المواطنة وضمان السيادة

بقلم: سامي كريت

   لم توجد نقطة ما تتفق حولها جميع الآراء مثل ضرورة وجود الدولة بالنسبة لكل كيان سياسي معين وذلك لحاجته إلى الوازع الذي ينظم العلاقات بين الأفراد ويحميهم من كل اعتداء خارجي ولم توجد نقطة تثير الخلافات وتضارب الآراء مثل نوع المشروعية التي ينبغي أن تسوغ بها الدولة قراراتها وإجراءاتها وارتباط ذلك بمسائل القانون والسيادة.

  ونظرا لحساسية موضوع الدولة والتصاقه بمعيشنا اليومي، تهتم القوانين بوجه عام والفلسفة بوجه خاص بمسالة سياسية بامتياز غرضها في ذلك هو البحث عن إمكانات وجود سياسي واجتماعي يضمن حقوق الفرد والمجموعة.

ولما كان اهتمامها المركزي بالإنسان، كان شغفها به سياسيا واجتماعيا فرديا وكونيا فكان من هواجس الفلسفة السياسية والقانون معرفة ضمن أية شروط يكون وجود الأفراد داخل الدولة عقلانيا ومنظما.

 

السيادة هي أساس المواطنة

السيادة وضع قانوني ينسب إلى الدولة، وهي تمثل ما للدولة من سلطان تواجه به الأفراد داخل إقليمها وتواجه به الدول الأخرى في الخارج. وليست هناك دولة دون سيادة

يقول جون بودان الذي كان أول من ادخل مصطلح السيادة “لكي يكون هناك وجود قانوني للدولة، يجب أن يكون لها السيادة على أرضها “

 فالسيادة هي السلطة العليا والمطلقة التي تنفرد بالقرار والإلزام وتنظيم العلاقات والتصرف في الأمور التي تجري فوق إقليمها أو خارجه.

 وعرفت بأنها “وصف للدولة الحديثة يعني أنها يكون لها الكلمة العليا واليد الطولى على إقليمها وعلى ما يوجد فوقه أو فيه” كما عرفت أيضا بأنها “السلطة العليا المطلقة التي تنفرد وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال”

 وللسيادة مظهران أساسيان: مظهر خارجي يتم فيه تنظيم علاقات الدول فيما بينها على ضوء الأنظمة الداخلية لكل دولة. فالدولة صاحبة السيادة تنظم علاقاتها الخارجية بما تمليه عليها مصالحها الوطنية والسيادية.

أما المظهر الداخلي فيتمثل في بسطها لأنظمتها وسلطاتها على إقليمها وولايتها وتكون أنظمتها الخاصة وأحكامها هي المعتمدة في شؤون مواطنيها.

      ومن الجدير بالملاحظة إن تصاعد سلطة القانون والعقل هو وثيق الصلة بمبدأ السيادة والدولة المدنية. والسيادة كما بينا تعني القوة وهي تمثل الإرادة العامة للشعب (روسو)،    وإذا كانت بعض التوجهات الفوضوية ترفض السلطة بإطلاق وتعتبر الدولة جهازا يستهدف الإنسان وحريته ويعمل على تدجينه وسجنه والحد من رغباته، فان كثيرا من التوجهات الأخرى قد أقرت حاجة الإنسان إلى وازع يمنع التدافع ويحد من الفوضى من اجل بناء حياة قائمة على الفضيلة والاعتدال والسعادة ،إذ لا يمكن التكهن مطلقا بمآل الحياة الاجتماعية عندما يغيب النفوذ وتتلاشى قوة الدولة.

وإذا كانت الأفلاطونية قد رفضت الديمقراطية واعتبرتها نهجا غير عادل لا يؤدي للفضيلة والسعادة، فان هناك على العكس من يرى فيها الطريق الأمثل لتجاوز الصراع والحد من العنف وضبط مسار سلطة الدولة وعدم السماح لها بانتهاك حقوق الإنسان.

فحسب بول ريكور، تتمثل أهمية الديمقراطية في جعل الحياة السياسية قائمة على التعدد والتنوع والاختلاف واستبعاد كل أشكال الإقصاء وفرض الموافقة وجعل الصراع بين الناس محكما للقانون. كما دعا روسو إلى ضرورة توزيع السيادة بين جميع أفراد الشعب على أساس المساواة بدون تفريق، بحيث تصبح السيادة في هذه الحالة سيادة “مجزأة” أي بعبارة أخرى جمع أصوات المواطنين كافة لاستخراج الأكثرية منها.

وهنا يرفض روسو فكرة تجزئ رجال السياسة للسيادة تبعا لمصالحهم إلى قوة وإرادة ويتبنى فكرة انبناء السيادة إلى فكرة المواطنة والإرادة العامة بقوله: ” إن السيادة لا تتجزأ لنفس الأسباب التي تجعلها غير قابلة للتنازل لان الإرادة إما أن تكون عامة وإما ألا تكون كذلك “.

وفي نفس الصدد لاحظ سبينوزا أن مهمة الدولة هي بناء حياة اجتماعية منظمة ينعم فيها الأفراد بالأمن والسلم والحرية، دون أن يكونوا خاضعين للسلطة العمياء ومن دون أن يتصرف المواطن وفق رغباته وغرائزه.

فالديمقراطية وفق سبينوزا هي هذا الأسلوب الذي يجعل من الدولة أداة تحرير الإنسان من كل أشكال الخوف والضعف وإمداده بكل ما يساعده على ضمان بقائه وتمسكه بالحياة لكن دون أن يكون ذلك على حساب الآخر.

إن مهمة الدولة الرئيسية هي ترشيد الفعل البشري وتوجيهه نحو بلوغ الفضيلة، فالفهم الحقيقي للديمقراطية يقتضي اعتبارها هذا المبدأ الذي من خلاله تصان كرامة الإنسان ومن خلاله أيضا يتم احترام القانون والاعتراف بالسلطة العليا وعدم اللجوء إلى القوة.

ولا مناص من القول أن تمتع الدولة بالسيادة يعني أن تكون لها الكلمة العليا التي لا تعلوها سلطة أو هيئة أخرى، لذلك فسيادة الدولة ببساطة تعني أنها منبع السلطات الأخرى وهي وحدة واحدة لا تتجزأ مهما تعددت السلطات العامة.

 

المواطنة هي مصدر السيادة

إن المواطنة صفة تطلق على من يحيا في ظل نظام ديمقراطي يجعل الحياة حرة وأمنة فهي رباط سلمي هدفه تأسيس مجتمع يقوم على اعتبارات قيمية تبدأ داخل الشخص لأنها تتطلب قاعدة أخلاقية قوامها التحرر من سلطة الأهواء والاعتراف بحق الغير، فيتعارض بذلك مع الأنانية والمصلحة الخاصة.

فالمواطنة ليست معطى طبيعيا بقدر ما هي اكتساب لأن الناس “لا يولدون مواطنين وإنما يتربون على المواطنة” (سبينوزا). وتأسيسا على ذلك يكتسب الفرد صفة المواطنة داخل نظام سياسي أي داخل المدينة-الدولة بما هي وحدة سياسية تضم مجموعة من الناس في حدود جغرافية مضبوطة لها استقلالها وسيادتها الخاصة تتولى هيئة حاكمة إدارة شؤونها على أساس تشريعات دستورية أو قوانين تضمن مواطنة خصوصية.

فالإنسان محكوم بغريزتين الأولى هي السعي إلى المحافظة على وجوده والثانية هي الرأفة وهي نقيض العنف تؤسس لعلاقة تعاطف بين الأنا والأخر فتجعل منها علاقة اعتراف متبادل بالحق في الوجود والحرية. حيث يترتب عن هذا التصور أن حالة الطبيعة موسومة بالعزلة والسلم والحرية يواجه فيها الإنسان عراقيل تهدد بقائه مما يدفع إلى تأسيس علاقة مع الآخر لإبعاد هذه العراقيل.

وللمرور من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية يقتضي العقد تنازلا عن الحرية الفوضوية حرية حالة الطبيعة لكسب حرية تعاقدية مقننة يهب الجميع لنجدتها حين تهدد.

إن أهم شرط في العقد هو المساواة في التنازل وفي الواجبات فتتعين حاجة الفرد إلى غيرة لخلق قوة مشتركة لمواجهة الطبيعة. فالعقد تنازل إرادي وتوحيد للإرادات في إرادة واحدة.

 إن العقد مع روسو يتجاوز حالة احتكام الفرد إلى ذاته إلى حالة مدنية يحتكم فيها القانون بما هو نتاج إرادات الأفراد التي هي أساس السيادة لأنها صادرة عن الأغلبية وملزمة للكل عبر القانون المدني الذي يجسد سلطة الشعب.

 ومن الجدير بالملاحظة أن المفهوم الحديث للمواطنة تطور ما مع ظهور ما يعرف بالعولمة الحاملة لمشروع سياسي لدولة عالمية شرعت لمواطنة عالمية. حيث وقع توسيع مدلول المواطنة فيما بعد لتتجاوز هذه الصفة دائرة المدينة الدولة نحو المواطنة العالمية وهي صفة تلتصق بإنسان يقطن هذا العالم ويتساوى مع الآخرين في هذه القيمة الإنسانية.

 فالمواطنة العالمية ليست انتماء إلى جماعة عالمية أو إلى إنسانية بلا جنسية بل هي تجسيد للطابع الكوني الإنساني إنها انتماء إلى عالم مشترك، وبناء على ذلك تكون الدولة العالمية هي الراعية لحقوق المواطنة عندما يقع الاعتداء عليها من طرف الدولة الوطنية وقاعدتها القانونية أن الإنسان ليس فقط مواطنا داخل دولة ذات سيادة بل هو مواطن عالمي وموجود في العالم ويطلب من هذه الحكومة العالمية أن تصون كرامته إذا تعرض إلى أي اعتداء.

فالعالم من هذا المنظور هو فضاء لقاء الأنا مع الأخر ضمن علاقة تواصلية أساسها كونية الإنسان. فالمواطن العالمي هو من يؤمن بقيم كونية ويطمح إلى تشريع إنساني يتجاوز التعارض بين خصوصية الانتماء وكونية القيم.

إنه إنسان يقطن العالم ويتساوى مع الآخرين في هذه الصفة الإنسانية وهو ما يقتضي وضع دستور عالمي غايته كما يرى كانط إقامة علاقات سلمية بين البشر تأخذ طابع القوانين العامة للجنس البشري.

 إن هذا الانزياح في معنى المواطنة الذي يكاد يرى إذ يمرر باسم الديمقراطية ذاتها، يطرح مشكلا خطيرا حيث يعرض مستقبل السيادة الوطنية إلى الخطر في ظل تشريع حق التدخل في سيادة الدول من اجل فرض احترام حقوق المواطنة باعتبارها قيمة كونية.

  فهل يؤدي الإقرار بفكرة السيادة العالمية إلى طمس فكرة السيادة الوطنية؟ وهل يمكن تحقيق مصالحة بين السيادة الوطنية والمواطنة العالمية

يقول ادغار موران في هذا الصدد: ” … صحيح أنه ثمة حاجات متزايدة للتشبث بالأصول تعمل في يومنا هذا على تقسيم البشرية إلى أجزاء مشتتة وتتخذ كمبرر لها إرادة الحفاظ على الهويات العرقية والوطنية لكننا نأمل في أن تتوسع وتتعمق هذه الهويات داخل الهوية الإنسانية لمواطني الأرض- الوطن دون أن تنفي ذاتها”.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 20، أكتوبر 2022

 للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf20

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights