العدالة بين أخلاق القاضي ودور المحامي
|القضاء مسؤولية غاية في الدقة و الحساسية. فالعدل هو أساس العمران. و قد تبلغ رحلة البحث عن العدل أشواطا ولكن يبقى تحقيق العدالة التامة أمرا مستحيلا. قد يكون القضاء بين طرفين متساويين ماديا و معنويا هو أسهل أنواع القضاء. إلا أن القضاء في نزاع بين طرفين متفاوتين في المال و الجاه و الشعبية هي المسألة الأكثر تعقيدا التي تجابه من أوكلت له سلطة فض النزاعات.
قد يثير الطرف الأضعف في النزاع الشفقة نظرا لظروفه الإجتماعية القاسية وظروفه المادية و العائلية و الشخصية المتدهورة. و من بديهيات الأشياء أن ينساق رأي الحس المشترك لأغلب الناس لمعاضدته، و ذلك بالتجرد التام من وقائع القضية، و الاهتمام المبالغ فيه بالظروف الشخصية التي ليس لأي أحد المسؤولية في سوءها و لا حتى تعكرهاو لا تعدو كونها حظا سيئا أو قضاء أو قدرا كالإعاقات البدنية التي يولد الشخص بها أو سوء أحواله الإقتصادية أو فقدانه لأحبته أو لعائلته. و لكن هل من العدل أن نتجرد من وقائع القضية و نحكّم العاطفة في القضاء؟ طبعا لا يعقل. فالجميع متساوون أمام القانون، و يجب إعطاء كل ذي حق حقه بحياد.
إلا أن القضاء لصالح الطرف الأكثر مالا و الأكثر جاها على حساب الطرف الممعن في الضعف المادي و المعنوي يكون أمرا مريبا لعموم الناس. فيقال أنّ القضاء فاسد، غير مستقل، أو محاب أو مرتش و غيرها من النعوت السلبية.
قد تواجه المحكمة أطرافا تختلف في الشعبية. فمن جهة نجد شخص منبوذا إجتماعيا لسبب ما، إذ قد يكون قد عوقب لجريمة في الماضي، أو يكون شخصا حاملا قيم و مبادئ و آراء لا تروق و لا تنسجم مع الأغلبية الساحقة من الأشخاص، و قد تكون هذه الآراء مخالفة حتى للمبادئ الأساسية لقيم المجتمع الحديث. و من جهة أخرى قد نجد طرفا آخر في القضية له شعبية و شهرة كأن يكون نجما في ميدان ما، أو شخصية منتخبة في منصب عام ما.
ففي هذه المواقف، يجد إرساء العدل تحديا هاما، ألا وهو التأثير النفسي و السيكولوجي لما في شخصية المتقاضي على القاضي. قد يشمئز القاضي من ما في شخصية هذا الطرف أو ذاك، و قد يميل القاضي لما في شخصية هذا الطرف أو ذاك. و الأدهى و الأمر هو أن يهتم القاضي حصريا بالسؤال التالي: “من أمامي؟” عوض عن السؤال “ماذا فعل؟ ماذا جرى في الوقائع؟ ماذا يقول القانون؟ و ماذا تقول أخلاقي؟”
و المحنة الأكبر هي سوء النية بتوظيف المعطيات الموضوعية الواقعية و القانونية و التركيز المشط على بعضها و الإهمال القصدي لبعض الوقائع، لهدف إرضاء حاجة القاضي في الوصول إلى النتيجة التي اختارها قبل أن يلج البحث في الوقائع. سواءا لأمر غير شرعي، سواء لإرضاء الانطباع الأولي الذي ترسخ في ذهن القاضي، و ذلك بدون الاحتكام للنظرة النقدية على الآراء المسبقة التي يعذر في الوقوع في فخها عموم الناس و ليس القاضي.
في الواقع، القاضي هو ذات بشرية ككل الناس. و أكثر من ذلك ففي تونس القاضي لا يختلف كثيرا عن عامة الناس. القاضي التونسي عموما هو موظف عمومي لا أكثر. يدخل القضاء في سن الشباب بمناظرة، في سن تكون النظرة النقدية لم تتبلور و لم تكتمل، إذ أن الحكمة تكسب في سن الشيخوخة. و على كل حال توجد استثناءات، و وجود الاستثناء هو تأكيد للقاعدة. يقضي القاضي التونسي ساعات عمل معلومة، و عليه الإنضباط بإنتاج كم معين من الأحكام في الشهر، حسب مركزه في المحكمة. و في النهاية يحال على التقاعد شأنه شأن أي موظف. أي أنه في وقت بلغ فيه القاضي درجة الحكمة و الخبرة، يتم الإستغناء عنه، لتعويضه بمن هو أكثر شبابا و أقل خبرة و هذه خسارة للعدالة.
و قرب هذا المجال يأتي الدور المحوري للمحامي. المحامي ليس مساعدا للقضاء. بل هو شريك في إقامة العدل. لكل قضية مبدئيا محاميان. الأول ينوب المدعي و الثاني ينوب المدعى عليه. يعذر عامة الناس إذا قالوا أن أحد المحاميان يدافع عن السوء، أو عن الكذب أو عن الشيطان. إذ يسود مفهوم مبسط للحقيقة يرى الحقيقة كاملة و واضحة و موجودة لدى طرف واحد في القضية. إلا أن هذا الأمر في الواقع لا يستقيم، لأن القضايا المعروضة على القضاء ليست كلها بتلك البساطة البينارية: أبيض أو أسود. و هذا لا يعني أن النزاعات أمام المحاكم هي رمادية بمعنى أن لا لطرف حق محدد، بل العكس. في القضية الواحدة لكل طرف حقوق يدافع عليها، و واجبات يرمي للتنصل منها. فإذا واصلنا الحديث بالألوان، فإن القضية هي كلوحة بها عدة خطوط بيضاء و سوداء تتفاوت في الحجم و تتداخل.
إن دور المحامي عمليا هو الدفاع على مصالح منوبه. فتراه يحوك غطاء من الخيوط القانونية و الواقعية و العقلانية، و كأنه يرمي إلى اقناع القاضي بوجاهة الحكم لصالح الحريف لسبب النسيج القانوني الواقعي العقلاني المقدم. و ترى محامي الخصم يفعل نفس الشيء لنفس الهدف.
في الواقع، القاضي المستقل هو القاضي الذي يسعى لتحقيق العدالة في القضية عن طريق كفاءته و التزامه بقيمه الأخلاقية. إنه لخطأ شائع لدى العديد من الناس وحتى في كليات الحقوق في تونس اعتبار دور القاضي دوره منحصرا في تطبيق القانون، بل أنّ دوره أسمى من ذلك: تحقيق العدالة. قد يكون تطبيق القانون أهم من إرساء العدالة. إلا أن القانون لا يعني آليا العدل. فالقانون هو إفراز لمجموعة من البشر، يتم في مجلس و يتخذ بالأغلبية. و رغم أن الديمقراطية تقوم على فكرة حكم الأغلبية، إلا أن الأغلبية قد تخطأ واضعة قوانين جائرة في حق الأقلية. و التاريخ مليء بالأمثلة من دكتاتورية الأغلبية.
و عليه فإن القاضي الذي قد نؤاخذه بجور حكمه، فيرد متبجحا بتطبيق القانون، ثم يرفع أمامك مجلة الإلتزامات و العقود: هو للأسف قاض لم يفهم المهمة السامية المنوطة بعهدته. فالقاضي عليه تحقيق العدالة، و إن إعترضت القوانين وغيرها مفهوم العدالة فعليه البحث عن الحل العادل في مصادر القانون و العدل والإنصاف معملا أخلاقه في رحلة البحث التي لن تكون مضنية له إذا تحلى بكفاءة عالية أو إذا شد أزره بطريقة مباشرة أو غير مباشرة محامي بارع عبر التقارير و المرافعات.
فعلى القاضي إعمال أخلاقه في كل ما يقضي به، و من ثمة أن يبني أسبابه القانونية و وسائل تأويل النصوص القانونية لكي يصل إلى الحل الذي يريح ضميره. أما المحامي فعليه التحلي بالإيمان أن يدافع بكل ما أوتي من حجج فكرية وقانونية على مصالح حريفه و أن يثق بحسن نية و طيبة أخلاق القاضي، و أن الحلال بين و الحرام بين أمام القاضي الذي يتحمل كامل مسؤولية حكمه الذي يمضي أسفله.
فيحاول أحد المحامين بكل موضوعية و تجرد الدفاع على حريفه، و ذلك بتوفير الحجج الفكرية و القانونية لتمكين القاضي من إعمال أخلاقه، و يهدف المحامي الآخر إلى تعسير مهمة القاضي بإعطاء حجج أقوى. لكن مهما بلغت درجة حجج المحامي الآخر المخالفة لإعمال أخلاق القاضي، فإن هذا لن يزيد القاضي الكفء إلا متانة في الحجج التي سيبني عليها رأيه، إذ يكون المحامي ذا الرأي المخالف لأخلاق القاضي منبها إلى أهوان رأي المحامي الآخر المتماشي مع أخلاق القاضي، فيتولى القاضي إدراك و استدراك النواقص.
و هكذا يكون كل من المحاميين مساهمين بصفة مباشرة للأول و بصفة غير مباشرة للثاني في إقرار العدل و الإنصاف، و هذا يتوقف على جرأة القاضي واستقلاليته و كفاءته و أخلاقه أولا.