أنها لا تستجيب ولا تفعل إلا ما يحلو لها…اقتربت سيارة وتوقف سائقها فطلبت النجدة…”
– “هل تعرفين أن أختك مصابة إصابة خطرة وهي في حالة حرجة؟”
– “أعلم”
– “حسنا! سأعيد استدعاءك إذا استوجب الأمر”
رحلت ديان بعد أسبوع من الحادث، في الليل، دون أن تتوجع، فقد أغدق جسدها بالمورفين، لم تدرك ما الذي حصل تحديدا.
ورثت شقتها ولوحة أخيرة لديبيفاي عرضتها للبيع وبعض الحلي زهيدة القيمة منحتها للخادمة التي لم تتوقف عن البكاء.
عاد الفراغ إلى الهيمنة على أيامي، لذلك أستغل الساعات في تكرار مشاهدة الأشرطة التي أخرجها أبي مستعملا آلة التسجيل. أراني مع ديان المتفتحة في أعمار مختلفة، وأظهر دائما بملامح فزعة شبيهة بعمود مذعور!
عجزت عن النوم، يستمر ذهني في التفكير بشكل لا نهائي في علاقتي بأختي، منذ اليوم الذي قدمت فيه وليدة إلى المنزل إلى اللحظة الموجزة التي تأخرت فيها عن الضغط على المكابح. ما الذي جرى لي حينها؟
نشر هذا النصّ في مجلّة حروف حرّة، العدد 22، جانفي 2023
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf22