العدالة الاجتماعية أو في العدالة باعتبارها إنصافا
|بقلم: مريم مقعدي
لعلّ ما يحثنا اليوم على إعادة التفكير في مسالة العدالة الاجتماعية هو وجود ما يناقضها راهنا من كل أشكال اللامساواة والظلم والقهر الذي يمارس على المواطنين المشاركين في المدينة والذين يتدبرون شؤونها. ولما كانت العدالة غير متحققة راهنا، فهذا يجعلنا نفترض مبدئيا أن العدالة مستحيلة على مستوى البشر. وحده شعب أو مجتمع من الآلهة إذن يمكن أن تتوفر فيه صفة العدالة. وإنّا إذ نقول “صفة” العدالة فذلك لأنّ منحى تفكيرنا هنا أخلاقي بامتياز. ذلك أن اليونان القدامى – أرسطو وأفلاطون مثلا…- قد جعلوا من التفكير في السياسة تفكيرا منضويا تحت راية الأخلاق. صفة العدالة هي شرط كل تأسيس أخلاقي واجتماعي. ولكن إذا سلمنا مؤقتا بان العدالة ليست ممكنة إلا في السماء، أي أنها ممكنة فقط في أفق الآلهة مثلما يقر بذلك اللاهوتيين و”أصدقاء السماء”، فإنّ ذلك يؤدي إلى إنكار فاعلية التاريخ وتعطيل كل المحاولات التي تروم إلى إصلاح الواقع السياسي-الاجتماعي. لابد إذن من تأسيس العدالة كمشروع إجرائي، أي كبرنامج ينظم الوجود الاجتماعي وفق أفق أخلاقي يتحقق من خلاله التوزيع العادل للثروات بين البشر، فتكون بذلك العدالة إنصافا.
1-البيئة الاجتماعية للعدالة
من زاوية نظر فلسفية قديمة وحديثة، يمكن حصر البنية الاجتماعية للعدالة في مدرستين:
– المدرسة النفعية، التي ترجمها خاصة اليونان في كتاباتهم (أفلاطون ،أرسطو …). إذ تعتبر هذه المدرسة أن العدالة ترتبط بمنفعة أكبر وأسمى منها، ألا وهي تحقيق السعادة، أي أن هذا التيار النفعي يجعل من العدالة مجرد وسيلة لغاية أسمى منها. ففي مستهل كتابه ” الأخلاق لنيقوماخوس “، انطلق أرسطو من أمر كان يبدو بديهيا بالنسبة إلى اليونان القدامى ألا وهو أن كل فن أو عمل هو مجرد وسيلة لغاية أكبر منه، و منه أطروحة تقول ” أن الخير هو مقصد كل شيء”. وبهذا المعنى انتهوا إلى جعل ” الخير الأسمى ” الغاية الكبرى من وجودنا، أي أنهم انتهوا إلى جعل السعادة الهدف الأسمى من وجودنا.
-أما المدرسة الثانية، فهي مدرسة “الواجب الأخلاقي ” التي يمثّلها كانط والتي تعتبر أن العدالة تعتبر مسالة واجبات صارمة لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها لصالح أي أهداف أخرى. بهذا المعنى إذن، تصبح العدالة مثلما تصوّرها كانط واجبا أخلاقيا يحمل غايته في ذاته. على المرء إذن أن يكون فقط جديرا بالعدالة، باعتبارها واجبا أخلاقيا.
من زاوية نظر أخرى، كانت كل المفاهيم القديمة حول مفهوم العدالة (قبل تبلور مفهوم العدالة من قبل راولز) تدور أساسا حول محورين أساسيين:
أولا، إن المصادر القديمة كانت تحمل بشكل منتظم وصفا لتدرج حاد في هرم السلطة، والمنزلة الاجتماعية والثروة باعتبارها تجسيدا لنظام سياسي واجتماعي عادل. ليس هناك أثر واضح إذن للالتزام بمبادئ الحرية والمساواة التي ينبني عليها الوجود البشري.
ثانيا، إن التفكير في هذه المسالة، كان يدور أساسا حول مسالة الجزاء، أي أن الغرض الأساسي للعدالة كان يتجلى أساسا في منع الأقوياء وحمايتهم من اضطهاد الضعفاء. وفي هذا الإطار، لقد كان القانون البابلي أو ما يعرف خاصة “بشريعة حمورابي” يستمد شرعيته من الآلهة لمحاربة الأشرار وإحلال السلام في الأرض، إذ كان هذا الأخير يعتبر أن الآلهة قد عينته ليكون صاحب الشريعة في بابل. إذ يقول صراحة ” اهتف باسمي، يا حمورابي
أيها الأمير المبجل الذي يخاف الآلهة،
أن اجعل العدالة تعم رحاب الأرض
واقض على الأشرار والآثمين
حتى أمنع الأقوياء من اضطهاد الضعفاء،
وأشرق كالشمس حقا على التعساء والمظلومين
فيغمر الأرض نور وجهي.”
2-فكرة العدالة الاجتماعية
على الرغم من أهمية ما قدمه مفكري وفلاسفة ما قبل القرن العشرين- مثل آدم سميث وايمانيول كانط …- وحتى فلاسفة الإغريق القدامى – ولا سيما أفلاطون في جمهوريته – من تصور لمجتمع عادل، إلا أن هذه الرؤى كانت تخفي في صميمها مشروعا يوتوبيا حالما غير قابل للتحقق راهنا. ففي كتاب ” الجمهورية ” مثلا باعتباره أول عمل واسع الأفق كتب في مجال النظرية السياسية، كان أفلاطون قد رسم صورة موسعة المضامين لدولة مدينية، إذ ما حصل أن تحقق وجودها بالفعل وأدت بالتالي إلى تغيير كثير من الممارسات التي اعتاد عليها مواطنو أثينا، غير أن أفلاطون لم يتوقع أو لم يكن ينوي أن يرى ذلك النوع من المدينة الفاضلة يتحقق راهنا، بغض النظر عن التراتب الهرمي الحاد الذي يحكم السلطة آنذاك. وحده الفيلسوف بالنسبة لأفلاطون وحتى بالنسبة لأرسطو هو القادر على تدبير المدينة (أي القادر على سيادة المدينة بالمعنى الحديث).
لقد كانت إعادة تبلور فكرة العدالة الاجتماعية في القرن التاسع عشر، بفضل التطور العلمي والتقني، بمثابة رسالة اعتذار للمجتمعات التي كانت تعيش وفق قوانين حالمة تخفي في باطنها كل أشكال اللاعدالة. هذا الموقف “الجديد” غيّر كل مظاهر العدالة جذريا، ولعل ذلك يعود إلى تغير التصورات السائدة عن بيئة العالم الاجتماعي ذاته. إذ لم يعد للعالم الاجتماعي تضاريس تنحتها الطبيعة، وإنما أصبحت هذه الأخيرة نتاجا للأفعال والممارسات البشرية. ولما كانت البيئة الاجتماعية شأنا بشريا، فإنها قابلة للإصلاح أو للتغيير ضمن المجال السياسي.
يبدو أن سيطرة الإنسان على الطبيعة مهّدت لبروز أشكال جديدة من الوعي السياسي، خاصة الوعي بضرورة تطبيق العدالة غاية ضمان حقوق المواطنين وتساويها أمام القانون. لكن هذه الأخيرة أصبحت تفرض علينا جملة من التحديات والرهانات الجديدة، لعل أهمها يتمثل في انه لا يمكننا تطبيق مبدأ واحد من مبادئ العدالة على جميع المجالات. ولعل هذا ما دفع بجون راولز في منتصف القرن العشرين أن يبتدع نظرية جديدة في العدالة الاجتماعية، تتأسس ضمن منحى إجرائي وأخلاقي يرفع رهان الإنصاف.
3- العدالة باعتبارها إنصافا
في كتابه الذي ابتدعه في النصف الثاني من القرن العشرين، والذي أطلق عليه اسم ” نظرية العدالة ” ، أسس جون راولز لنظرية جديدة في العدالة الاجتماعية، سماها بـ “العدالة بوصفها إنصافا”.
لقد كان راولز على وعي بوجود كم هائل من الأفكار التي سبقته التي تتناول العدالة الاجتماعية، وتدور أساسا حول مفاهيم الاستحقاق والاحتياج. ولكنه في المقابل، ركز نقده على مبدأ المنفعة، الذي لا يضمن حسب رأيه الحريات بشكل كاف. ففي بعض الحالات، يحصل أن تتحقق السعادة لأغلبية الناس، ولكن ذلك يتم بحرمان الأقلية من حرياتهم. وبهذا المعنى، إذا تحقق مكسب السعادة لأغلبية الناس، فإنه قد تحقق مقابل فقدان الأقلية لحرياتهم. هذا وحده كفيل حسب راولز بأن ننقد مبدأ السعادة القصوى، أي مبدأ المنفعة.
إن فكرة العدالة هذه التي ترتكز على مبدأ المنفعة، لا توفر ما يكفي لضمان حريات بعض المواطنين. إضافة إلى ذلك، فان ما ينقده أساسا راولز في هذا المذهب هو التصور الأحادي لمفهوم الخير. أي أن هذه النظرية تجعل من السعادة المقياس الوحيد والفريد الذي بإمكانه تحقيق رفاه البشر، في حين أن للبشر ميولات واهتمامات متشعبة وغايات مختلفة. وبهذا يمكن اعتبار السعادة القصوى بعدا واحدا فقط وغاية ممكنة من تلك الغايات المختلفة للبشر. لهذا يوافق راولز كانط في القول بأنّ حرية البشر هي التي يجب أن ترافق تفكيرنا في العدالة، وليست سعادتهم.
عموما، يذهب راولز إلى اعتبار نظرية المنفعة تركز أساسا على رفاه وسعادة البشر، أكثر من تركيزها على نظرية العدالة في حد ذاتها، أي أنها تركز على التوزيع العادل والمتساوي للثروات بين البشر. يقول راولز في كتابه ” نظرية العدالة “:” إن العدالة هي الفضيلة الأولى التي ينبغي أن تتحلى بها المؤسسات الاجتماعية … ويتعين إصلاح القوانين والمؤسسات بغض النظر عن مدى جدواها إن لم تكن عادلة”.
إن نظرية الحق بالنسبة إلى راولز، هي التي ينبغي أن تتقدم على نظرية الخير في تفكيرنا في العدالة كإنصاف اجتماعي.
إن الموضوع الأساسي الذي يتناوله راولز في تفكيره، هو العدالة الاجتماعية التي تهتم بدورها بالتركيبة الأساسية للمجتمع (أي جملة المؤسسات الاجتماعية والدستور السياسي والتركيبة الاقتصادية …) وجملة المنافع التي يتم توزيعها في تلك التركيبة. ويبدو أن راولز بتركيزه على هذه الأخيرة التي تحدد وتشكل منذ البداية كل طموحات وآمال الأفراد، إنما يسلّط أساسا الضوء على حالات عدم المساواة وعدم التكافؤ التي تنتج عن تلك التركيبة. لذلك يقترح علينا أن نقوم بتوزيع المنافع بما يتوافق مع الاستحقاق الأخلاقي، وفي هذا الإطار فصل راولز بين الاستحقاق والحاجة، أي بين ما يساهم به الأفراد ويستحقونه وبين حاجاتهم المختلفة إذ يقول “لكل وفقا لاحتياجاته ” .
بهذا المعنى إذن تكتسب العدالة الاجتماعية منحى إجرائيا أخلاقيا يجعل منها إنصافا. فليست العدالة إذن فضيلة شخصية، وإنما هي نظرية سياسية تؤول كإنصاف أي أنها تركز على توزيع الخيرات بشكل عادل ومتساو بين المواطنين.
خاتمة
على الرغم من تعدد النظريات السياسية والفلسفية والاجتماعية حول مسألة العدالة الاجتماعية باعتبارها مسالة جوهرية في مضمار الفلسفة السياسية، إلا أنها مع راولز وجدت نموذجها الأمثل، ولعل هذا ما دفع به إلى أن يصف نظريته في العدالة الاجتماعية على أنها نظرية ” مثالية “، لأنها تؤسس أو تراهن على الأقل على مجتمع عادل بالشكل الأمثل.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 29، أوت 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf29