موسكو أم واشنطن؟ إلى أين تتجه بوصلة الدول العربية؟

بقلم: أنيس عكروتي

رغم بعد المسافة الجغرافية التي تفصل بين الدول العربية وساحة النزاع الروسي الأوكراني فإننا لسنا معزولين عمّا يحدث في كييف.

تزامنا مع أولى الغارات الجوية الروسية على الأراضي الأوكرانية، تتالت ردود الأفعال العالمية تفاعلا مع هذا الحدث غير المسبوق والذي ستكون له تداعيات كثيرة منها الاقتصادي والسياسي والأمني لا محليا فحسب، بل عالميا.

عربيا، يعتبر الموقف الإماراتي أكثر وضوحا خاصة عندما امتنع ممثلها في مجلس الأمن عن التصويت (إلى جانب الهند والصين) لإدانة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.

موقف ولئن شكّل صدمة في دوائر القرار الغربية فإنه غير مستغرب نظرا للروابط الاقتصادية وخاصة الأمنية المتينة بين أبوظبي (ودول الخليج عموما) وموسكو. فالإمارات التي تعوّل كثيرا على الدبلوماسية الاقتصادية لكسب مزيد من الأصدقاء وحتى الجمع بين الثنائيات المتنافرة (إسرائيل وإيران كأبرز مثال)، غير مستعدة للقفز في أحد المركبين، إما الصين – روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية.

رغم حثّ وزير الخارجية الأمريكي نظيره الإماراتي على اتخاذ موقف مدين للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا فإن أبوظبي تجاهلت هذه النداءات وتواصلت مع الجانب الروسي معبرة عن اعتزازها بعمق الروابط الودية والاستراتيجية بين البلدين وذلك في اتصال إماراتي مع سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي عشية بدء العمليات.

تريد الإمارات، حسب عدة محللين، الحفاظ على استقرار الأسواق الطاقية إلى جانب أنّها تعوّل كثيرا على دعم موسكو داخل مجلس الأمن فيما يتعلّق بفرض عقوبات عسكرية ومالية على حركة أنصار الله اليمنية المعروفة بالحوثيين.

غير بعيد عن أبوظبي، اتخذت الرياض موقفا مشابها حين رفضت إدانة الغزو الروسي واكتفت باستنكار العنف والدعوة إلى تفعيل الجهود الدبلوماسية وإيجاد حلّ سلمي بين أطراف النزاع.

عززت المملكة العربية السعودية، والتي كانت تعتبر من أبرز الحلفاء التقليديين لأمريكا في المنطقة، منذ مدّة من تعاونها العسكري مع موسكو. في سبتمبر من العام الماضي وقعت المملكة اتفاقية مع روسيا لتطوير مجالات التعاون العسكري المشترك بين البلدين، تعاون يزعج واشنطن فالسعودية اليوم تغيّرت أولوياتها واحتياجاتها، لذلك فهي في حاجة إلى مزيد من الانفتاح على محور الصين-روسيا بالخصوص (وكانت واشنطن قد أبدت مخاوفها من برنامج صيني لتطوير الصواريخ الباليستية السعودية أواخر العام الماضي).

كلّ من السعودية والإمارات حريصتان على استقرار وتوازن أسواق البترول والتزام المملكة باتفاق ” أوبك بلس” كما جاء في الاتصال الهاتفي بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون آخر شهر فيفري. للإشارة، فإن منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي للشرق الأوسط بريت ماكغورك ومبعوث وزارة الخارجية لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين قدما في زيارة رسمية للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للضغط على مسؤولي البلدين الخليجيين لرفع إنتاج النفط الخام (منتصف شهر فيفري الماضي) لكن الطلب جوبه بالرفض وعبرّت كلّ من الرياض وأبو ظبي عن التزامهما باتفاق أوبك بلس الذي يجمعهما مع موسكو.

تبع موقف قطر، كدولة طاقية، الحسابات الجيوسياسية نفسها، حيث لم تعبر صراحة عن إدانتها للتدخل العسكري الروسي بل اكتفت بالدعوة إلى الحوار وتهدئة الأوضاع.

عزّزت قطر، رغم علاقاتها القوية مع الولايات المتحدة الأمريكية خاصة في الملف الأفغاني مؤخرا، العلاقات الثنائية التي تجمعها بموسكو خلال السنوات القليلة الماضية، يكفي أن نذكر أن التبادل التجاري بين البلدين ارتفع بنسبة 47 % سنة 2020.

 

على مستوى الملف السوري، يبدو أنّ تبعات التركيز العسكري الروسي على النزاع مع كييف ستكون سلبية على الجانب الأمني في دمشق. لا ننسى أن انخراط الروس في الحرب الدائرة بسوريا ساهم بشكل كبير في انحسار الوجود العسكري لفصائل المعارضة والحركات الجهادية، فمنذ 2015 بدأ النظام السوري في التقاط أنفاسه بعد طول انهاك.

مع بدء الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، لوّحت موسكو بخفض التنسيق مع عدّة دول منافسة داخل سوريا، وبالتنسيق مع أنقرة لضمان تهدئة طويلة المدى على مستوى إدلب إضافة إلى التنسيق مع سلاح الجو الإسرائيلي قبل تنفيذ غارات تستهدف الوجود الإيراني في سوريا.

من المؤكد أن تخفيض الوجود العسكري الروسي، إن حدث، سيثير مطامع عدة مجموعات مسلحة في فتح جبهات قتالية جديدة وسيخدم طبعا الحضور الإيراني داخل سوريا، ممّا سيخلق توترات أمنية في الشرق الأوسط عموما.

 

غير بعيد عن دمشق، تتعرّض القاهرة لضغوطات أمريكية كبيرة قصد إدانة الغزو الروسي بشكل صريح والمشاركة في الجهود الغربية لتقويض الاقتصاد الروسي. وقد سبق لواشنطن أن حذّرت المصريين من فرض عقوبات قاسية إن مضوا قدما في التزود بأنظمة دفاع جوي من موسكو. مصر وخلافا للدول الخليجية المصدّرة للطاقة، تواجه تحديّا آخر ألا هو المتعلق بالأمن الغذائي. إذ أنها وهي التي تعاني الجفاف، الذي زاد سد النهضة الأثيوبي في تأزيمه، تستورد قرابة 90 % من الحبوب من روسيا. ورغم أنّ المخزون الحالي يكفي لمدّة أشهر إلا أنّ إطالة مدّة الحرب وخاصّة العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، وأبرزها منع موسكو من استغلال نظام سويفت المالي وبالتالي تعطّل منظومة المدفوعات هذا إلى جانب غلق تركيا مضيق الدردنيل أمام السفن الروسية. كلّ ذلك سيؤثر بشكل كبير على أسعار المواد الغذائية وحتّى على استحالة التزوّد بها بأي ثمن، ومن المرجّح أن ترتفع أسعار الحبوب في العالم بنسبة تصل إلى 100%، فحسب آخر الأرقام بلغ سعر القمح العادي 311 يورو للطن بزيادة حوالي 12% مقارنة بالشهر الماضي؟

وضع تونس وبقية دول شمال أفريقيا وحتى لبنان (التي أعلنت أنّ مخزونها من الحبوب يكفي لمدّة شهر وحيد) لا يختلف كثيرا عن الوضع المصري فأيّ اضطراب في حصّتي روسيا وأوكرانيا من صادرات الحبوب ستكون له عواقب وخيمة على الأمن الغذائي في هذه البلدان وسيؤدي حتما إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية المتردية بطبعها.

تنويع الواردات والعمل على تقليصها ضروري لتفادي مثل هذه الأزمات، بذلك يمكن للدول أن تؤمن احتياجاتها حتّى أثناء حدوث نزاعات. هذا الخوف من تأثر نسق استيراد المواد الغذائية جعل هذه الدول تمتنع عن الإدلاء بأي مواقف من الحرب الجارية على الأراضي الأوكرانية.

 

ختاما، تبدو واشنطن مغيّبة بصفة كبيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لصالح الامتداد الصيني-الروسي فأمريكا التي غيّرت من أولوياتها وانسحبت من أفغانستان والعراق وسوريا تاركة الباب مفتوحا على مصراعيه أمام خصميها الرئيسيين، أدركت بشكل متأخّر أنّها ارتكبت أخطاء فادحة في تقدير المواقف وتريد أن تستغل هذه الأزمة الروسية الأوكرانية لكسب ودّ حلفاء قدماء-جدد.

أمريكا التي تعتبر نفسها القوّة السياسية الأولى في العالم، لا تقبل أن تخسر مزيد من الحلفاء ولمصلحة من؟ لمصلحة التنين الصيني أكبر منافس اقتصادي والدب الروسي أكبر منافس عسكري. لذلك فمن المتوقع أن تلعب واشنطن ورقة العقوبات الاقتصادية ضدّ الدول التي ستعزز أكثر من تعاملها العسكري خاصة مع بكين وموسكو.

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights