المرأة التونسية وفكرة العدالة من مجلة الأحوال الشخصية إلى اليوم

بقلم: رفقة الوراسي

لطالما حظيت فكرة العدالة باهتمام المفكّرين والسياسيين إذ بغيابها يستباح الاستبداد وتعمّ الفوضى. والعدالة مفهوم مرتبط بمفاهيم أخرى كالحق والحرية والمساواة لذلك فهي ضمانة للعيش الكريم وحماية للحريّات ومنع للتعدّي عليها. بصورة أشمل هي تطبيق القانون على الجميع دون استثناء ومن هنا يتجلّى قول أنّ “وظيفة القانون هي تحقيق العدالة”.

يشير مفهوم العدالة إلى “عدم الانحياز إلى فئة أو شخص ما في أمر ما من غير وجه حق”، كما أنها مرادفة للإنصاف، وهو “نقيض الظلم والتطرف” ويمكن تعريفها بأنها “إحدى القواعد الأساسية في المجتمع لضمان استمرارية الحياة البشرية ضمن جماعات”.

تعرّضت المرأة التونسية لعدّة مظاهر من الظلم والاستبداد، لذلك لم تكن مسيرتها في فرض قوانين تحرّرية تتماشى مع المواثيق الدولية والحقوق والحريّات الحديثة لم تكن بالسهلة أبدا.

نجحت المرأة في مكافحة التمييز بين الجنسين من خلال إرساء عدّة قوانين وتشريعات ضمنت من خلالها حرّيتها وعزّزت مكانتها في المجتمع. وقد تبلور مسار المرأة التونسية نحو تحقيق فكرة العدالة في ثلاثة مراحل كبرى كانت أوّلها معركة التحرير بقيادة الطاهر الحدّاد، ثمّ توّجت الحركة الإصلاحية بصدور مجلة الأحوال الشخصية التي كان للرئيس الحبيب بورقيبة دور ملموس في الدفاع عنها وهي من أهم إنجازاته ما بعد الاستقلال إذ ساهمت في النهوض بالمرأة واعتبرت حقوقها جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، ممّا ارتقى جوهريّا بملف المرأة من طور المساواة إلى طور الشراكة.

بعد ذلك، شقّت المرأة طريقها في نيل جملة من الحقوق والامتيازات المدنية بالدفاع عن حقوقها المكتسبة مع المطالبة بالمزيد ربّما تكون في ذلك متّبعة سياسة “خذ وطالب” إذ تمّ التنصيص على جملة من الحقوق في دستور 2014. في ظلّ هذه القوانين والمكاسب الوضعيّة، ظلّت فكرة الوصول إلى العدالة منقوصة إذ تتطلّب المزيد من الجهود حتّى تستطيع المرأة التمتّع بما نصّت عليه القوانين نفسها الّتي أنصفتها وشرّعت لأجلها. وهو ما زاد إصرارها وتشبثّها بفكرة العدالة فكلّما تعرّضت لعائق التعدّي على حق من حقوقها، تعالت أصوات النسويات المناديات بضرورة التدخل القانوني لإنصافهنّ. ومع ذلك فإن المرأة ما زالت إلى اليوم تقاوم أساليب انتهاك حقوقها من عنف واستغلال وتهميش وقد يعود ذلك أو جزء منه لإخفاق الدولة في تطبيق نصوص القوانين على أرض الواقع.

بناء على ما تمّ بسطه فإنه على الرغم من النصوص التشريعيّة الضخمة التي رصدتها المرأة التونسية منذ الاستقلال إلى اليوم تبقى معركة حقوق المرأة متواصلة بين التشريع الوردي والواقع الظلامي ليبقى الإشكال المطروح :هل أنّ فكرة العدالة مجرّد فكرة هلامية وحبر على ورق… أم أنّها يمكن أن تنعكس بشكل ملموس على حياة المرأة التونسية؟

 

المكسب التشريعي للمرأة التونسية منذ الاستقلال إلى اليوم.

راهن الزعيم الحبيب بورقيبة على المرأة وركّز تركيزا قويّا على النهوض بأوضاعها طيلة فترة حكمه.  إذ تعدّ مجلة الأحوال الشخصية أوّل النصوص التشريعية التونسية المناصرة للمرأة والتي صدرت بعد ثلاثة أشهر من الاستقلال، وكان صدورها تتويجا للحركة الإصلاحية التي عبّر عنها بالخصوص الطاهر الحدّاد وأصبحت المجلّة منذ 13 أوت 1956 الضمان القانوني للحقوق الأساسية للمرأة وتنظيم العلاقات داخل الأسرة.

جاءت هذه المجلّة ثريّة بعديد الفصول القانونية الرائدة خاصة في زمن مازال الجدل قائما فيه بشأن حقوق المرأة في البلدان العربية وبين ما يراد لها أن تمارسه من أدوار في تونس. يمكننا القول أن المرأة التونسية وتماشيا مع فكرة العدالة قد كسّرت الأغلال لتقف على الأرض بثبات مكرّمة مصانة الحقوق. إذ حددت مجلة الأحوال الشخصية سن الزواج لغاية ترسيم علاقات أسرية متوازنة ومنعت تعدّد الزوجات والطلاق إلاّ أمام القضاء، وهو ما يعتبر ثورة تشريعية لاسيّما إذا قارنّا وضع المرأة التونسية بنظيراتها في الدول العربية.

كان للمرأة كذلك حضور قويّ في بعث الجمعيات والمنظمات وفي الحياة السياسية وقد أمضى الرئيس الحبيب بورقيبة على شهادة بعث الإتحاد الوطني للمرأة التونسية وترأس أوّل مؤتمر له سنة 1958، ثم جاء دستور غرّة جوان 1959 ليكرّس مبدأ المساواة بين المرأة والرجل، وتتالت التشريعات لإقرار حقوق المرأة المدنية والسياسية (حق الانتخاب والتعليم والعمل.) وصادقت تونس على الاتفاقيات الدولية المتصلة بحقوق المرأة، كما تم إحداث آليات مساندة للمرأة من أهمها وزارة شؤون المرأة والأسرة.

إبّان الثورة، التفّت التونسيات حول أهدافهنّ وتطلّعن لمزيد من الحقوق المكتسبة، وهو ما حسمه دستور 2014 بتنصيصه على أنّ المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء امام القانون من غير تمييز. وحيث تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها وهي الضامنة لتكافئ الفرص بين الرجل والمرأة. واصلت تونس بخطوات جديدة في مسار ضمان حقوق المرأة، ففي 2014 رفعت كلّ التحفظات الخاصة بإتفاقية “سيداو” المصادق عليها سنة 1985 وهي معاهدة دولية اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979، وتهدف للقضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة مع التشبّث بعدم مخالفة الفصل الأول من الدستور الذي يقرّ أن “دين الدولة هو الإسلام.” خطوة أخرى نحو الأمام لتونس في مجال حقوق المرأة سنة 2015 بتعديل قانون جوازات السفر الذي أصبح يسمح للمرأة بالسفر مع أبنائها القصّر دون الحاجة إلى تصريح من والدهم وذلك بخضوع القاصر لترخيص أحد الوالدين فقط دون تمييز بين الرجل والمرأة، وهو ما يؤكد أن المرأة شريك على قدم المساواة مع الرجل في إتخاذ القرارات المتعلقة بأطفالهما.

مع تطور المجتمع و تطور معها فكرة حصول المرأة على حقوق عادلة تضمن لها حياة كريمة ومع تسجيل أرقام خيالية لظاهرة العنف المسلّط على النساء في تونس تمّ إرساء قانون جديد يستوفي المعايير الدولية في مكافحة ظاهرة التمييز والعنف المسلّط على المرأة .إذ أقرّ البرلمان التونسي قانون مكافحة العنف ضدّ المرأة بمقتضى القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 مؤرخ في 11 أوت 2017 والمتعلق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة، وقد ورد في وثيقة شرح الأسباب أن هذا القانون يهدف إلى تلافي الثغرات وقصور النصوص القانونية التي كانت موجودة ويقوم على أربعة ركائز :

  • الوقاية من العنف
  • حماية النساء ضحايا العنف
  • تجريم مرتكبي العنف
  • الإجراءات والمؤسسات التي تقدم الإحاطة للنساء ضحايا العنف.

تتمثّل أهم النقاط التي جاء بها القانون خاصة في إنشاء مرصد وطني لمناهضة العنف ضد المرأة وهو ما نصّ عليه الفصل 40 من القانون المذكور وهذا المرصد يخضع لإشراف الوزارة المكلفة بالمرأة ويتولّى القيام برصد حالات العنف ضدّها مع توثيق حالات العنف وآثاره بقاعدة بيانات أحدثت لهذا الغرض.

من الناحية الجزائية تمّ رفع مدّة عقوبة مرتكب التحرّش الجنسي من سنة إلى سنتين، ورفع قيمة الغرامة من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف ويكون العقاب مضاعفا إذا كانت الضحية طفلة أو الفاعل من أصول أو فروع الضحيّة أو كانت له سلطة عليها. كما تمّ إلغاء تزويج الجاني بالمجني عليها والذي يهدف لوقف التتبع ضدّ الفاعل في قضيّة الاغتصاب وذلك بعد حملة مناصرة كبيرة من الجمعيات الحقوقية في تونس. كما جاء الفصل 227 من نفس القانون بتعريف جريمة الاغتصاب التي كانت ضبابية وغير معرّفة إلاّ من قبل فقه القضاء.

أظهرت تونس توجّها نسويا فريدا في العالم العربي من خلال ما تمّ بسطه من تشريعات ناضلت المرأة التونسية طويلا حتّى تنالها بها ومازالت فكرة العدالة هاجسها حتى تصل إلى أكثر ما يمكن من المكاسب في ظلّ التطور الذي يشهده العالم على مستوى الحقوق.

المرأة التونسية بين التشريع الوردي والواقع الظلامي

قطعت المرأة التونسية أشواطا كبيرة من خلال فرض تشريعات تحررية تتماشى مع مواثيق حقوق الإنسان الدولية. لكن على أرض الواقع يمكن الجزم أن هذه التشريعات لا تكفي لحماية المرأة من الانتهاكات.  تشير الإحصاءات الرسمية إلى تدنّ مقلق في وضع المرأة في العمل مقارنة بنسب التفوق التي تشهدها تونس في قطاعات التعليم إذ تمثل المرأة 65% من الحاصلين على شهائد عليا، لكن رغم المساواة في الأجور في القطاع العام، فإنّ هيمنة الرجال على المناصب القيادية العليا واضحة. كذلك نجد النساء أكثر عرضة للاستغلال الاقتصادي إذ نجد 7% من النساء تعرّضن للعنف الإقتصادي والّذي عرّفه الفصل الثالث من القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017، بأنه ” كل فعل أو امتناع عن فعل من شأنه  استغلال المرأة أو حرمانها من الموارد الاقتصادية مهما كان مصدرها…” ولعلّ ذلك يعود  للتشغيل الهشّ الذي يجعل من المرأة في علاقة  عبودية في العمل، فالنساء الريفيات  يعملن كأجيرات في أراضي كبار المزارعين بأجور تقل بنسبة الثلث إلى النصف عن أجور الرجال مع التنقل في شاحنات معدّة لنقل السلع والدواب بلا أي وسيلة لضمان سلامتهن الجسدية. تحتاج التونسية الفلاحة لإطار قانوني توفره الدولة يحميها في عملها من تغطرس صاحب رأس المال. إذ لازالت المرأة الريفية في تونس تخوض معارك ضدّ مركزية الدولة التي لا تحترم حقها في التعليم والثقافة والصحة وهي في وضعية ترى فيها نفسها أقل من المرأة التي تقطن بالعاصمة، وهنا يصبح الحديث لا عن فعل المقاومة مع الذكورية بل بحاجتها للعدل الذي يحميها من تمييزها عن نظيرتها المرأة في نفس الدولة حتى تتصالح مع طبيعتها كامرأة.

لذلك دعنا نقول أن المرأة التونسية لا تحتاج لقوانين تجعلها في حرب مع الرجل، بقدر ماهي بحاجة إلى قوانين تضمن لها حياة مريحة وتجعلها شريكة له في الكرامة. فالحقوق المكفولة قانونا لم تكن كافية لتحقق المرأة التونسية المساواة الكاملة مع الرجل ولحمايتها من العنف سواء داخل محيط الأسرة أو خارجها، إذ حسب الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري، نجد أن 47% من النساء في تونس تعرضن لأحد أنواع العنف على الأقل مرة واحدة طيلة حياتهن وأن 32 % من النساء تعرضن لأحد أنواع العنف على الأقل مرّة واحدة خلال الأشهر العشر السابقة للدراسة. كذلك يمثل العنف النفسي المسلط على النساء 28% من نسب العنف ضدّهنّ. هذا ما يؤكد أن المرأة التونسية مازالت بعيدة كل البعد عن فكرة العدالة رغم كل النصوص التشريعية المتطوّرة التي لا تقترن بآليات تفعيلها في الواقع. في جانب آخر، يظلّ قانون مناهضة العنف ضدّ المرأة كتطبيق بعيد كل البعد عن روح النص التشريعي خاصة من خلال قصور وغياب آليات وبرامج الدولة التي تساهم في تفعيل هذا القانون وتطبيقه في ظروف جيدة. فمثلا نتساءل عن مقرّات الشرطة التي تتلقى الشكايات: هل تخضع هذه الأجهزة الذكورية إلى مراقبة الدولة وتقييمها لجديتها في التعامل مع الحالة المودعة!

الإجابة هي “لا” قطعا فنجد الكثير من الشكاوى تبقى في أدراج مكاتب الأمن ولا تصل إلى المحكمة لعدم تعامل هذه المراكز بجديّة مع الوضعية، وأيضا لعدم تخلّص النساء من مخاوفهنّ والرعب من ردّ فعل المعنّف فنجد بعضهنّ متردّدات ثم يسقطن حقهنّ في التتبع رضوخا لضغوط العائلة والمجتمع حيث أشارت تقارير منظمات المجتمع المدني إلى أن عام 2022 شهد 15 حالة قتل للنساء وهو ما يؤكد ضعف القانون الجديد الذي اعتبرته النساء مكسبا لهنّ لكنه غير كاف وغير قادر على حمايتها من العنف ولا من جبروت الرجل.

تحولت هذه الجرائم إلى آفة تضرب المجتمع، بالإضافة إلى تفشّي ظاهرة التحرّش الجنسي في الفضاءات العامة، فالمرأة تصبح فريسة متاحة للتحرّش الجسدي واللفظي والمعنوي وعدوانية الذكور أمام حقها في الجلوس بمكان عام بسلام.

على المرأة التونسية أن تبقى في حالة يقظة أمام النصوص التشريعية المكتسبة لضمان حقوقها وتتصدى لكل من تخول له نفسه ومرجعياته النيل من هذه الحقوق، ساعية إلى تحسين وضعها واقعيا حتى تصل إلى العدالة التي تحلم بها.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 29، أوت 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf29

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights