الظلّ- قصّة لهانز كريستيان أندرسن

ترجمة: رجاء عمّار

إنّ الوضع رهيب حقّا في البلدان التي ترتفع فيها درجات الحرارة بشكل كبير، إذ ترسل الشمس أشعّتها الحارقة، فيصبح النّاس سمرا، يتحوّل لون جلودهم إلى بنّي يميل إلى حمرة غامقة مثل خشب الأكاجو، وفي المناطق الأشدّ حرارة، يغدون سودا كالزنوج.

قدم حكيم من موطنه ذي الطقس البارد إلى أحد هذه البلدان، واعتقد، في البداية، أنّ بإمكانه التجوّل في شوارعها كما اعتاد في بلده، لكنّه، سرعان ما تيقّن من استحالة ذلك، ووجد نفسه مجبرا على انتهاج سلوك العقلاء والبقاء حبيس غرفته طوال النهار، وهو ما يجعل الطرقات مهجورة، فمن الصباح حتّى المساء ما تنفكّ الشمس تبعث وهجها نحو المنازل القابعة في سكون كأنّ أصحابها نيام.

وهو ما فاق طاقة احتمال الحكيم الشابّ الذي شعر كأنّه داخل أتون مستعر، وما فتئ جسمه ينحل بصفة مطّردة وظلّه يتقلّص بشكل لافت. 

إنّ هذه الشمس ألحقت به الضرر، فلم يعد يرجع إلى نسق حياته الطبيعيّ إلّا بعد غروبها.

تفعم البهجة صدره، حينئذ، فبمجرّد انتشار ضوء الشمعة داخل الغرفة، يتمدّد ظلّه على طول الحائط وعلى جزء من السقف أيضا، يتمطّى على قدر المستطاع لاسترجاع قواه، أمّا هو فيخرج إلى الشرفة ليستلقي على كرسي مسترخيا، وحين تظهر النجوم مزيّنة وجه السماء الجميل، يشعر شيئا فشيئا باسترجاع حيويّته وكأنّه يولد من جديد.

يظهر الناس على شرفات منازلهم وتنتعش الحركة في الطرقات، فالإسكافيّون والخيّاطون وغيرهم يباشرون عملهم، وتنصب الطاولات والكراسي وتنار الأضواء..

هذا يتحدّث وذاك يغنّي وآخرون يتجوّلون، العربات تجري على الإسفلت، والأحمرة تمرّ محرّكة رؤوسها فيتردّد صوت الأجراس الصغيرة المعلّقة في أعناقها، ويعبر موكب دفن مرفقا بالأناشيد المقدّسة، يلعب الصبية بالمفرقعات، تدقّ نواقيس الكنائس أجراسها… باختصار، يتدفّق النشاط الذي غاب كامل النهار.

منزل واحد، هو ذاك المواجه لبيت الحكيم، لا تنمّ عنه أيّ علامة دالة على الحياة، رغم أنّه مأهول لا ريب، فالزهور الرائعة المتفتّحة على الشرفة تؤكّد أنّ هناك من يسقيها، كما أنّ الباب يفتح في الليل، وتظلّ الظلمة تلفّ المكان، وتنبعث من الداخل موسيقى مذهلة لم يسبق للحكيم الإنصات إلى ما يضاهيها  عذوبة إلى درجة أنّه يشكّ أنّها ليست سوى وليدة خياله، وهو ما دعاه إلى استجلاء الأمر من صاحب البناية الذي أكد جهله التامّ بهويّة المستأجر، ولم يسبق له رؤية أحد في المنزل، أمّا فيما يتعلّق بالموسيقى، فقد صرّح أنّها تبعث على الملل بشكل فظيع، لينهي حديثه بالتخمين أنّ القاطن يتمرّن بصفة دائمة على ذات المقطوعة دون النجاح في إتقانها، مبديا اندهاشه من مثابرته.

استفاق الحكيم، ذات ليلة، معتقدا أنّه لمح شعاعا عجيبا يتأتّى من شرفة هذا الجار، ولمعت الورود كألسنة اللهب، يتوسّطها شخص أهيف فاتن يفوقها تألقا.

بهر هذا الضوء عيِنيْ الحكيم، فنهض فجأة وأبعد الستارة لاستجلاء الأمر… ليختفي كلّ شيء في لمح البصر، وحده الباب الداخليّ موارب، والموسيقى يتردّد صداها دون انقطاع، ضاعف ذلك من حيرته، جازما أنّ في المسألة سحرا ما، لتتدافع الأسئلة: من يسكن هناك يا ترى؟ أين هو مدخل البناية، فالمحلّات تصطفّ على قارعة الطريق ولا يوجد ممرّ أو سلم يمكن ارتقاء درجاته لبلوغ هذا المنزل في الطابق العلوي؟

في إحدى الليالي، جلس الحكيم كعادته في الشرفة، موليا ظهره إلى الغرفة المضاءة بشمعة، وهو ما يجعل من الطبيعيّ أن يرتسم ظلّه على حائط الجار مكرّرا جميع حركات صاحبه.

علّق الحكيم على المشهد قائلا:

-“أعتقد أنّ ظلّي هو الوحيد الذي يسكن هناك، كم تبدو جلسته رائقة بين الزهور قريبا من الباب الموارب! إنّ رهافته تخوّل له الدخول ليطّلع على ما يجري ويعود لإخباري بما اكتشفه!”

صمت هنيهة ليواصل حديثه موجّها خطابه للظلّ هازلا:

-“اذهب إذن وأثبِتْ على الأقل أنّك نافع للقيام بعمل ما! هيّا! ادخل، لكن لا تمكث طويلا!”

قام من مجلسه فأعاد الظلّ نفس الحركة، وحين استدار فعل مثله، من يتأمّل المشهد جيّدا، يستطيع أن يلاحظ دخول الظلّ عبر الباب الموارب للشرفة المقابلة، في ذات الآن، الذي دلف فيه الحكيم إلى غرفته مسدلا الستار.

في اليوم التالي، خرج لترشّف قهوته وقراءة الصحف، صاح متسائلا:

-“ما الذي جرى؟ أين ظلّي؟ تراه ذهب منذ ليلة الأمس ولم يعد بعد؟ هذا أمر مزعج للغاية!”

جثم غمّ ثقيل على صدر الحكيم، لم يكن سببه اختفاء الظلّ فحسب، لكن لأنّه يعرف حكاية رجل لا ظلّ له، مثلما يعلمها جميع سكّان البلدان التي يشتدّ فيها البرد، فإذا هو عاد يوما إلى بلده وروى قصّته الخاصّة، سيتّهم بالانتحال، لذلك قرّر ألّا يبوح بسرّه لأحد، بعد أن باءت جميع مجهوداته في استرجاع ظلّه بالفشل، فقد عدّل الضوء خلفه واستطال واستقصر وأعاد ذات الحركات مرارا دون جدوى.

شغل هذا الانفصال باله وأقضّ مضجعه، لكن، في البلدان ذات الحرارة المرتفعة، ينمو كل شيء بسرعة كبيرة، وفي غضون ثمانية أيام، راقب الحكيم ببهجة عارمة ظلّا جديدا يخرج من بين قدميه، فرجح أنّ ذلك يعود إلى بقاء جذور الظلّ القديم، وبحلول الأسبوع الثالث، غدا له ظلّ لائق جدا، يفوق ما كان يرجوه، إذ كان ليكتفي بنصفه أثناء سفره إلى بلدان الشمال.

عاد الحكيم إلى موطنه وألّف العديد من الكتب تمحورت مواضيعها حول ما يشتمل عليه العالم من حقّ وجمال وصلاح، ومضت السنوات وهو يكدّ مشغولا على نفس الوتيرة، إلى أن سمع ذات ليلة، بينما هو معتكف في غرفته، طرقا على الباب، فأذن للضيف بالتفضّل، لكن، لم تتمّ الاستجابة، فنهض وفتح الباب بنفسه ليرى أمامه رجلا نحيلا جدا وأنيقا بهيئة مهيبة، وحين استفسره الحكيم عن هويّته، أجابه:

-“خمّنت أنّك لن تتمكّن من التعرّف عليّ، خاصّة بعد أن أصبح لي جسم مكسوّا لحما وغدوت أرتدي ملابس! ألا تتذكّر ظلّك القديم؟ تراك حسبت أنّي لن أعود أبدا؟”

أضاف وهو يهزّ مجموعة من الأجراس التي تتدلّى من السلسلة الذهبيّة الثقيلة لساعته محدثة صليلا حادّا كلّما حرّكها بأصابعه المزيّنة بخواتم الألماس:

-“أضحيت غنيّا جدّا، لقد أسعفني الحظّ منذ تركتك! أتفهّم ملامح الاستغراب التي تلوح على محيّاك، إن ما جرى خارق للعادة، لكن، ألست أنت رجلا استثنائيّا، وأنا كما تعلم، اقتفيت خطوك منذ طفولتك! وجدتني ناضجا بما فيه الكفاية لسلك طريقي بمفردي في هذا العالم، لقد رميت بي في معمعته، وها أذا قد نجحت بتفوّق! أردت رؤيتك قبل موتك مستغلّا الفرصة لزيارة الوطن، تدرك ما نكنّه له من حبّ دائما، وما دمت تملك ظلّا آخر، أسألك إذا كنت مدينا لك أو له بشيء، أجبني من فضلك!”
ردّ الحكيم وهو ما زال تحت وقع الدهشة:

-“أنت جادّ إذن! أنت حقّا ظلّي القديم! هذا أمر خارج عن نطاق المألوف، لم يخطر لي يوما أنّك سترجع إليّ في هيئة إنسان…”

قاطعه الظلّ:

-“أخبرني بما تطلبه منّي، لا أحب الديون!”

-“عن أيّ ديون تتحدّث؟ أنا سعيد جدّا لنصيبك الحسن وما صرت عليه، اجلس يا صديقي العزيز واقصص عليّ كلّ ما حصل بالتفصيل، ماذا رأيت في منزل الجار القاطن في البلدان التي يشتدّ فيها الحرّ؟

-“سأروي لك، لكن، شرط أن تعدني ألّا تخبر أحدا في هذه المدينة، أنّي كنت فيما مضى ظلّك، لا أخفيك، أفكّر جدّيا في الزواج، فإمّكانياتي تسمح لي بذلك..  وزيادة!”

-“كن مطمئنا! لن أكشف هويّتك السابقة لأحد، أعدك فالإنسان يبقى إنسانا والكلمة..”

أكمل الظلّ جملة الحكيم: “.. والكلمة هي الظلّ!”، ليتّخذ بعد ذلك مجلسه، متعمّدا من باب التكبّر أو حرصا على شدّ الاهتمام، وضع قدميه المحشورتين في حذاء برقبة طويلة ومطليّا بالبرنيق على ساعد الظلّ الجديد المستلقي تحت قدمي سيده ككلب مطيع.

التزم هذا الظلّ الجديد الهدوء واستعدّ للاستماع نافد الصبر لاكتشاف الطريقة التي تخوّل له التحرّر بدوره ليغدو سيد نفسه.

انطلق الظلّ القديم في الحديث:

-“احزر من يقطن ذاك المنزل! إنّه شخصيّة آسرة… إنّه الشعر! لقد أمضيت في مسكنه ثلاثة أسابيع، غير أنّها تعادل بالنسبة لي ثلاثة آلاف سنة! لقد قرأت كلّ القصائد واستوعبتها بامتياز، ومن خلالها أبصرت وأدركت كلّ شيء!”

صاح الحكيم:

-“الشعر! نعم، أنت محقّ، فلطالما عاش ناسكا في المدن الكبيرة، لقد لمحته لوهلة، بيد أنّ النعاس أطبق على جفنيّ، لقد بزغ في شرفته كفجر ساحر… واصل حكايتك رجاء!”

-” دخلت عبر الباب الموارب والظلمة تغمر المكان تقريبا، لكنّي وجدتني أمام سلسلة من الغرف وأبوابها مفتوحةعلى مصراعيها، وما فتئ الضوء يزداد سطوعا شيئا فشيئا، ولولا ما اتّخذته من احتياطات، لصعقتني الأشعّة قبل بلوغ مقام الشعر!”

-“ماذا رأيت في نهاية المطاف؟”

-” سبق وأخبرتك أنّي أبصرت وعرفت كلّ شيء!”

-“كيف يمكنك أن تصف ما أبصرته داخل الغرف؟ هل يشبه غابة نضرة أم كنيسة مقدّسة أم سماء تتلألأ فيها النجوم؟”

-” إنّها تشبه كلّ ما ذكرت، لم ألجها، لكنّي، رأيت من المدخل كلّ شيء!”

-“هل تعبر آلهة العصور القديمة هذه الغرف الكبيرة؟ هل يتواجه الأبطال الغابرون في رحابها؟ هل يلعب الأطفال المذهلون في أرجائها ويروون أحلامهم؟”

-“أكرّر من جديد، إنّي رأيت كلّ شيء! عند الدخول إلى هناك، لن تمسي إنسانا، لكنّي، أصبحت واحدا، تعلّمت اكتشاف طبيعتي الحقّة ومواهبي وقرابتي بالشعر، لم أعمل عقلي أبدا حين كنت معك، غير أنّك تذكر كم أكبر عند كلّ طلوع شمس ومغربها، وأبدو أكثر جلاء منك في ضوء القمر، وأيقنت أنّي غفلت عن إدراك شخصيتي الأصيلة، وعرفت كيف أمنحني قيمتي الحقيقيّة، عندما دخلت عبر باب تلك الشرفة.

لقد كنت ناضجا حين دفعت بي لخوض الحياة، لكنّك ذهبت فجأة وتركتني عاريا، وسرعان ما انتابني الخجل من وجودي في وضعيّة شبيهة، احتجت إلى ملابس وحذاء وكل ذاك البرنيق الذي يميّز الإنسان.

أذيع لك سرّا دون خشية موقنا أنّك ستحفظه، لقد تواريت تحت التنّورة الداخليّة لبائعة مرطّبات جهلت قيمتي. لا أخرج إلّا حين يجنّ الليل لأعدو في الشوارع تحت ضوء القمر، أصعد وأنزل الجدران مختلسا النظر عبر بلّور النوافذ الكبيرة لغرف الجلوس وعبر الكوى الصغيرة في العليات، شاهدت من خلالها ما لم يتمكّن أحد من رؤيته ولن يقدر على إبصاره أبدا، ولا يجب أن ينجح في ذلك.

لأصارحك بالحقيقة، هذا العالم على غاية الخسّة والحقارة! لولا الرأي الذي يؤكّد أنّ الإنسان يعني شيئا ما، لما تنازلت وغدوت واحدا منكم!

أبصرت أشياء يعجز العقل عن تخيّلها عند النساء والرجال والآباء والأطفال المذهلين، رأيت ما لا يجب على أحد الاطّلاع عليه ولكنّ الجميع يتحرّق لهفة لمعرفته : الشرّ الذي يخبّئه الآتي!

لو نشرت صحيفة بكلّ ما أحطت به علما، لالتُهمت مقالاتها، غير أنّي أفضل الكتابة إلى الأشخاص أنفسهم، لقد ولّد حضوري هلعا مهولا في جميع المدن التي مررت بها، خافني الناس ودلّلوني في ذات الآن. نصّبني المعلّمون أستاذهم الأعظم، أهداني الخيّاطون ملابس حتى أصبح لديّ منها أكداس. سكّ المسؤول عن العملة قطعا نقديّة خاصّة بي، واعتبرتني النساء شابا لطيفا. هكذا غدوت ما أنا عليه اليوم، أقدم لك خالص احتراماتي. هذه بطاقتي إن احتجتني. أظلّ حذو الشمس وعندما تنهمر المطر، تجدني دائما في بيتي، حان وقت مغادرتي”

***


بعد سنة بالتمام، عاد الظلّ لزيارة الحكيم والسؤال عن حاله، فأجابه متنهّدا أنّه ما فتئ يكتب عن الحقّ والجمال والقيم الحميدة، دون أن يسترعي ما يؤلّفه اهتمام أحد، وهو ما جعله يكابد يأسا ممضّا.

صرّح الظلّ قائلا:

-” كم تخطئ في حقّ نفسك حدّ الإجحاف! انظر إليّ أنا… لا أنفكّ أزداد ثراء، وهذا ما يجب عليه أن يكون عليه الأمر، أنت تجهل ما يدور في العالم، أنصحك بالسفر! أنوي القيام برحلة هذا الصيف ويمكنك مصاحبتي بصفتك ظليّ! يسرّني أن تقبل العرض وسأتكفّل بالمصاريف!”

ردّ الحكيم محتجا:

– “لقد تماديت كثيرا!”

-“هذا ما تعتقده، يختلف التأويل بتنوّع زوايا النظر! أؤكّد لك أنّ الرحلة ستفيدك جدّا، فقط كن ظلّي واتبعني ولن تضطرّ  إلى الإنفاق”

-“ما تقوله يتجاوز حدود المنطق!”

-“تلك هي الحياة، وستبقى كذلك دائما!”

***

زادت حالة الحكيم تأزّما، وظلّت تحثّ الخطى نحو الأسوأ فقد تكالبت عليه الهموم والأشجان، إن ما يصدح به عن الحقّ والجمال والصلاح يحدث لدى أغلبيّة الناس ذات الأثر الذي تولّده الزهور لدى البقرة، ولا يتوانى بعضهم معلقين أنّ للحكيم هيئة شبيهة بالظلّ وهو يجعل فرائصه ترتعد ويستبدّ به الارتجاف.

زاره الظلّ من جديد للتشديد على ضرورة الذهاب لأخذ قسط من الراحة في أحد المنتجعات الخاصة بالمياه الاستشفائيّة، مؤكدا أنّ ذاك هو الدواء الأنجع، مسترسلا في خطابه:

-” سأذهب بدوري إلى هناك، لأنّ لحيتي لم تنمُ جيدا، وجب أن أتعافى من هذه العلّة، أدفع تكاليف الرحلة وتتولّى وصف المعالم وهذا سيمتعني طوال الطريق! كن عاقلا وأقبل عرضي، سنسافر كصديقين عزيزين!”

.وهذا ما حصل فعلا، وانطلقا في رحلتهما، أصبح الظلّ هو السيّد وغدا السيّد ظلّا. كانا يتتابعان حتّى يكادان يتلامسان، تارة من الأمام وتارة من الخلف حسب وضعيّة الشمس.

أحسن الظلّ شغل منصب السيّد، في الحين الذي عجز فيه الحكيم عن التأقلم، اقترح على الظلّ يوما رفع الكلفة في التخاطب بينهما بما أنّهما رفيقا سفر وكبرا معا، معتبرا ذلك أجدى بصلتهما الحميمة.

أجاب الظل – السيد الحقيقيّ- :

-لقد عبرت عن مكنون قلبك الطيّب بصراحة، وأنا بدوري سأردّ عليك بكلّ وضوح. لا بدّ أنّك تدرك كحكيم أنّ الطبع الإنسانيّ غريب، هناك أشخاص لا يستطيعون لمس قطعة من الورق الرماديّ ذي الصفحة القاسية دون تلافي الشعور بالسوء، ويجفل آخرون بمجرّد سماع صوت احتكاك مسمار بواجهة بلّورية… ينتابني ذات الإحساس حين يخاطبني أحدهم بصيغة المفرد، يدفعني ذلك قسرا إلى تخيّل نفسي ملقى أرضا، مثلما هو الحال حين كنت ظلّك! لا ريب أنّك استوعبت أنّ هذا الشعور يسيطر عليّ ويمنعني من القبول، ولا ينبع رفضي عن تكبّر، لكن، إذا أردت.. يمكن أن أخاطبك بصيغة المفرد لألبّي نصف ما رجوته!”

منذ ذلك الحين، رفع الظل الكلفة، واكتفى الحكيم بالتعجّب مما آلت إليه الأمور دون احتجاج.


عندما وصلا إلى الحمّامات، وجدا عددا كبيرا من النزلاء وبينهم أميرة حسناء مصابة بمرض محيّر: إنّ بصرها أحدّ ممّا يجب، لذلك ما انطلى عليها ما يشاع عن السعي إلى استنبات لحية، وعرفت أنّ السبب الحقيقي للقدوم هو الافتقار إلى ظلّ. 

حادثته أثناء جولة ما مدفوعة بالفضول، ولم تجد داع للخطابات الملتوية وصارحته مباشرة بمعرفتها لسرّه. فأجابها:

-” لقد تحسّنت حالتك جيّدا، وهذا من دواعي سروري، فسموّك عانيت من قوّة الإبصار، لكنّك، شفيت الآن لأنّك ما لمحت ظلّي الخارق للعادة، هل تريْن الرجل الذي يتبعني دون انقطاع، إنّه ليس ظلّا مثل الذي يحظى به الجميع، فقد رفعت مقامه كي يغدو إنسانا، ولم يتوقّف كرمي عند هذا الحد، وإنّما منحته ظلّا أيضا! لطالما سعيت إلى حيازة أشياء لا يملكها سواي مهما كلّفني الأمر!”

استغربت الأميرة، وتساءلت في نفسها: هل شفيتُ حقّا؟ لا يمكن الإنكار أنّ الماء في الزمن الذي نعيش فيه، يتمتّع بفضيلة لا مثيل لها، وهذه الحمّامات التي ارتدتها ذائعة الصيت، لكنّي، لن أغادرها الآن، ستسليني رفقة هذا الرجل الذي راقني. ليت لحيته لا تنبت، فهو سيرحل حينها!”

في المساء، رقصت الأميرة مع الظلّ في قاعة الحفلات الكبيرة. كانت بارعة جدّا، بيد أنّ فارسها فاقها ببراعته التي ما عاينت مثلها، أخبرته باسم مملكتها التي تجلّى أنّه يعرفها جيّدا، فقد سبق واسترق النظر عبر النوافذ، كما حدّثها عن أشياء أذهلتها حتى ما عادت تستطيع تمالك نفسها من شدة الانبهار، وصدّقت أنّ هذا الرجل هو الأغزر اطّلاعا وتضاعف تقديرها له.

حين رقصا مرّة أخرى، تأملته، ففضحت نظراتها التي اخترقته ما يعتمل في روحها من حبّ وإكبار، وبما أنّها فتاة رزينة، فكّرت أنّ حذقه الرقص وسعة اطّلاعه لا يكفيان، فالأهمّ هو إحاطته بالمعارف العميقة، لذلك قرّرت اختباره للتثبّت في هذا الشأن.

انطلقت تسأله عن مسائل عويصة، لا تقدر هي نفسها الإجابة عنها، قطّب الظلّ وجهه فاستفسرت:


-” ما لك؟  أتعجز عن الردّ؟”

-“تعرّضت إلى كلّ ما طرحته في طفولتي، أنا متيقّن أنّ ظلّي الذي يقف أمام الباب يستطيع إجابتك بكلّ يسر!”
-” ظلّك؟! سيكون ذلك مذهلا!”

-“لا أخفيك، لست متأكّدا بصفة مطلقة، لكنّي، أرجحه بما أنه تبعني وسمعني طوال سنوات، لكن، قبل التوجّه إليه، اسمحي لي سموّك بتنبيهك إلى نقطة على غاية من الأهمّية، هذا الظلّ فخور جدّا لانتمائه إلى صنف البشر، وهو ما يستدعي، إذا أردت أن يكون رائق المزاج ليحسن إجابتك، أن تعامليه كإنسان!”

اقتربت الأميرة من الحكيم لتحدّثه عن الشمس والقمر والإنسان في جميع صلاته وتقلّباته، ليردّ بدقّة وحصافة، وهو ما دفعها إلى مزيد الإعجاب بفارسها والتيقّن أنّه رجل فريد ليحظى بظلّ راجح العقل، معتبرة إيّاه نعمة لشعبها إذا اختارته زوجا.

سرعان ما حدّدت الأميرة والظلّ موعدا لزفافهما، مع تنبيه الظلّ إلى ضرورة التكتّم عن الخبر الذي لم يحط به علما حتّى رفيقه الحكيم وله أسبابه الوجيهة لطلب ذلك والتشديد عليه.

عند الوصول إلى مملكة الأميرة، قال الظلّ للحكيم:

-” لقد أصبحت في قمّة السرور وذروة القوة يا صديقي، وسأبرهن لك على عطفي، ستبقى في قصري وتحاذيني في مقعد عربتي الملكيّة وأهبك نصيبا من المال سنويا، لكنّي، أشترط محافظتك على صفة الظلّ أمام الجميع، لا تصرّح أبدا أنّك كنت إنسانا،     ومرّة كلّ عام، حين أطلّ من الشرفة لتحيّة شعبي وأشعّة الشمس تغمرني، تستلقي تحت قدميّ كظلّ… وليكن في علمك أنّي سأتزوج الأميرة وسنقيم مراسم العرس الليلة”

صاح الحكيم مستنكرا:

-” لا! لقد تجاوزت حدّك! لن أوافق على ما دبّرته، ولن أسمح لك بالاستمرار في التضليل، سأكشف الحقيقة للأميرة ولجميع سكّان مملكتها… سأخبرهم أنّي إنسان وأنت لست إلّا ظلّا يرتدي ثيابا!”


-“لن يصدّقك أحد! كن عاقلا وإلّا ناديت الحرس!”


-“سأذهب حالا إلى الأميرة!”


-“لكنّي، سأصل إليها قبلك! سأودعك السجن فورا!”

وجّه الظل أمره إلى الحراس الذين سارعوا إلى طاعته واقتيد الحكيم مكبّلا ليُلقى به في زنزانة.

لمحت الأميرة الظلّ يرتعش، فسألته عمّا اعتراه، منبّهة إيّاه مداعبة باتّخاذ حذره حتّى لا يمرض يوم زواجه. فوضّح لها المسألة قائلا:

– “لقد خبرت لتوّي واقعة قاسية، لقد جُنّ ظلّي، تصوّري! حسب أنّه إنسان واعتبرني مجرد ظلّ!”

-“يا للهول! أرجو أنّك سارعت بحجزه!”

-” دون شك! أخشى أنّه لن يخرج من الحجر أبدا، لأنّه لن يعود إلى حالته الطبيعيّة!”

-“يا للظلّ المسكين! إنّه حقّا تعس! أليس من المستحسن تجريده من الباقي من حياته، فإذا فكّرنا مليّا، نجد من اللازم الإسراع بالقضاء عليه سرّا!”

-“لا! إنّ ذاك حكم على غاية من الشناعة! لقد فقدت خادما وفيّا!”

رمقته الأميرة معجبة بطبعه النبيل وشهامته.

في تلك الليلة، أضيئت الأنوار في المملكة ودوّت طلقات المدفع، وعلت نغمات الموسيقى، وتردّدت الأغاني في جميع الأنحاء، وحين برزت الأميرة والظلّ على الشرفة، صاح الشعب الذي أثملته السعادة صيحات التهنئة.

لم ير الحكيم ولم يسمع  شيئا من ذلك… لقد قُتل.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد التاسع، نوفمبر 2021، ص.  16-19

للاطلاع على كامل العدد: https://tiny.cc/hourouf9

 

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights